• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

العنوان السابع : في خصوصيات زيارته التي هي أعظم الوسائل الحسينيّة

العنوان السابع
في خصوصيات زيارته التي هي أعظم الوسائل الحسينيّة
وهي تُذكر في أبواب :
الباب الأوّل : في فضائلها الخاصة ، وهي من جهات عديدة .
الباب الثاني : في فضيلة خاصة تُذكر وحدها مستقلة لامتيازها .
الباب الثالث : في الصفات الخاصة الحاصلة للزائرين .
الباب الرابع : في صفة خاصة للزائرين ، تُذكر وحدها لامتيازه .
الباب الخامس : في أحكامها الشرعية .
الباب السادس : في شروطها وآدابها الشرعية .
الباب السابع : في الآثار المترتّبة على تركها .
الباب الثامن : في زياراته المخصوصة بالأوقات .
الباب التاسع : في الأبدال المجعولة بالأوقات .
الباب التاسع : في الأبدال المجعولة لزيارته لطفاً من الله .
الباب العاشر : في الخطابات المخصوصة به في الزيارات .
الباب الحادي عشر : في بيان زوّاره قبل شهادته .
الباب الثاني عشر : في بيان زوّاره بعد شهادته .

الباب الأوّل : في فضل الزيارة الخاصة
وهي من إحدى عشرة جهة :

الجهة الأولى : الجامعية
اعلم أنّ الله سبحانه قد اقتضت حكمته البالغة أن يكلّف عباده بأعمال خاصة ؛ واجبات ، ومندوبات ، لها في حصول التقرب إليه آثار خاصة ، نحو الأغذية للأبدان بالنسبة إلى طعومها وخواصها فلا يغني أحدها عن الآخر ؛ ولذا ذكر بعض المحقّقين أنّه لا ينبغي أن يطلب الإنسان الأفضل من العبادات المندوبة ويقتصر عليها ؛ لفوات الخصوصيات .
وقد خصّ هذه الطاعة بأن جمع لها خواص كلّ عبادة واجبة ومندوبة ، قولية وفعلية ، بدنية وقلبية وإن لم يسقط التكليف بواجباتها فإنّ ذلك أمراً آخر .
أمّا الصلاة التي هي أفضل الأعمال وعمود الدين فحصولها بطريقين :
الأوّل : ما يتحصّل من الصلوات عند قبره إذا زرته ، وتضاعفها بلا نهاية .
الثاني : ما يحصل بصلوات سبعين ألفاً من الملائكة ، الذين تعدل صلاة كلّ واحد منهم صلاة ألف من الآدميين ، كما في الروايات ؛ فإنّهم يصلّون عند قبره ، وثواب صلاتهم للزائرين له .
وأمّا الزكاة : فإنّه يحصل له بكلّ زيارة ثواب ألف زكاة متقبلة ، كما في الرواية .
وأمّا الحج : الذي هو أفضل الأعمال حتّى من الصلاة ، فإنّ فيه صلاة أيضاً ، وقد ورد إنّها حجّة واحدة واثنتان ، وعشر وعشرون ، واثنتان وعشرون ، وثمانون ومئة ، ومئة وألف ، وكلّ خطوة بحجّة ، وكلّ رفع قدم بعمرة.
وفي رواية بشير الدهان في زيارة عرفة : ( إنّ الرجل منكم ليغتسل على شاطئ الفرات ثمّ يأتي قبر الحسين (عليه السّلام) عارفاً بحقّه فيعطيه الله تعالى بكلّ قدم يرفعها ويضعها مئة حجّة مقبولة ، ومئة عمرة مبرورة ) .
وقد زادت هذه المعادلة في بعض الروايات بكون الحجّة مع رسول الله المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، ففي بعضها حجّة مع
الرسول مقبولة زاكية . وفي بعضها اثنتان كذلك ، وبعضها عشر ، وفي بعضها ثلاثون مع الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) متقبّلة زاكية ، وفي بعضها خمسون معه ، وفي بعضها مئة معه (صلّى الله عليه وآله) ، ثمّ قد زادت المعادلة زيادة أعجبت العقول ، وهي أنّها تبلغ حجّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) بنفسه ، لا الحجّ معه ، لا واحدة من حججه (صلّى الله عليه وآله) فقط بل أزيد ، وذلك في رواية عائشة وقد ذُكرت سابقاً ، وفي آخرها قال المصطفى (صلّى الله عليه وآله) : (( مَنْ زاره كتب الله له تسعين حجّة من حججي بأعمارها )) .
وهذا الاختلاف محمول على اختلاف مراتب الزائرين بحسب قوّة إيمانهم ، ودرجات معرفتهم بالله (عزّ وجلّ) وبحقّ النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليه السّلام) ، وبحقّ الحسين (عليه السّلام) بالخصوص ، ومقدار اليقين بفضيلته وخصائصه التي من جملها خصوصية قوله (صلّى الله عليه وآله) : (( وأنا من حسين )) .
فيتفرّع على ذلك ببعض الوجوه أنّ زيارته تعادل حجّ النبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولعلّ من جملة الوجوه أنّ زيارته تعادل حجّ النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، ولعلّ من جملة الوجوه للمعادلة بحجّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ الزائر إذا توجّه إليه شوقاً وحبّاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقد حجّ البيت الحقيقي لله تعالى بقلب يناسب قلب النبي (صلّى الله عليه وآله) في حبّه ، ويرتبط به لذلك .
فإذا حضر عند قبره ، أو وجّه قلبه إليه من بُعد البلاد ، وزاره بكربة قلبه لِما جرى عليه فكأنّه قد قصده بقلب النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فإذا كان قلب النبي (صلّى الله عليه وآله) يرقّ عليه حين يركب على ظهره وهو ساجد ، وينزل من على ظهره برفق إلى الأرض ؛ فليتصوّره زائره حين يقع الحسين (عليه السّلام) على الأرض بضربة رمح من صالح بن وهب المزني ، وليجبر قلبه بسلامه عليه ، ويتحفه بذلك ، فيكون كقصد النبي (صلّى الله عليه وآله) إيّاه كذلك .
وحيث إنّ الحسين (عليه السّلام) أعظم وأكرم على الله تعالى من البيت بفضيلة تصل إلى التسعين ، وبتفاوت درجات الإيمان ، والوقوف على التسعين من الأسرار التي خُصّت بالنبي (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) .
وأمّا الصدقة ، فإنّ في زيارته ثواب ألف صدقة مقبولة ، كما في الرواية الصحيحة .
وأمّا الصوم ، فإنّ في زيارته ثواب ألف صائم ، كما في الحديث الصحيح .
وأمّا الإعانة في سبيل الله تعالى فإنّ مَنْ زاره يكون كمَنْ حمل على
ألف فرس في سبيل الله مسرجة ملجمة .
وأمّا الجهاد والغزو ، فإنّ في زيارته أجر ألف شهيد من شهداء بدر ، بل ويحصل منها التشحط بدمه في سبيل الله .
وأمّا العتق ، فإنّ في ثواب زيارته عتق ألف نسمة اُريد بها وجه الله ، وقد ورد أنّ مَنْ زار قبر الحسين (عليه السّلام) ماشياً كتب الله بكلّ قدم يرفعها وكلّ قدم يضعها عتق رقبة من ولد إسماعيل .
وأمّا الذكر والتسبيح ، فقد ورد أنّ الله يخلق من عرق زوّار الحسين (عليه السّلام) كلّ عرقة سبعين ألف ملك يُسبحون الله ويُقدّسونه ، ومنها التسبيح والتهليل والذكر بغير ذلك ، وفي زيارة الحسين (عليه السّلام) إدراك ثواب الذاكرين لله تعالى من الملائكة المقرّبين .
ومنها : الصلّة للرحم والإحسان إلى أهل الإيمان ، وزيارته صلّة لرحم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي هو الوالد الحقيقي ، وإحسان إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من وُلد الحسين (عليه السّلام) ، وإحسان إلى الحسين (عليه السّلام) الذي هو الإحسان .
ومنها : الإطعام في يوم ذي مسغبة ، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة إذا زرته بقولك : السّلام على المطروح بالعراء .
ومنها : الزيارة للمؤمن ، والسّلام عليه وإكرامه ولو بمتكأ ، أو مجلس ، أو تعظيم ، وهذا سيد المؤمنين وزيارته إتحاف له بتحفة المحبة والتعظيم .
ومنها : القرض له قرضاً حسناً . وقد سمّى الله تعالى القرض للمؤمن المضطر قرضاً لله ، فإذا أقرضت إمام المؤمنين المضطر الغريب عن الوطن ، والذي هجره الناس كلّهم عن كلّ شيء ، حتّى بقي جسده لا يقربه أحد ، بقصدك إليه ، وإلى قربه وزيارته ، فهذا أعظم قرض لله ، وما أدري كيف يُضاعفه الله وماذا يبلغ الأجر الكريم الذي وعده لقرضه قرضاً حسناً .
ومنها : عيادة المريض . وقد جعل الله عتاب تركها أن يقول لتاركها : عبدي قد مرضت ما عدتني ، وزيارة الحسين (عليه السّلام) إذا تأمّلت في حقيقتها فهي عبادة ، وليست عيادة مريض أُصيب بحمّى أو بصداع لتتفقد حاله ، وإنّما هي عيادة لجريح عطشان ، لا بل عيادة لمكروب لهفان ، لا بل عيادة للمرضضة أعضاؤه ،
وقد ذكرت الزهراء (عليها السّلام هذا المضمون في زيارتها له وهي على قبره في الرؤيا الصحيحة :
أيّها العينان فيضا     واستهلاّ لا تغيضا
وابكيا بالطفّ ميتاً     ترك الصدرَ رضيضا
لم أمرّضهُ قتيلاً     لا ولا كانَ مريضا

فإذا قصدته عند قبره فاقصد عيادته فكأنّك مرّضته قتيلاً ، وعدته مطروحاً ، وإذا دخلت روضته ترى ذلك في تأثيرات النظر إلى قبره الشريف .
ومنها : التجهيز للمؤمن خصوصاً الغريب : وفضله لا يُحصى ، وزيارة قبر الحسين (عليه السّلام) تشييع للجنازة المطروحة ، وغسل وتكفين للبدن العاري ، ودفن في القلب ، فتُحصّل له قبراً باطناً إذا توجهت إليه عند قبره (عليه السّلام) .
ومنها : إدخال السرور في قلب المؤمن : الذي هو أفضل الأعمال وهو المثال عند جميع الأهوال ، وقد ورد في زيارته عن الصادق (عليه السّلام) : (( لو يعلم زائر الحسين ما يدخل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وما يصل إليه من الفرح ، وإلى أمير المؤمنين وإلى فاطمة وإلى الأئمّة (عليهم السّلام) والشهداء منّا أهل البيت ، وما يُصيب من دعائهم له في ذلك من الثواب في العاجل والآجل ، والمذخور له عند الله تعالى ، لأحبّ أن يكون ما ثمّ داره )) .
بيان : قوله : ما ثمّ داره (بالثاء المثلثة أو بالتاء المثناة) ، ومعناه على الأخير ما تمّ في داره ، يعني ما استقر في داره .
ومنها : زيارة الحسين (عليه السّلام) .
ومن العجائب أنّه تحصل بزيارة الحسين (عليه السّلام) زيارة الحسين (عليه السّلام) ، بل بزيارته مرّة زياراته إلى يوم القيامة ، وذلك في رواية صحيحة عن صفوان سنذكرها بعد ذلك .
الجهة الثانية : انقسام الخواصّ والفضائل على حالات الزائر ؛ فإنّ زائره ينال في كلّ حالة من حالاته فضيلة تفوق الفضائل ، وقد جمعت من الأحاديث الصحيحة المعتبرة وهو ست عشرة فضيلة :
في ست عشرة حالة :
الأوّلى : إذا همّ بزيارته : قال الصادق (عليه السّلام) : (( إنّ لله ملائكة موكّلين بقبر الحسين (عليه السّلام) ، فإذا همّ الرجل بزيارته أعطاهم الله ذنوبه ، فإذا خطا محوها ، ثمّ إذا خطا ضاعفوا له حسناته ، فلم تزل حسناته تضاعف حتّى توجب له الجنّة ، وإذا اغتسل حين همّ بزيارته ناداه محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) : يا وافدا لله تعالى أبشر بمرافقتي في الجنّة ، وناداه علي المرتضى (عليه السّلام) أنا ضامن لقضاء حوائجكم ، واكتنفا عن يمينه وشماله حتّى ينصرف )) . هذا لفظ الرواية عن الصادق (عليه السّلام) .
الثانية : إذا أخذ في جهازه تباشر به أهل السماء .
الثالثة : إذا أنفق في جهازه يعطيه الله تعالى بكلّ درهم أنفقه مثل أُحد من الحسنات ، ويخلف عليه أضعاف ما أنفق ، ويصرف عنه من البلاء ممّا قد نزل ليصيبه .
وفي رواية ابن سنان يجبّ لهم بالدرهم ألف وألف وألف حتّى عدّ عشرة ، ثمّ قال : ورضا الله خير له ، ودعاء محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وأمير المؤمنين ودعاء الأئمّة (عليهم السّلام) خير له .
الرابعة : إذا خرج من منزله شيّعه ستمئة ملك في جهاته الست .
الخامسة : إذا مشى لا يقع قدماه على شيء إلاّ دعا له ، فإذا خطا كان له بكلّ خطوة خطاها ألف حسنة ، وإذا كان في سفينة وانكفأت بهم نودوا ألا طبتم وطابت لكم الجنّة ، وإذا رفعت دابته يدها كان له
بكلّ يد رفعتها ألف حسنة .
السادسة : إذا أصابته الشمس أكلت ذنوبه كما تأكل النار الحطب ، كما عن الصادق (عليه السّلام) .
السابعة : إذا عرق من الحرّ أو التعب ، فقد روي في المزار الكبير : أنّه يخلق من عرق زوّار الحسين (عليه السّلام) في كلّ عرقة سبعون ألف ملك يسبّحون الله ويستغفرون لزوّار الحسين (عليه السّلام) إلى أن تقوم الساعة .
الثامنة : إذا اغتسلوا بماء الفرات للزيارة تساقطت ذنوبهم ، ثمّ ناداهم محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) : (( يا وافداً لله تعالى ، أبشر بمرافقتي في الجنّة )) . ثمّ ناداهم علي أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( أنا ضامن لقضاء حوائجكم ورفع البلاء عنكم في الدنيا والآخرة )) .
التاسعة : إذا مشى بعد الغسل كتب الله تعالى له بكلّ قدم يرفعها أو يضعها مئة حجّة مقبولة ، ومئة عمرة مقبولة ، ومئة عزوة مع نبي مرسل إلى أعدى عدوّ له .
العاشرة : إذا دنا من كربلاء استقبلته أصناف الملائكة ، منهم الأربعة آلاف جاؤوا لنصرته يوم عاشوراء ، ثمّ اُمروا بمجاورة قبره ، ومنهم سبعون ألفاً ، ومنهم أعداد اُخر ، قد ذكرنا تفصيلها في عنوان ما يتعلّق بالملائكة .
الحادية عشرة : إذا زار القبر نظر إليه الإمام الحسين (عليه السّلام) ثمّ دعا له ، ثمّ يسأل أباه وجدّه أن يستغفروا له ، ثمّ تدعوا له الملائكة ، ثمّ يدعو له جميع الأنبياء والرسل ، ثمّ يكتب له جميع ما ذكرنا من ثواب مجموع العبادات ، ثمّ تصافحه الملائكة ، ثمّ يوسم بوجهه من نور العرش ، هذا زائر ابن خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) وسيد الشهداء (عليه السّلام) .
الثانية عشرة : إذا رجع إلى أهله شيّعته أصناف من الملائكة ، فيشيّعه بالخصوص جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ، ويشيّعه الأربع آلاف ، ويشيّعه السبعون ألفاً ، ويشيّعه بالخصوص ملكان ، فإذا انصرف ودعّاه وقالا له : يا ولي الله مغفور لك ، أنت من حزب الله ، وحزب رسوله (صلّى الله عليه وآله) وحزب أهل بيته (عليه السّلام) . والله ، لا ترى النار بعينك أبداً ، ولا تراك ولا تطعمك أبداً ، ثمّ ناداه منادٍ : طوبى لك ، طبت وطابت لك الجنّة .
الثالثة عشرة : إذا مات بعد ذلك بسنة أو سنتين شهدوا جنازته ، واستغفروا له بعد موته ، ثمّ يزوره الحسين (عليه السّلام) ،
وزيارته يمكن أن تكون أوّل الموت ، أو عند وضعه في القبر ليلة الوحشة .
فيا غرباء القبور ، يا أهل الوحدة فيه ، يا أهل الوحشة فيه ، يا مَنْ يعلم أنّه إذا خرجت روحه فلا يزوره أحد زيارة مواجهة ، بل لو زارك شخص يقف عليك بفاصلة ذراعين من الطين بينك وبينه ، يا مَنْ تنقطع الصلة بينه وبين الناس جميعاً فلا يراهم ولا يرونه .
إذا زرت الحسين (عليه السّلام) فإنّه يجيء إليك في ذلك الوقت ، مجيء مواجهة تراه ويراك ، فهل تحتمل أن تبقى في قلبك ـ بعد زيارته لك وقوله لك : السّلام عليك ـ وحشة أو خوف أو كربة ؟!
وبمقدار زيارتك له وتكرارها ، وشوقك إليه وتعلّقك به ، وإدخال السرور على قلبه ، وموالاته بصدق قولاً وعملاً ، سوف يزورك ويؤنسك في وحشتك .
اللّهمّ يسّر لنا سُبل رضوانك وحبّك ومعرفتك يا كريم .
الرابعة عشر : إذا مات في طريق الزيارة ، فقد ورد عن الصادق (عليه السّلام) أنّه قال : (( تشيّعه الملائكة وتأتيه بالحنوط ، والكسوة من الجنّة ، وتصلّي عليه إذا كُفّن ، وتكفّنه فوق أكفانه ، وتفرش له الريحان تحته ، وتدفع الأرض حتّى تصوّر من بين يديه مسيرة ثلاثة أميال ، ومن خلفه مثل ذلك ، وعند رجليه مثل ذلك ، وعند رأسه مثل ذلك ، ويُفتح له باب من الجنّة إلى قبره ، ويدخل عليه روحها وريحانها حتّى تقوم الساعة )) .
الخامسة عشرة : إذا حُبس وهو في طريقه أو ضُرب ، فقد ورد في ذلك عن الصادق (عليه السّلام) : (( أنّ له بكلّ يوم يحبس ويغتم فرحة إلى يوم القيامة )) . قلت له : فإن ضُرب بعد الحبس في إتيانه ؟ قال (عليه السّلام) : (( له بكلّ ضربة حوراء ، وبكلّ وجع يدخل عليه ألف ألف حسنة ، ويُمحى بها عنه ألف ألف سيئة ، ويُرفع له بها ألف ألف درجة ، ويكون من محدّثي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى يفرغ من الحساب ، ويُصافحه حملة العرش ، ويُقال له : سل ما أحببت .
ويؤتى بضاربه للحساب فلا يُسأل عن شيء ، ولا يُحتسب بشيء ، ويؤخذ بضبعيه أي بعضديه حتّى ينتهي به إلى ملك يحبوه أي يعطيه ويتحفه بشربة من الحميم
وشربة من الغسلين ، ويوضع على جبال في النار ، ويُقال : ذق ما قدّمت يداك فيما أتيت إلى هذا الذي ضربته ، والمتضرر من سبيل الحسين (عليه السّلام) هو وفد الله تعالى ووفد رسوله (صلّى الله عليه وآله) ، ويؤتى به إلى باب جهنم ويُقال انظر إلى ضاربك وما قد لقي ، فهل شفيت صدرك ؟ وما قد اقتُص لك منه ؟ فيقول : الحمد لله الذي انتصر لي ولولد رسوله منه )) .
السادسة عشر : إذا قُتل في سبيله ، فقد ورد في الحديث عن الصادق (عليه السّلام) أنّه قال : (( أوّل قطرة من دمه يُغفر له بها كلّ خطيئة ، وتُغسل طينته التي منها خلق الملائكة حتّى تخلص كما خلصت الأنبياء والمخلصين ، ويذهب عنها ما كان خالطها من أجناس طين أهل الكفر ، ويُغسل قلبه ويُشرح صدره ويُملأ إيماناً ، فيلقى الله تعالى وهو مخلص من كلّ ما تُخالطه الأبدان والقلوب ، وتُكتب له الشفاعة في أهل بيته ، ولألف من إخوانه ، وتُولّى الصلاة عليه الملائكة مع جبرئيل وملك الموت ، ويؤتى بكفنه وحنوطه من الجنّة ، ويوسّع قبره عليه ، وتُوضع له مصابيح في قبره ، ويُفتح له باب من الجنّة ، وتأتيه الملائكة بالتحف من الجنّة ، ويُرفع ثمانية عشر يوماً إلى حظيرة القدس .
فلا يزال فيها مع أولياء الله تعالى حتّى تُصيبه النفخة التي لا تُبقي شيئاً ، فإذا نُفخت النفخة الثانية ، وخرج من قبره كان أوّل مَنْ يصافحه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين(عليه السّلام) والأوصياء (صلوات الله تعالى عليهم) ، ويبشّرونه ويقولون له : الزمنا ، ويُقيمونه على الحوض ، فيشرب منه ، ويسقي مَنْ أحبّ )) .
الجهة الثالثة : إنّها تخلص من الذنوب تخليصاً خاصّاً ، قد عبّر عنه فيما يقرب إلى أربعين حديثاً من الصحاح المعتبرة ، بأنّه يغفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وفي أحاديث اُخرى إنّه يصير كيوم ولدته أُمّه ، وفي بعضها يُمحّص من الذنوب كما يُمحّص الثوب الوسخ في الماء .
ومن عجائب ذلك أنّه قد ورد في رواية أُخرى أنّ ذلك كلّه بأوّل خطوة ، ثمّ يُقدّس بكلّ خطوة بعدها ، ثمّ تبلغ مرتبته بأن يُناجيه الله بقوله : (( عبدي ، سلني أُعطك )) .
وفي رواية أنّه يجيئه ملك بعد صلاة الزيارة فيقول له : إنّ رسول الله (صلوات الله عليه وآله) يقرئك السّلام ويقول : (( قد غُفر لك ما مضى فاستأنف العمل )) .
الجهة الرابعة : إنّه يصير مع ذلك سبباً لخلاص غيره أيضاً ، ففي الرواية ، عن سيف التمار ، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : (( زائر الحسين (عليه السّلام) مشفّع يوم القيامة لمئة رجل كلّهم قد وجبت لهم النار )) .
الجهة الخامسة : إنّ كلّ عمل ينقطع وإن بقي ثوابه ، وزيارة الحسين (عليه السّلام) بحسب الوقوع أيضاً متّصلة إلى يوم القيامة لا تنقطع عن الزائر .
بيان ذلك : إنّه روى صفوان عن أبي عبد الله (عليه السّلام) : (( إنّ الرجل إذا خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين (عليه السّلام) شيّعه سبعمئة ملك من فوق رأسه ومن تحته ، وعن يمينه وعن شماله ومن خلفه حتّى يبلغوا به مأمنه ، فإذا زار الحسين (عليه السّلام) ناداه منادٍ : قد غُفر لك ، فاستأنف العمل . ثمّ يرجعون معه مشيّعين إلى منزله ، فإذا صاروا إلى منزله قالوا : استودعك الله تعالى . فلا يزالون يزورونه إلى يوم مماته ، ثمّ يزورون قبر الحسين (عليه السّلام) في كلّ يوم ، وثواب ذلك للرجل )) .
الجهة السادسة : إنّه يُدرك بها ما يستحيل وقوعه ، وهو ثواب الحجّ مع المصطفى محمّد (صلّى الله عليه وآله) وذلك في روايات عديدة ، ألطفها ما رواه موسى بن القاسم الخضرمي ، قال : قدم أبو عبد الله (عليه السّلام) في أوّل ولاية أبي جعفر ، وهو المنصور الدوانيقي الخليفة العباسي ، فنزل النجف ، فقال : (( يا موسى ، اذهب إلى الطريق الأعظم فقف على الطريق وانظر ، فإنّه سيجيئك رجل من ناحية القادسية ، فإذا دنا منك فقل له : ها هنا رجل من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يدعوك . فسيجيء معك )) .
قال : فذهبت حتّى أقمت على الطريق ، والحرّ شديد ، فلم أزل مقيماً حتّى كدت أعصي وأنصرف وأدعه ، إذ نظرت إلى شيء مقبل شبه رجل على بعير ، قال : فلم أزل أنظر إليه حتّى دنا منّي ، فقلت له : يا هذا ، ها هنا رجل من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يدعوك ،
وقد وصفك لي . قال : اذهب بنا إليه . فجئت به حتّى أناخ بعيره ناحية قريباً من الخيمة ، قال : فدعا به ، فدخل الأعرابي إليه ، فدنوت أنا فصرت إلى باب الخيمة اسمع الكلام ولا أراهما ، فقال أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( من أين قدمت ؟ )) .
قال : من أقصى اليمن .
قال : (( أنت من موضع كذا وكذا ؟ )) .
قال : نعم ، أنا من موضع كذا وكذا .
قال : (( فبما جئت ها هنا ؟ )) .
قال : جئت زائراً للحسين (عليه السّلام) .
فقال أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( فجئت من غير حاجة ليس إلاّ الزيارة ؟ )) .
قال : جئت من غير حاجة ليس إلاّ أن أُصلّي عنده وأزوره وأسلّم عليه وأرجع إلى أهلي .
قال له أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( وما ترون في زيارته ؟ )) .
قال : نرى في زيارته البركة في أنفسنا وأهلينا ، وأولادنا وأموالنا ، ومعائشنا وقضاء حوائجنا .
قال له أبو عبد الله : (( أفلا أُزيدك من فضله فضلاً يا أخا اليمن ؟ )) .
قال : زدني .
قال : (( إنّ زيارة أبي عبد الله (عليه السّلام) تعدل حجّة مقبولة زاكية مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) . فتعجب من ذلك ، فقال : (( أي والله ، وحجّتين مبرورتين زاكيتين مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) . فتعجب ، فلم يزل أبو عبد الله يزيد حتّى قال : ثلاثين حجّة مقبولة مبرورة زاكية مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
الجهة السابعة : إنّه يدرك بها ثواب ما يستحيل وقوعه في نفسه ، وهو أن يكون حجّك حجّ الرسول نفسه (صلّى الله عليه وآله) ، وقد ورد في رواية عن عائشة قد ذكرناها سابقاً .
الجهة الثامنة : إنّه قد حلف الله تعالى أن لا يُخيّب مَنْ زاره ، وذلك في رواية ابن محبوب عن أبي جعفر الباقر (عليهما السّلام) ، قال : (( إنّ الحسين (عليه السّلام) صاحب كربلاء قُتل مظلوماً عطشان لهفان ، فآلى الله (عزّ وجلّ) على نفسه أن لا يأتيه لهفان ولا مكروب ، ولا مذنب ولا مغموم ، ولا عطشان ولا به من عاهة ثمّ دعا عنده وتقرّب بالحسين (عليه السّلام) إلى الله تعالى إلاّ نفّس الله كربته ، وأعطاه مسألته ، وغفر ذنوبه ، ومدّ في
عمره ، وبسط في رزقه ، فاعتبروا يا أولي الألباب )) .
الجهة التاسعة : خصوصية مخصوصة هي لها نهاية المأمول ، وهي التي ورد في الرواية : أنّه إذا رآه الله ساهر الليل تعب النهار ، نظر إليه نظرة توجب له الفردوس الأعلى .
الجهة العاشرة : تأثيراتها الخاصّة :
فمنها : ما في الروايات الكثيرة من أنّها تزيد في الأعمار ، وتزيد في الأرزاق ، وورد في زيارة عرفة أنّها تورث الاطمئنان في العقائد الحقّة ، ورفع الشبهات ، وهذا الأثر أعلى من كلّ أثر ؛ فإنّ كلّ أثر يتوقّف عليه .
ومنها : إنّها تدفع مدافع السُوء وبعض ميتات السُوء .
ومنها : إنّه يدخل في مَنْ يضمنه النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وذلك في خمسة عشر حديثاً ، مضمونها أنّه ضمن لِمَنْ زاره أو أباه أو أخاه أو أُمّه أن يزوره يوم القيامة ويخلّصه من أهوالها وشدائدها .
الجهة الحادية عشر : غرائب فضائلها :
فمنها : إنّها أفضل من زيارة الإمام إذا كان حيّاً ، وزيارته في حياته ، فإذا كان الصادق (عليه السّلام) مثلاً حيّاً ، وذهبت لخدمته وتكلّمت معه وتكلّم معك ، فزيارة الحسين (عليه السّلام) الآن أفضل من ذلك ، كما إنّ ابن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) لمّا زرته : دعاني الشوق إليك أن تجشمت إليك على مشقّة . فقال لي : (( لا تشكّ بربّك تعالى ، فهلاّ أتيت مَنْ كان أعظم حقّاً عليك منّي ؟ )) . فكان قوله : فهلاّ أتيت مَنْ كان أعظم حقّاً عليك منّي ، أشدّ عليّ من قوله لا تشكّ بربّك ، قلت : ومَنْ هو أعظم عليّ حقّاً منك ؟
قال (عليه السّلام) : (( الحسين بن علي (عليه السّلام) ، ألا أتيت الحسين فدعوت الله تعالى عنده وشكوت إليه حوائجك ؟ )) .
ومنها : إنّ الباقر (عليه السّلام) كان يزور مَنْ قدم من زيارة الحسين (عليه السّلام) ، فروي عن حمران قال : زرت قبر الحسين (عليه السّلام) ، فلمّا قدمت جاءني أبو جعفر (عليه السّلام) ومعه عمرو بن علي بن عبد الله بن علي ، فقال لي أبو جعفر (عليه السّلام) : (( ابشر يا حمران ، فمَنْ زار قبور شهداء آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) يريد بذلك وجه الله تعالى خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمّه )) .
ومن عجائب فضلها إنّ لحظات الرحمة من الله تعالى لها خصوصية بالنسبة إلى زوّار الحسين (عليه السّلام) ، ففي الحديث بعد ذكر لحظات الرحمة الإلهية كلّ يوم ، قال : (( ويغفر لزائري قبر الحسين (عليه السّلام) خاصّة ، ولأهل بيته ولِمَنْ يشفع له يوم القيامة ، كائناً مَنْ كان وإن كان مستوجباً للنار )) .
ومن لطائف فضائلها أنّ لهم خصوصية في دخول الجنّة ، لا بدّ أن يدخلوها قبل أهل الجنّة بأربعين عاماً ، وأنّ كلّ شيء يتمسّح بزائره ، ويرجو في النظر إلى زائره الخير لنظره إلى قبره المبارك .
ومن غرائب فضائلها أنّه يظهر من كثير من الأخبار أنّ فضيلتها ما بُيّنت تمام البيان للناس ، ففي الرواية الصحيحة ، لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين (عليه السّلام) من الفضل لماتوا وتقطّعت أنفسكم عليها مرّات .
وفي رواية أُخرى : لو علموا فضائلها لأتوه حبواً من أقصى البلاد .

الباب الثاني : في فضيلة خاصّة للزيارة تُذكر وحدها لامتيازها
وبيانها يحتاج إلى مقدّمة :
اعلم أنّ جميع ما يُذكر في ثواب الأعمال وخواصها فإنّما ذلك لبيان مقتضاها من حيث هي ، كما في خواص الأدوية ، ولكلّ منها موانع تدفع مقتضاها ، وذلك لا ينافي ثبوت الخاصية ، فالسكنجين مثلاً قاطع للصفراء ، فإذا لم يقطع الصفراء لعروض المانع فيما يؤكل قبله أو بعده ، أو لانقلاب في المزاج فلا ينافي كونه قاطعاً للصفراء .
فجميع ما يُذكر في فضائل الأعمال والأدعية ونحوها ، قد تُقابلها موانع تدفع خاصيتها وترفعه ، والمانع قد يدفع أثرها بالكلية ، وقد يبقى منه شيء ، وبذلك يختلف حال الناس في محشرهم فقد يكون لهم مقدار من الإيمان والأعمال تنجيهم من العقاب في أوّل احتضارهم ، وقد تُنجي بعد عذاب الاحتضار ، وقد تُنجي بعد عذاب مدّة في البرزخ ، وقد تُنجي بعد البرزخ أوّل المحشر ، وقد تُنجي في أثناء يوم القيامة وفي أحد مواطنها ، وقد يغلب المانع فلا تحصل
النجاة إلاّ بعد عذاب البرزخ ، أو بعد عذاب المحشر أيضاً ، أو بعد عذاب جهنم أيضاً ، ثمّ تحصل النجاة ، وقد لا يتحقّق ذلك أيضاً لسلب الإيمان فيُخلد في النار والعياذ بالله تعالى ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من ذلك .
وهذا كلام جار في جميع الأعمال والمثوبات .
فإذا عرفت هذه المقدّمة فاعلم أنّ لزيارة الحسين (عليه السّلام) فضيلة خاصّة فاقت كلّ الفضائل ، وهي أنّه لو تحقّقت الموانع من تأثيراتها التي تقدّم ذكرها ، فلا يمكن ذهاب كلّ تأثيراتها ولو مع جميع الموانع ؛ لأنّ طرق التخليص بها ومحالّه كثيرة ، فكلّما حصل مانع من أحد تأثيراتها ، حصل مقتضٍ آخر لتأثير آخر ، وإذا حصل لها ـ أيضاً ـ مانع أو بطل بمقتضاه ، تحقّق مقتضٍ آخر .
توضيح هذا المطلب : إنّ كلاً من الأعمال المنجية قد قرر الله تعالى لظهور أثرها مقاماً خاصّاً من حالات النشأة البرزخية أو المحشرية ، فإذا منع مانع من ظهور الأثر في المحلّ المقرّر فلا جرم بطل الأثر بالكلية ، ولا يظهر ثانياً في مقام آخر من مواطن الاحتياج ، ولكن زيارة الحسين (عليه السّلام) لا يبطل أثرها ، وكلّما منعت الذنوب من تأثير لها في محلّ آخر ، من الاحتضار إلى بعد انقضاء يوم القيامة ، ودخول كلّ من المغفور والمعذب إلى محلّه(*) .
وتدلّ على هذا المطلب الروايات المجتمعة في فضل زيارته إذا لوحظ مفاد مجموعها من حيث المجموع . وقد صرّح بهذا المطلب في رواية عن الإمام الحسين (عليه السّلام) سنذكرها .
وقد بيّن هذا المطلب جابر بن عبد الله الأنصاري (رضوان الله تعالى عليه) ، حين توجّه إلى زيارة الحسين (عليه السّلام) يوم الأربعين وزاره بطريق خاصّ يُذكر في محلّه ، ثمّ أخذ يُبيّن فضل ذلك .
ومن جملة ما قال : أنّه إذا زلّت قدم محبّه وزائره من الذنوب في مقام ، ثبت له قدم آخر في مقام آخر .
فلنبيّن كيفية ذلك ، فنقول : إنّ زائر الحسين (عليه السّلام) إذا ترتبت على زيارته الآثار والفضائل الثابتة له من الجهات التي ذكرناها ، خرج من الدنيا كيوم ولدته أُمّه ، ووصل بذلك إلى أعلى
الدرجات الحاصلة للزائرين : ومن كونه في أعلى عليين ، أو من الكرّوبيين أو نحو ذلك ، فيا لها من فضيلة ونعمة جليلة !
وإن منعت كثرة الذنوب عن حصول هذه المراتب والجهات فمات مذنباً مؤاخذاً رجونا له أن يصلح أمره بزيارة الحسين (عليه السّلام) له عند وفاته ، وأوّل برزخه ، فإن تأخّر ذلك لخصوصية في عظمة ذنوبه رجونا له أن يزوره الحسين (عليه السّلام) في أيام برزخه ، ويكون التأخير والتعجيل في أيام البرزخ على ما هو مقرّر في القابليات والموانع .
وإذا سقط عن قابلية ذلك واشتدّت الموانع المقرّرة ، ظلّ معذّباً في أيام برزخه كلّها ، فإذا حُشر الناس ، وجاء النبي (صلوات الله تعالى عليه وآله) ، ومعه جبرئيل (عليه السّلام) يتصفحان وجوه أهل المحشر لانتخاب زوّار الحسين (عليه السّلام) ، ويعرفانهم بما وسم في جبهتهم بميسم النور ، هذا زائر خير الشهداء ، فمَنْ وجدا في سيماه ذلك ، أخذا بعضده وخلّصاه من أهوال القيامة وشدائدها .
فإذا لم يكن في الشخص قابلية لذلك أيضاً ، وقد محت ظلمة الذنوب ميسم هذا النور ، وانمحت تلك السطور في جبهته فبقي مبتلياً في المحشر ، فيحصل الرجاء بخلاصه بطريق آخر ، وهو أنه يُنادى يوم القيامة : أين شيعة آل محمّد . فيقوم عنق من الناس لا يحصيهم إلاّ الله تعالى ، ثمّ يُنادى : أين زوّار الحسين بن علي (عليهما السّلام) . فيقوم أُناس ، فيُقال لهم : خذوا بيد مَنْ أحببتم وانطلقوا بهم إلى الجنّة . فيأخذ الرجل بيد مَنْ أحبّ ، حتّى إنّه يقول له رجل من الناس : أنا قمت لك يوم كذا . فيأخذه غير مدافع .
وإذا لم تكن فيك هذه القابلية أيضاً ، ولا قابلية للأخذ بيدك فهنا رجاء لخلاصك بطريق آخر ، وهو حين يأتي نداء خاص آخر ، فقد ورد في الحديث المعتبر عن الصادق (عليه السّلام) قال : (( إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : أين زوّار الحسين (عليه السّلام) ؟ فيقوم عنق من الناس لا يحصيهم إلاّ الله تعالى ، فيقول لهم : ماذا أردتم بزيارة قبر الحسين (عليه السّلام) ؟ فيقولون : يا ربّ ، أتيناه حبّاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وحبّاً لعلي وفاطمة (عليهما السّلام) ، ورحمة له ممّا ارتُكب منه ، فيُقال لهم : هذا محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله تعالى عليهم) ، فالحقوا بهم فأنتم معهم
في درجتهم ، الحقوا بلواء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . فيكونوا في ظلّه ، وهو في يد علي (عليه السّلام) حتّى يدخلوا الجنّة جميعاً فيكونوا أمام اللواء ، وعن يمينه وعن يساره ومن خلفه )) .
أقول : يا معشر المذنبين ، إذا كنتم من زوار الحسين (عليه السّلام) ، وسقطتم عن قابلية أن يجيء إليكم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وجبرئيل الملك (عليه السّلام) ، ويأخذا بأعضادكم للنجاة من الأهوال يوم القيامة ، وأن تأخذوا بيد أحد فتدخلوه الجنّة ، فأجيبوا هذا النداء ، وقوموا أنتم بأنفسكم والتحقوا باللواء بعد أن يؤذن لكم ، ولو خلفه أو آخر مَنْ يكون خلفه .
وإذا لم تحصل القابلية ، ولم يأت أحد يأخذ بيدك ، ولم تكن لك قدرة لإجابة ذلك المنادي ؛ لكون الذنوب قد أثقلت ظهرك وطرحتك ، وقعدت بك أغلالك ، فلا تخيبن بعد من آثار زيارة الحسين (عليه السّلام) ووسائله أيضاً ، وانتظر لخلاصك حالة أُخرى تقع في المحشر ، هي حالة رجاء عظيمة .
بيانها : إنّ لفاطمة البتول (عليها السّلام) كيفية خاصة لمجيئها إلى المحشر ، فلها خصوصية في لباسها فهي في حلّة خاصّة اسمها (حلّة الكرامة) قد عُجنت بماء الحياة ، وعلى تلك الحلّة ألف حلّة من حلل الجنان ، مكتوب عليها بخطّ أخضر .
وكذلك لفاطمة الزهراء (عليها السّلام) خصوصية فيما جعل فوق رأسها من النور الإلهي ، كالقبّة يرى ظاهرها وباطنها من ظاهرها ، والتاج من النور له سبعون ركناً ، كلّ ركن مرصّع بالدرّ والياقوت ، يُضيء كما يُضيء الكوكب الدرّي .
ولها (عليها السّلام) خصوصية عند مجيئها راكبة إلى المحشر ، على ناقة من نوق الجنّة مدبّجة الجنبين ( أي مزيّنة الأطراف ) قوائمها من الزمرد الأخضر ، ذنبها من المسك الأذفر ، عيناها ياقوتتان حمراوان .
ولها خصوصية في خطام ناقتها ، وفي قائد الخطام ، وفي الهودج الذي على الناقة ، أمّا الخطام فمن لؤلؤ رطب ، وطوله فرسخ من فراسخ الدنيا ، والقائد جبرئيل (عليه السّلام) وهو آخذ يُنادي بأعلى صوته : (( غضّوا أبصاركم حتّى تجوز فاطمة
بنت محمّد (عليها السّلام) )) .
وأمّا الهودج فمن ذهب .
ولها خصوصية في المستقبلين لها من الجنان ، ففي الرواية : أنّه يستقبلها من الفردوس ألف حوراء لم يستقبلنَ أحداً قبلها ولا أحداً بعدها ، على نجائب من ياقوت أجنحتها وأزمّتها اللؤلؤ ، عليها رحائل من درّ ، على كلّ راحلة منها نمرقة ، أي وسادة ، من سندس ، وركائبها من زبرجد ، بيد كلّ واحدة منها محمرة من نور ، وعليهنَّ أكاليل الجواهر .
ثمّ تستقبلها مريم بنت عمران (عليها السّلام) في سبعين ألف حوراء ، ثمّ تستقبلها أُمّها خديجة الكبرى (عليها السّلام) في سبعين ألف ملك ، بأيديهم ألوية التكبير ، ثمّ تستقبلها حواء وآسية (عليهما السّلام) في سبعين ألف حوراء .
ولها خصوصية في مجلسها ؛ فإنّه يُنصب لها منبر من النور ، وفيه سبع مراقٍ ، بين المرقاة إلى المرقاة صفوف الملائكة .
ولها خصوصية فيما معها من ذلك الوقت ، ففي الروايات الكثيرة : أنّ معها ثياباً مصبوغة بالدماء ، وفي بعضها أنّ معها قميص الحسين (عليه السّلام) ، ملطخاً بدمه .
ولها خصوصية في كيفية تظلّمها ؛ فإنّه عند توسّطها أرض المحشر تقول (سلام الله تعالى عليها) : (( يا ربّ ، أرني الحسن والحسين (عليهما السّلام) )) . فيمتثل لها الحسين (عليه السّلام) قائماً ليس عليه رأس ، وأوداجه تشخب دماً ، فإذا رأته صرخت صرخة وزخّت نفسها من الناقة . ومعنى زخّه (بتشديد الخاء) أي دفعه . قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عند بيان هذا : (( وأصرخ لصرختها ، وتصرخ الملائكة لصراخنا )).
وفي بعض الروايات : يقبل الحسين (عليه السّلام) ورأسه بيده ، فإذا رأته شهقت (عليها السّلام) شهقة لا يبقى في الجمع ملك مقرّب ولا نبي مرسل ولا مؤمن إلاّ بكى ، ثمّ تأخذ في التظلّم وترفع القميص بيدها وتقول : (( إلهي ، هذا قميص ولدي )) .
أقول : وهذه الكيفية من خصائص الحسين (عليه السّلام) ، فإنّ يوم القيامة هو يوم الجزاء عمّا مضى في أيام الدنيا ، لكنّ الحسين (عليه السّلام) وحده يمتثل قائماً بلا رأس وأوداجه تشخب دماً كما اتّفق له (عليه السّلام) في الدنيا ، وهو الذي أحرق قلب الطاهرة الزهراء (عليها السّلام) بمظلوميته وخصائصه التي انفرد بها في تاريخ البشرية .
إضافة لما عليه (عليه السّلام) من خروق
السيوف والسّهام والرماح في آثار قميصه ، أو لأنّه سُلب من بدنه ؛ فإنّ ذلك أعظم من الجروح إذا تدبّرت المصاب ، فعند ذلك ينتقم الله تعالى ممّن قتل الحسين (عليه السّلام) وأولادهم ، وأولاد أولادهم الراضين بأفعال آبائهم ، بانتقامات من القتل مراراً ، ثمّ تخرج زبانية سود من جهنم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحبّ ، وتأخذهم إلى ما اُعدّ لهم في جهنم .
ثمّ إنّ لها (عليها السّلام) خصوصية في شفاعتها . قد ذكرنا الحديث لأجله وهي موضع حاجتنا ، فإنّها تُنادى حينئذ : يا فاطمة ، سلي حاجتك . فتقول (عليها السّلام) : (( يا ربّ ، شيعتي )) . فيقول الله تعالى : (( قد غفرت لهم )) . فتقول : (( شيعة شيعتي )) . فيقول الله تبارك وتعالى : (( انطلقي ، فمَنْ اعتصم بك فهو معك )) .
فتسير ، ويقوم كلّ هؤلاء يسيرون معها ، فيما مَنْ زار ولدها وساعدها في بكائه ووصلها ، إن لم يخلصك أخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) بيدك لعدم قابليتك ، ولا أمكنك النهوض عند نداء المنادي ، فإنّك لا تبقى في الشدائد عند هذه الحالة ؛ لوجود الشفاعة الفاطمية ، فإذا قالت : شيعتي ، شملتك ، وإن لم تشملك فقولها (عليها السّلام) : شيعة شيعتي ، وإن لم يشملك ذلك ، شملك قوله تعالى لها : مَنْ اعتصم بكِ ؛ فإنّ أشدّ الاعتصام بها زيارة ولدها الحسين (عليه السّلام) والبكاء عليه ، والاهتمام بما يتعلّق بالحسين (عليه السّلام) ، فلا أظنّك تبقى في أرض المحشر بعد مسيرها إلى الجنّة ، ولا تمشي معها (عليها السّلام) وأنت زائرٌ للحسين (عليه السّلام) .
فإذا خفت من شدّة تأثير ذنوبك مع ذلك ، فلا ينتابك اليأس في تلك الحالة ولا تظنن أنّك ستبقى بعدها في المحشر معذّباً مخلّداً ، وإن لم يكن مناص من أخذك إلى النار ، وابتلائك بها والعياذ بالله ، فإنّه لا بدّ أن يأتيك الحسين (عليه السّلام) وأنت في النار .
فإنّ هذا آخر أوقات زيارته لِمَنْ زاره ، فقد روي عنه (عليه السّلام) أنّه قال بعد قوله : (( مَنْ زارني زرته بعد وفاته )) : (( وإن وجدته في النار أخرجته )) . فهذه آخر حالة خلاص لأدنى الزائرين درجة ، وأعظمهم ذنباً ، والحمد لله ربّ العالمين .

الباب الثالث : من الصفات الخاصة الحاصلة للزائرين
وهي كثيرة :
منها : ما روي عن الصادق (عليه السّلام) من أنّ الله تعالى يباهي بزائر الإمام الحسين (عليه السّلام) حملة العرش وملائكته المقرّبين ويقول (جلّ وعلا) : ألا ترون زوّار قبر الحسين (عليه السّلام) أتوه شوقاً ؟
ومنها : أنّه ممّن نظر الله إليه بالرحمة .
ومنها : أنّه دليل المحبّة للحسين (عليه السّلام) كون الشخص زوّاراً له (عليه السّلام) أي كثير الزيارة .
ومنها : أن يكون ممّن يحدّثه الله تعالى فوق عرشه .
ومنها : ما في عشر روايات من أنّه يُكتب في عليين .
ومنها : أن يكون في الجنة في جوار النبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليه السّلام) . يأكل معهم على موائدهم .
ومنها : أنّه إن كان شقيّاً كُتب سعيداً .
ومنها : أنّه يُحسب من الكرّوبيين ومن سادة الملائكة .
ومنها : أنّه مساعد للزهراء (عليها السّلام) فإنّها تزور الحسين (عليه السّلام) كلّ يوم .
ومنها : أنّه يصبح كلّ واحد من وجهه وخده وعينه وقلبه محلّ دعاء الصادق (عليه السّلام) ؛ فإنّه كان يدعو وهو باك في سجوده ويقول : (( اللّهم ارحم تلك الوجوه التي تقلّبت على حفرة أبي عبد الله (عليه السّلام) ، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها ، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا ، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا )) .
ومنها : أنّ الزائر يصير وديعة للصادق (عليه السّلام) عند الله تعالى ؛ فإنّه كان يقول كثيراً : (( اللهّم إنّي استودعك تلك الأبدان حتّى توفيهم على الحوض عند العطش )) .
ومنها : أنّه زائر الله تعالى وزائر رسوله (صلّى الله عليه وآله) كما في الروايات .
ومنها : أنّ كلّ مَنْ له درجة يوم القيامة يتمنّى أيضاً أن يكون من زوار الحسين (عليه السّلام) ممّا يرى من كرامتهم الخاصة بهم .

الباب الرابع : في أجر عجيب وصفة خاصّة ممتازة يترتّبان على زيارته (عليه السّلام)
ينبغي إفرادهما بالذكر .
أمّا الأجر العجيب : فهو ما في رواية مروية بأسانيد معتبرة رواها الصدوق والسيد ابن طاووس والكفعمي ومؤلّف المزار الكبير ، وحاصلها : أنّ كاتب الأعمال الحسنة وأجرها يشتغل بالكتابة من حين عزم الشخص على الزيارة إلى يوم ينفخ في الصور فهي من الأعمال الصالحة المستمرة حقيقة لا حكماً ، وذلك من
أعلى أفراد الباقيات الصالحات ، وليس محض آثار حكمية كغيرها من الصدقات الجاريات والآثار اللاحقات ، وهذا كلّه علاوة على صفات خاصّة تحصل له حتّى بالنسبة إلى المتولّي لقبض روحه .
وممّا تنبهر له العقول ست عشرة فضيلة خاصة في كلّ واحدة منها كثر من مئة فضيلة .
أحدها إعطاء كفل من الرحمة في كلّ كلمة من الزيارة التي فيها . وأعجب من ذلك كلّه بعض أجرها وثوابها ، ففي الرواية الشريفة العجيبة أنّه سأل الصادق (عليه السّلام) أو جابر الجعفي : (( كم بينك وبين قبر الحسين (عليه السّلام) ؟ )) . قلت : بأبي أنت وأُمّي ! يوم وبعض يوم . قال : (( فتزوره ؟ )) . قلت : نعم ، جُعلت فداك ! فقال : (( ألا أُبشّرك ؟ ألا أُفرحك ببعض ثوابه ؟ )) . قلت : نعم ، جُعلت فداك !
قال (عليه السّلام) : (( إنّ الرجل منكم ليأخذ في جهازه ، ويتهيّأ لزيارته ، فيتباشر به أهل السماء ، فإذا خرج من باب منزله راكباً أو ماشياً ، وكّل الله تعالى به أربعة آلاف من الملائكة يصلّون عليه حتّى يوافي الحسين (عليه السّلام) . يا مفضّل ، إذا أتيت قبر الحسين (عليه السّلام) فقف بالباب وقل هذه الكلمات ؛ فإنّ لك بكلّ كلمة كفلاً من رحمة الله تعالى )) .
فقلت : ما هي جُعلت فداك ؟! قال (عليه السّلام) فتقول : (( السّلام عليك يا وارث آدم صفوة الله ، السّلام عليكم يا وارث نوح نبي الله ، السّلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله ، السّلام عليك يا وارث موسى كليم الله ، السّلام عليك يا وارث عيسى روح الله ، السّلام عليك يا وارث محمّد حبيب الله ، السّلام عليك يا وارث وصي رسول الله ، السّلام عليك يا وارث الحسن الرضي ، السّلام عليك يا وارث فاطمة بنت رسول الله ، السّلام عليك أيّها الشهيد الصدّيق ، السّلام عليك أيّها الوصيّ البر التقي ، السّلام عليك وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك ، وأناخت برحلك ، السّلام على ملائكة الله تعالى المحدقين بك ، أشهد أنّك قد أقمت الصّلاة وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، وعبدت الله تعالى مخلصاً حتّى أتاك اليقين ، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته .
ثمّ تسعى فلك بكلّ قدم رفعتها أو وضعتها كثواب المتشحط
بدمه في سبيل الله تعالى ، فإذا استلمت القبر فاستلمه بيدك وقل : السّلام عليكم يا حجّة الله تعالى في سمائه وأرضه .
ثمّ تمضي إلى صلاتك ، ولك بكلّ ركعة ركعتها عنده كثواب مَنْ حجّ واعتمر ألف حجّة وألف عمرة وأعتق ألف رقبة ، وكأنّما وقف الوقوف في سبيل الله(1) ألف مرّة مع نبي مرسل .
فإذا فرغت من عند قبر الحسين (عليه السّلام) ناداك منادٍ لو سمعت مقالته لأقمت عمرك عند قبر الحسين (عليه السّلام) وهو يقول : طوبى لك أيّها العبد ! قد غنمت وسلمت ، قد غُفر لك ما سلف فاستأنف العمل ، فإذا مات هو في عامه أو في ليلته أو يومه لم يلِ قبض روحه إلاّ الله تعالى ، ويقبل الملائكة معه ، ويستغفرون له ، ويصلّون عليه حتّى يوافي منزله ، فتقول الملائكة : يا ربّ هذا عبدك قد وافى قبر ابن بنت نبيّك ، وقد وافى منزله فأين نذهب ؟ فيناديهم النداء : يا ملائكتي ، قفوا عند قبر عبدي ، وسبّحوا وقدّسوا واكتبوا ذلك في حسناته إلى يوم القيامة )) .
وأمّا الصّفة الخاصّة التي تحصل للزائر بمقتضى الأخبار ، وينبغي ذكرها مستقلة فهي : أنّ مَنْ زار الحسين (عليه السّلام) فقد زار الله تعالى في عرشه ، وهو كناية عن نهاية القرب إلى الله تعالى والترقّي إلى درجة الكمال .
وفوق هذه الصّفة صفة أُخرى ، أنّه يدرك بها زيارة الربّ ؛ فإنّه قد ورد أنّه يزوره الله تعالى كلّ ليلة جمعة أدرك زيارة الربّ له ، وزيارته للربّ .
وزيارة الربّ له كناية عن إفاضة خاصة من الرحمة عليه في ذلك الوقت ، فمَنْ أدركها لا يمكن أن يصير محروماً منها ، ولا يتصوّر أن لا يناله نصيب منها ، وزيارته للربّ تعالى كناية عن نهاية القرب إليه ، فإذا اجتمعا حصلت له
خصوصية مرتبة من شمول الرحمة الإلهية .
وفي رواية أُخرى : أنّه مَنْ أراد أن ينظر إلى الله تعالى يوم القيامة فليُكثر من زيارة الحسين (عليه السّلام) .
فهذه ثلاث عبارات : زيارة الله تعالى ، والزيارة مع الله تعالى ، والنظر إلى الله تبارك وتعالى .
وهي عبارة عن نهاية ما يتصوّر للمخلوق من الترقّي إلى درجات القرب ؛ ولهذا جعلت هذه الصفة باباً مستقلاً فإنّها تقابل جميع القضايا وتفوق عليها .

الباب الخامس : في أحكام خاصة لزيارته
وهي كثيرة :
فمنها : أنّ كلّ عمل يسقط وجوبه أو استحبابه مع الخوف ، ولكن قد روي في هذا العمل روايات تدلّ على خلاف ذلك ، فقد عثرت على تسع روايات بأسانيد معتبرة رويت في البحار ، وغيرها عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنّه قال : (( يا معاوية ، لا تدع زيارة قبر الحسين (عليه السّلام) لخوف ؛ فإنّ مَنْ تركه يرى من الحسرة ما يتمنّى أنّ قبره كان عنده )) . أي تبلغ حسرته يوم القيامة إلى درجة أنه يقول : يا ليتني كنت مقيما عند قبره فأزوره حتّى يدركني الموت .
وفي رواية عاشرة : عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال : (( هل تأتي قبر الحسين (عليه السّلام) ؟ )) . قلت : نعم على خوف ووجل . فقال (عليه السّلام) : (( ما كان من هذا أشدّ ؛ فالثواب فيه على قدر الخوف ، ومَنْ خاف لخوفنا آمنه الله تعالى روعته يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، وانصرف بالمغفرة ، وزاره النبي (صلّى الله عليه وآله) ودعا له ، وانقلب بنعمة من الله لم يمسسهم سوء )) ، والحمد لله رب العالمين .
وفي رواية أُخرى : عن الأصم ، [عن] ابن بكير ، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : قلت له : إنّي أنزل الأرجان ( الأرجان مدينة إيرانية جنوب محافظة شيراز ) وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك ، فإذا خرجت فقلبي مشفق وجل حتّى أرجع ؛ خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المصالح . قال (عليه السّلام) : (( يابن بكير ، أما تحبّ أن يراك الله تعالى فينا خائفاً ؟ أما تعلم أنّه مَنْ خاف لخوفنا أظلّه الله تعالى في ظلّ عرشه ، وكان محدّثه الحسين (عليه السّلام) تحت العرش ، وآمنه من فزع يوم القيامة ، فإن فزع قوّته الملائكة وسكّنت قلبه بالبشارة )) .

الباب السادس : في شروطها وآدابها الشرعية
أمّا الشروط : فقد دلّت الروايات ـ زيادة على ما في سائر العبادات ـ على خصوصية في ذلك بأن تكون الزيارة خالصة لوجه الله تعالى ، وأن يكون محتسباً لا أشراً ولا بطراً ، ولا لسمعة أو عجب أو رياء .
فقد جاء أنّ مَنْ زار الحسين (عليه السّلام) محتسباً لا أشراً ولا بطراً ، ولا رياء ولا سمعة مُحصت عنه ذنوبه كما يُمحص الثوب بالماء ، أو تكون صلّة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أو تكون رحمة للحسين (عليه السّلام) ، فيقصد بها جبر ما ورد على قلبه الطاهر بزيارته تلك .
وتفاوتت التأثيرات بتفاوت المعرفة بحقّ الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فقد ورد في الروايات التقييد بكونه عارفاً بحقّ الإمام الحسين (صلوات الله تعالى عليه) .
وأمّا الآداب : ففي البحار وثواب الأعمال والتهذيب والكامل بأسانيد كثيرة معتبرة مستفيضة عن الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( إذا زرت أبا عبد الله (عليه السّلام) فزره وأنت حزين كئيب مكروب ، شعث مغبر ، جائع عطشان ؛ فإنّ الحسين (عليه السّلام) قُتل كئيباً حزيناً ، مكروباً شعثاً ، مغبراً جائعاً ، عطشانَ غريباً مضمّخاً بدمائه الزاكية )) .
وقال (عليه السّلام) : (( بلغني أنّ قوماً إذا زاروا الحسين (عليه السّلام) حملوا معهم السفرة فيها الحلاوة والأخبصة (وهي حلوى معروفة ) وأشباهه ، ولو زاروا قبور أحبائهم ما حملوا معهم هذا )) .
وفي رواية أُخرى : قال لهم (عليه السّلام) : (( تتخذون لذلك سفرة ؟ )) . قالوا : نعم . قال : (( لو أتيتم قبور آبائكم وأُمّهاتكم لم تفعلوا ذلك )) . قلت : أي شيء نأكل ؟ قال (عليه السّلام) : (( الخبز باللبن )) .
وفي الكامل بإسناد معتبر عن المفضّل ، قال : قال أبو عبد الله الصادق (عليه السّلام) : (( تزورون خير من أن لا تزوروا ، ولا تزوروا خير من أن تزوروا )) . قال : قلت : قطعت ظهري . قال (عليه السّلام) : (( تالله ، إنّ أحدكم ليذهب إلى قبر أبيه كئيباً حزيناً ، وتأتونه أنتم بالسفر ، كلاّ حتّى يأتونه شعثاً غبراً )) .
ومن الآداب: ما في كيفية زيارة جابر له ، وستأتي في كيفية زيارته في يوم الأربعين ، وأهم آدابها الغسل بماء الفرات .

الباب السابع : في الآثار المترتّبة على تركها
وهي كثيرة :
الأوّل : ما في رواية الحلبي عن الصادق (عليه السّلام) : (( إنّ مَنْ ترك زيارته وهو قادر على ذلك فقد عقّ رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله) وعقّنا )) .
الثاني : ما في رواية عبد الرحمن بن كثير عنه (عليه السّلام) ، قال : (( لو أنّ أحدكم حجّ دهره ثمّ لم يزر الحسين بن علي (عليهما السّلام) لكان تاركاً حقّاً من حقوق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) .
وفي أُخرى : (( لو أنّ أحدكم حجّ ألف حجّة ثمّ لم يأت قبر الحسين (عليه السّلام) لكان تاركاً حقّاً من حقوق الله تعالى )) .
وهنا لا ننسى الحديث النبوي الشريف الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء !
الثالث : ما في رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال : (( مَنْ لم يأت قبر الحسين من شيعتنا كان منتقص الإيمان ، منتقص الدين )) . وكذا غيرها من الروايات .
الرابع : إنّه جفاء للحسين (عليه السّلام) ، وكما في روايات كثيرة ، منها ما عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) حيث قال : (( بأبي الحسين المقتول في ظهر الكوفة ، كأنّي بالوحوش مادة أعناقها عليه ترثيه إلى الصباح ، فإذا كان كذلك فإياكم والجفاء )) .
الخامس : في رواية علي بن ميمون الصائغ ، أنّه قال : قال لي أبو عبد الله (عليه السّلام) : (( بلغني أنّ اُناساً من شيعتنا تمر بهم السنة والسنتان وأكثر من ذلك لا يزورون الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) )) .
قلت : جعلت فداك ! إنّي لأعرف اُناساً كثيرين بهذه الصفة .
فقال : (( أما والله لحظّهم أخطؤوا ، وعن ثواب الله تعالى زاغوا ، وعن جوار محمّد (صلّى الله عليه وآله) في الجنة تباعدوا )) .
قلت : فإن أخرج عنه رجلاً أيجزي عنه ذلك ؟
قال : (( نعم ، وخروجه بنفسه أعظم أجراً ، وخير له عند ربّه تعالى )) .
وقد ورد صدق هذه العناوين على القادر البعيد إذا تركه ثلاث سنين .
السادس : إنّه ينقص الأعمار كما في روايات كثيرة ، وفي بعض
الروايات : أنّ تركها مؤثّر في نقص سنة من العمر ، بنحو لا تخلف فيه .
السابع : إنّ تارك زيارته ( إن دخل الجنة فهو دون كلّ مؤمن ) على ما في رواية : ( ومن ضيفان الجنّة ) ، على ما في أُخرى و( بعيد عن جوار محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) )(2) .
الثامن : إنّه ليس بشيعة لهم (عليه السّلام) كما في رواية دالّة صراحة على ذلك رويت عن أحدهما ، عن الصادق (عليه السّلام) : (( مَنْ لم يأت قبر الحسين (عليه السّلام) وهو يزعم أنّه لنا شيعة حتّى يموت فليس هو لنا شيعة )) .
التاسع : إنّه من أهل النار ، ويُحمل على التارك تهاوناً واستخفافاً ، وقد مال المجلسيان إلى وجوبها على القادر في العمر مرّة واحدة لهذه الأخبار .

الباب الثامن : في زيارته المخصوصة بالأوقات
اعلم أنّ زيارة الحسين (عليه السّلام) خير موضوع ، فمَنْ شاء استقلّ الخير ، ومَنْ شاء استكثر الخير .
وهي على قسمين : مطلقة في كلّ الأوقات : ويترتب عليها ما ذكرناه من الخواص والفضائل . ومخصوصة بأوقات : تزيد فضيلتها بخصوصية الوقت على أصل الفضيلة المطلقة ، مع أنّه لا يتصوّر زيادة منها ، وهي تقرب إلى ثلاثين مخصوصة بالنسبة إلى الزمان والأوقات ، وخصوصيتها في زيادة الأجر معلومة ، ولكن لكلّ واحدة أيضاً أثر خاص ، وفضيلة خاصة ، نبيّنها عند ذكر كلّ واحدة .
الأولى : كلّ جمعة مرّة لِمَنْ كان بعيداً عنه بيوم ونحوه ، فإن تركه كان شديد الجفاء ، ومن خواص ذلك ما في رواية داود بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنّه يغفر له البتة ، ولم يخرج من الدنيا وفي نفسه حسرة . ومنها : ويكون مسكنه في الجنة مع الحسين بن علي (عليهما السّلام) .
الثانية : كلّ شهر مرّة ، فعن الصادق (عليه السّلام) قال : (( إنّ مَنْ زاره في كلّ شهر مرّة فله ثواب مئة ألف شهيد مثل شهداء بدر )) .
وقال : أمّا القريب فلا أقل من شهر ، فإن كان قريباً وتركه أكثر من شهر فقد سمّاه الحسين (عليه السّلام) بنفسه
جفاء وذلك في رواية عن عقبة .
الثالثة : كلّ سنة مرّتين ، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السّلام) : أنّه حقّ على الغني أن يأتيه في السنة مرّتين ، وفي رواية ثلاث مرّات .
الرابعة : كلّ سنة ثلاث مرّات ، وفيها مع خواص أصلها إنّها تؤمن من الفقر .
الخامسة : كلّ سنة مرّة ، فقد ورد في خمسة عشر حديثاً ، إنّها حقّ على الفقير القادر على الزيارة ، فإذا تركها سنة فهذا أوّل مراتب الجفاء للحسين (عليه السّلام) .
السادسة : كلّ ثلاث سنين مرّة للبعيد ، فإذا تجاوز الثلاث دخل في عقوق رسول الله المصطفى محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، اللّهمّ أعذنا من هذه الآفة والإثم الكبير .
السابعة : في كلّ عيد كما في بعض الروايات ، فيدخل فيه النيروز والمبعث والمولود والغدير وغير ذلك .
الثامنة : مخصوصات الشهور ، ولنذكر كلّ شهر على حدة ، ولكلّ منها فضائل كثيرة ، لكن نقتصر على ذكر خصوصية فضيلة كلّ شهر مخصوص .
فنقول : في شهر رجب الأصب أربع أو خمس : أوّل ليلة . وأوّل يوم ، وليلة النصف . ويومها ، وخصوصية فضلها زيادة على الثواب تساقط الخطايا كيوم ولدته أُمّه ، وفي أوّل رجب زيادة حتمية وهي المغفرة فإنّ الله تعالى قد أوجبها على نفسه تبارك وتعالى .
وفي شعبان ثلاث مخصوصات : يوم الثالث منه ، وليلة النصف ، ويومها ، وعمدة فضيلتها التشرّف بمصافحة مئة وأربعة وعشرين ألف نبي ، منهم أولوا العزم (صلوات الله تعالى عليهم) ، وإذا زاره ثلاث سنين متوالية في النصف من شعبان كان له تأثير خاص في رفع الذنوب زيادة على أصلها ، ومن خواصها أنّ المنادي ينادي بالمغفرة له من أوّل شعبان .
وفي شهر رمضان المبارك بخصوصه ، كما في رواية ابن الفضل قال : سمعت جعفر بن محمّد (عليهما السّلام) يقول : (( مَنْ زار قبر الحسين (عليه السّلام) في شهر رمضان ومات في الطريق لم يعرض ولم يُحاسب ، وقيل : ادخل الجنّة آمناً )) . ولا ننسى هنا الحديث ما مضمونه : أنّ مَنْ حوسب هلك . يعني كفى بالحساب من موقف مهول عظيم .
الثانية والثالثة والرابعة : أوّل ليلة
منه أي من شهر رمضان ، وليلة النصف ، وآخر ليلة منه ، كما في الرواية عن الصادق (عليه السّلام) .
والستة الأُخرى : ليالي القدر الثلاث ، وأيّامها ، ففي الروايات الكثيرة أنّه إذا كانت ليلة القدر التي يفرق فيها كلّ أمر حكيم ، ينادي منادٍ من بطنان العرش إلى السماء السابعة : إنّ الله (عزّ وجلّ) قد غفر لِمَنْ أتى قبر الحسين (عليه السّلام) .
وفي شهر شوال ، ليلة العيد ، ويومها ، وخصوصية فضيلته مغفرة الذنوب ما تقدّم وما تأخّر .
وفي شهر ذي الحجّة ، ثمان مخصوصات ، أو عشر مخصوصات : ليلة عرفة ويومها ، وليلة الأضحى ويومها ، وأيام التشريق ، ويوم نزول سورة الدهر (هل أتى) ، ويوم الغدير ، بناء على خصوصية الزيارة له (عليه السّلام) في كلّ عيد ، وخصوصية الفضل في عرفة أن يسمّيه الله تعالى صدّيقاً ، ويسمّيه كرّوبيّاً ، والحمد لله .
وأصل الزيارة يُعادل مع الحجّ ، وكذا الخطوات التي يخطوها بعد غسله من الفرات أو مطلقاً ، فتبلغ معادلة أصل الزيارة إلى ألف ألف حجّة مع القائم (صلوات الله تعالى عليه وعلى آبائه وعجّل الله فرجه) .
وألف ألف عمرة مع رسول الله المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، وبالنسبة للخطو نحو الزيارة يكتب الله تعالى له بعد الغسل والتوجّه بكلّ خطوة يخطوها حجّة بمناسكها ، وفي بعض الزيارات ، كلّ قدم مئة حجّة ، كما مر .
وخصوصية فضيلة عيد الأضحى : وقاية شرّ سنة في الدنيا ، ومغفرة الذنوب ما تقدّم منها وما تأخّر .
وفي المحرّم ليلة عاشوراء ويومها ، ولا يبعد أن تكون زيارة يوم الثالث عشر مخصوصة أيضاً ؛ فإنّه يوم دفنه (صلوات الله تعالى عليه ، وعلى الأرواح التي حلّت بفنائه) .
وخصوصية فضل زيارة عاشوراء الدخول في زمرة الشهداء ، والتلطّخ بدم الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وإذا زار ليلة عاشوراء وبات عنده وسقى عنده الماء في ذلك الوقت كان كمَنْ سقى عسكر الحسين (عليه السّلام) يوم عاشوراء .
وفي شهر صفر ، يوم العشرين منه ، وهو المسمّى بالأربعين خصوصية فضل زيارته هذه تعدّ من علائم الإيمان .
مسألة : ما الأفضل من هذه الزيارات ؟
أقول : كلّما نظرت إلى كلّ واحدة من هذه الفضائل رأيت فيها خصوصيات ، ليست على نهج واحد ، فلا يُعلم الفاضل من المفضول ، فإذا لاحظت كلّ واحدة يمكن أن يُقال : إنّها الأفضل .
وفي بعض الروايات أنّ الأفضلية في النصف من شعبان ، والنصف من رجب ، ولعلّها من حيثية خاصة .
والذي يظهر من ملاحظة مجموع الفضائل أفضلية عرفة وعاشوراء ، والذي يترجّح أنّ خصوصية زيارة عاشوراء التي ورد فيها ـ أنّ زائره يُحشر ملطخّاً بدم الحسين (عليه السّلام) ، في زمرة الشهداء ـ أعلى من كلّ خصوصية حتّى مئة ألف حجّة ، وألف ألف حجّة مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ فإنّ في زيارة عاشوراء قد ورد أيضاً مع هذه الخصوصية ـ خصوصية أُخرى وهي : أنّه قد زار الله تعالى في عرشه . وهذا من أحد معانيه أنّه يكون في لطف الله تعالى وولايته ومعرفته ، فيكون متنعمّاً برحمته الخاصة ـ الرحمة الرحيمية .

 

الباب التاسع : في الأبدال المجعولة لزيارته لطفاً من الله تعالى ؛ لئلاّ تفوت فضيلة
وهي على أقسام :
الأوّل : الاستنابة لزيارته إمّا من البلد ، أو بأن يجعل له نائباً يزور عنه هناك ؛ فإنّ في ذلك أجر الزيارة ، وإن كان خروجه بنفسه أعظم أجراً .
الثاني : التجهيز لزيارته ، وإن لم يكن بعنوان النيابة عنه ؛ فإنّ أصل تجهيز زائره وإعطائه النفقة أو الدابة أو نحو ذلك ممّا يوجب ثواب الزيارة بنفسه كما دلّت عليه الأخبار .
الثالث : زيارته من بُعد ؛ فإنّها بدل عن زيارة القرب في الأجر والثواب ، ورافعة للجفاء الحاصل بترك زيارته (عليه السّلام) ، كما وصف به غير المتمكّن في الأخبار .
وأمّا المتمكن التارك فإنّها رافعة لشدّة الجفاء منه أيضاً ، ولها كيفيات متفاوتة في الفضيلة :
الأولى : أن يصعد فوق سطحه بقصد الزيارة ، ثمّ يلتفت يمينه وشماله ، ويرفع رأسه إلى السماء ، ثمّ يتحرّى أي الاجتهاد في الطلب نحو قبر الإمام الحسين (عليه السّلام) ، ويقول : (( السّلام عليك يا أبا عبد الله ، السّلام عليك يابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ،  
السّلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته )) .
الثانية : أن يصعد أعلى منزله بنيّة الزيارة ويصلّي ركعتين ، ويؤم بالسّلام إلى الحسين (عليه السّلام) .
الثالثة : أن يغتسل للزيارة ، ويلبس أفخر ثيابه وأطهرها ، ويصعد إلى أعلى موضع ، أو إلى الصحراء فيستقبل القبلة ، ثمّ يتوجّه إلى القبر فيقول : (( السّلام عليك يا مولاي وابن مولاي ، وسيدي وابن سيدي ، السّلام عليك يا مولاي الشهيد ابن الشهيد ، والقتيل ابن القتيل ، السّلام عليك ورحمة الله وبركاته . أنا زائرك يابن رسول الله بقلبي ولساني وجوارحي ، وإن لم أزرك بنفسي مشاهدةً ، فعليك السّلام . السّلام عليك يا وارث آدم صفوة الله ، السّلام عليك يا وارث نوح نبي الله ، السّلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله ، السّلام عليك يا وارث موسى كليم الله ، السّلام عليك يا وارث عيسى روح الله ، السّلام عليك يا وارث محمّد (صلّى الله عليه وآله) حبيب الله ونبيّه ورسوله ، ووارث علي أمير المؤمنين ، ووصي رسول الله وخليفته ، ووارث الحسن بن علي وصي أمير المؤمنين ، لعن الله قاتلك ، وجدّد عليهم العذاب في هذه الساعة ، وكلّ ساعة . أنا يا سيدي متقرّب إلى الله (عزّ وجلّ) ، وإلى جدّك رسول الله ، وإلى أبيك أمير المؤمنين ، وإلى أخيك الحسن ، وإليك يا مولاي ، عليكم سلام الله ورحمته بزيارتي لك بقلبي ولساني وجميع جوارحي ، فكن يا سيدي شفيعي لقبول ذلك منّي ، وأنا بالبراءة من أعدائك واللعنة لهم وعليهم أتقرب إلى الله وإليكم أجمعين ، فعليك صلوات الله تعالى ورضوانه ورحمته )) .
ثمّ تتحرّك إلى يسارك قليلاً وتحوّل وجهك إلى قبر علي بن الحسين (عليه السّلام) وهو عند رجل أبيه ، وتسلّم عليه مثل ذلك .
ثمّ ادع الله تعالى بما أحببت من أمر دينك ودنياك ، ثمّ تصلّي أربع ركعات ؛ فإنّ صلاة الزيارة ثمان ، أو ست ، أو أربع ، أو ركعتان ، ثمّ تستقبل القبلة نحو قبر أبي عبد الله (عليه السّلام) وتقول : (( أنا مُودّعُك يا مولاي وابن مولاي ، وسيدي وابن سيدي ، ومودّعك يا سيدي وابن سيدي ، يا علي بن الحسين ، ومودّعكم يا ساداتي يا معشر الشهداء ، فعليكم سلام الله ورحمته ورضوانه )) .
الرابع : زيارة زائره حين القدوم أو استقباله ، فإنّ ذلك ممّا يحصل
به ثواب الزيارة ، كما دلّت عليه الأخبار .

الباب العاشر : الخطابات المأثورة المختصّة بزيارة الإمام الحسين (عليه السّلام)
وهي خطابات مأثورة مختصّة بزياراته ، ليست بمأثورة في زيارة غيره من الأنبياء والأئمّة (صلوات الله تعالى عليهم أجمعين) .
وهي أصناف :
الصنف الأوّل : تخصيصه في وصفه غالباً بصفات مصيبته عند قتله ؛ فإنّ ذلك دليل على أنّ الفضيلة الخاصة به لأجل مصيبته .
الصنف الثاني : تخصيصه بأصناف خاصة إلى الله تعالى مثل : ثار الله ، وقتيل الله ، وذبيح الله ، ووتر الله (عزّ وجلّ) .
الصنف الثالث : تخصيصه بالسّلام على الأنبياء عند السّلام عليه (عليه السّلام) بخصوصية أسمائهم وصفاتهم ؛ لكونه مظهراً لهم ، كما ذكرناه في عنوان ما يتعلّق منه بالأنبياء (عليهم الصّلاة والسّلام) .
الصنف الرابع : تخصيصه في زيارته بالتلبية له (عليه السّلام) ، ففي بعض زياراته بعد السّلام عليه ( لبيك داعي الله ) وتكرير ذلك سبعاً ، والوجه في التلبية له أنّه الداعي الثاني إلى الله تعالى بعد جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) دعا إلى الإسلام والشهادتين .
فأظهرهما الله بنصره برعب القلوب وذلك بإمداد الملائكة ، وبحسام أسد الله الغالب (عليه السّلام) ، وبإعانة بعض أصحابه المجاهدين بين يديه .
والحسين (عليه السّلام) داعي الله الثاني ، دعا إلى الإيمان والاعتقاد بالإمام الحق ، والأئمّة الراشدين (عليهم السّلام) ، ودعاؤه إلى ذلك بشهادته ومظلوميته ، وبكيفية خاصة جرت عليه ، كما أوضحناه في باب دعوته إلى الدين .
فهذا الداعي أيضاً لا بدّ من إجابته بالتلبية له ، ولما دعا إليه قولاً وفعلاً ؛ فلهذا استحبت التلبية له (عليه السّلام) .
ويحسن هنا ذكر الحديث المبارك الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء . فلولا تلك النهضة المباركة لما بقي مسلم على وجه الأرض ، هكذا شاءت الحكمة الإلهية ، والإرادة الربانية ؛ وكي ننهل أكثر من رحمة الله الواسعة والتي يودعها في أوليائه من الأوّلين والآخرين ، وكما هو بين أيدينا بركات نور واحد من بين أنوار أربعة عشر زاهرة وهو النور الحسيني العظيم .
وأمّا تكرار التلبية سبعاً ففيه وجوه :
الوجه الأوّل : ملاحظة حالات المجيب ؛ فإنّ الإجابة بالبدن واليد ، واللسان والسمع ، والبصر والقلب ، وبالرأي والهوى والحبّ ، فتكون كلّ تلبية لإجابة .
كما يظهر من عبارة الزيارة ، بعد قوله ( لبيك داعي الله ) سبعاً : (( إن كان لم يجبك بدني عند استغاثتك ، ولساني عند استنصارك ، فقد أجابك قلبي وسمعي، وبصري ورأيي وهواي )) .
يعني أجابك قلبي بحبّك ، وسمعي بسماع مصيبتك ، وبصري بالبكاء عليك ، ورأيي بأن أحببت عمل مَنْ أجابك ،
وبدني الآن بالمجيء إليك راغباً بكم ، ولساني الآن بالسّلام عليكم سلام مشتاق لهفان حزين لأجلكم .
الوجه الثاني : إنّ التلبيات السبع ، إجابات سبع ، لاستنصارات سبعة وقعت منه (عليه السّلام) :
الاستنصار الأوّل : خارج مكة لمّا رحل (عليه السّلام) منها مصبحاً ، جاءه العبادلة الأربعة : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ؛ ليمنعوه من التوجّه إلى العراق ، فكلّم (عليه السّلام) كلّ واحد بطريق ، وأجابهم (عليه السّلام) : بأنّي مأمور بأمر أنا ماضٍ فيه .
ثمّ استنصر ودعاهم إلى نصرته ، فبعث عبد الله بن جعفر معه ابنيه عوناً ومحمداً ، وقال : إنّي ألحق [بكما] . وقال (عليه السّلام) لابن عمر : (( يا أبا عبد الرحمن ، اتقِ الله تعالى ولا تدع نصرتي )) . فاعتذر بعذر وودّعه ، فقال : يا أبا عبد الله اكشف لي عن الموضع الذي كان يقبّله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فكشف عن بطنه ، فقبّل فوق قلبه ، وبكى وودّعه ومضى .
الاستنصار الثالث : في الطريق من مكة إلى كربلاء ؛ إذ كان يستنصر مَنْ يلقاه ، لإتمام الحجّة على الناس ، وكان استنصاره تارة بلسانه ، وتارة بإرسال رسول .
ولمّا علم الناس قلّة متابعيه ، وأنّه يستنصرهم ، أخذ بعض منهم بالاعتذار بتجارته وشؤونه وبضائعه . كما اتفق لبعض مَنْ رآه في الطريق وطلب منه النصرة .
وبعض بالاعتذار بضيعته وعياله ، كما اتفق لبعض آخر ، والبعض الآخر وعده بالمجيء بعد ذلك ، وكان بعض الناس إذا علموا أنّه (عليه السّلام) نزل منزلاً اجتنبوا ذلك المنزل لئلاّ يطلب منهم النصرة . كما عن جماعة من فزارة وبجيلة قالوا : التحقنا بالحسين (عليه السّلام) بعد الحج ، وكنّا نسايره ، فما كان شيء أبغض إلينا من أن ننازله في منزل ، وكان إذا نزل على ماء نزلنا على غيره ، وكنّا إذا لم نجد بداً من أن ننازله في منزل نزلنا في جانب آخر من ذلك المنزل ، لئلاّ يدعونا إلى نصرته .
أقول : وإذا تأمّلت هذه الحالة رأيتها أعظم مصائبه ، وأعظم من ذلك
أنّه كان في بعض الأوقات يراه المترددون في الطريق مستقبلاً لهم ، فيتنكّبون الطريق ويعدلون عنه جانباً ؛ لئلاّ يراهم ويكلّفهم بنصرته ، كما اتفق لبعض أهل الكوفة .
آه ! وإنّما هي من المصائب العظام ؛ لأنّه (عليه السّلام) خرج لأجل بقاء الإسلام ، بل لإظهار الدين الإسلامي بعد أن انمحى أو كاد أن يُمحى أثره بالكلية بفعل أئمّة الجور والطغيان ، وإنّ جهل الناس بموقفهم هذا من الإمام كان مصيبة كبيرة على قلبه الطاهر (سلام الله عليه) ، ذلك القلب المفطور من تمزّق الأُمّة وجهلها ، وتضييع أتعاب رسول الله جدّه المصطفى (صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعلى آله الأطهار) .
وأعظم من هذا كلام قاله عبيد الله بن الحر الجعفي حين استنصره عند وصوله إلى قصر بني مقاتل فنزل هو بفسطاط مضروب .
فقال (عليه السّلام) : (( لمَنْ هذا الفسطاط ؟ )) . فقيل : لعبيد الله بن الحرّ الجعفي . قال (عليه السّلام) : (( ادعوه إليّ )) . فلمّا أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي (عليه السّلام) يدعوك . فقال عبيد الله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والله ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهة أن يدخلها الحسين وأنا فيها . والله ما اُريد أن أراه ولا اُريد أن يراني . فأتاه الرسول فأخبره ، فقام الحسين (عليه السّلام) حتّى دخل عليه وسلّم وجلس ، ثمّ دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد إليه عبيد الله بن الحرّ تلك المقالة واستقاله ممّا دعاه إليه.
ثمّ قال له الحسين (عليه السّلام) : (( أيّها الرجل ، إنّك مذنب خاطئ ، وإنّ الله (عزّ وجلّ) آخذك بما أنت صانع إن لم تتب إلى الله تبارك وتعالى في ساعتك هذه فتنصرني ، ويكون جدّي شفيعك بين يدي الله تبارك وتعالى )) .
فقال : يابن رسول الله ، لو نصرتك لكنت أوّل مقتول بين يديك ، ولكن هذه فرسي خذها إليك ، فوالله ما ركبتها قطّ وأنا أروم شيئاً إلاّ بلغته ، ولا أرادني أحد إلاّ نجوت عليها ، فدونك فخذها .
فأعرض عنه الإمام الحسين (عليه السّلام) بوجهه ، ثمّ قال (عليه السّلام) : (( لا حاجة لنا فيك ، ولا في فرسك ، وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ، ولكن فرّ ، فلا لنا ولا علينا ؛ فإنّه مَنْ سمع واعيتنا أهل البيت ثمّ لم يجبنا كبّه الله على وجهه في نار جهنّم )) .
وفي بعض الأخبار أنّه قال : (( لا حاجة لي بفرسك ؛ فإنّي لا أفرّ من أحد ولا ألحق مدبراً )) .
ثمّ قام الحسين (عليه السّلام) من عنده حتّى دخل رحله ، ثمّ تداخله الندم بعد ذلك حتّى كادت نفسه أن تفيض فقال :
فيا لكِ حسرةً مادمتُ حيّا     تردد بين حلقي والتراقي
حسينٌ حين يطلبُ بذلَ نصري     على أهلِ الضلالةِ والنفاقِ
غذاة يقولُ لي بالقصرِ قول    أتتركنا وتزمع بالفراقِ
ولو أنّي اُواسيه بنفسي     لنلتُ كرامةً يومَ التلاقي
مع ابن المصطفى نفسي فداه     تولّى ثمّ ودّعَ بانطلاقِ
فلو فلقَ التلهّفُ قلبَ حيٍّ     لهمّ اليوم قلبي بانفلاقِ
فقد فازَ الأُلى نصروا حسينـاً    وخابَ الآخرونَ ذوو النفاقِ

ولم تؤثّر استنصاراته (عليه السّلام) في الطريق إلاّ في زهير بن القين ؛ فإنّه كان من فزارة وبجيلة يجانبون الإمام الحسين (عليه السّلام) حتّى نازلوه في منزل ونزلوا عنه جانباً .
قال أصحابه : فبينا نحن نتغدى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين (عليه السّلام) وسلّم ثمّ دخل ، والتفت إلى زهير فقال : يا زهير بن القين إنّ أبا عبد الله الحسين (عليه السّلام) بعثني إليك لتأتيه . فطرح كلّ إنسان منّا ما في يده ، حتّى كأنّما على رؤوسنا الطير ؛ كراهية أن يذهب زهير إلى الحسين (عليه السّلام) .
فقالت له امرأته ـ قال السيد : وهي ديلم أو دلهم بنت عمرو ـ : سبحان الله ! أيبعث إليك ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثمّ لا تأتيه ؟! لو أتيته فسمعت كلامه ثمّ انصرفت .
فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقوّض ( أي نزع أعواده وأطنابه ) وحُمل إلى جهة الحسين (عليه السّلام) .
ثمّ قال لامرأته : أنتِ طالق ، الحقي بأهلك ؛ فإنّي لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلاّ خيراً ، وقد عزمت على صحبة الحسين (عليه السّلام) لأفديه بروحي وأقيه بنفسي . ثمّ أعطاها مالها وسلّمها إلى بعض بني عمومتها لوصلها إلى أهلها . فقامت إليه ، وبكت وودّعته ، وقالت : خار الله لك ، أسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جدّ الحسين (عليه السّلام) .
ثمّ قال لأصحابه : مَنْ أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد منّي . سأحدّثكم حديثاً : إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا ، وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان الفارسي (رضوان الله تعالى عليه وصلواته) : أفرحتم بما فتح الله عليكم ، وأصبتم من الغنائم ؟ فقلنا : نعم . فقال لنا : إذا أدركتم سيد شباب آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم
معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم ، فأمّا أنا فأستودعكم الله تعالى .
قالوا : ثمّ والله مازال في القوم حتّى قُتل (رضوان الله عليه) .
الاستنصار الرابع : استنصاره بإرسال الكتاب إلى أعيان أهل البصرة ، وكان اسم الرسول سليمان ، وكنيته أبو رزين ، والكتاب هذا : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى أشراف البصرة ووجوهها . إنّي أدعوكم إلى كتاب الله (عزّ وجلّ) وإلى سنة نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ، وأنّ السنّة قد اُميتت ، وأنّ البدعة قد اُحييت ، فإن تجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم إلى سبيل الرشاد . والسّلام )) .
فلمّا بلغ الكتاب إليهم جمع يزيد بن مسعود النهشلي من تميم وبني قحطبة وبني سعد ، وخطب فيهم ووعظهم ، وكان من خطبته لهم : هذا الحسين بن علي (عليه السّلام) ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذو الشرف الأصيل ، والرأي الأثيل ( الأصيل ) ، له فضل لا يوصف ، وعلمٌ لا يُنزف (لا يفنى) ، وهو أولى بهذا الأمر ؛ لسابقته وقدمه وقرابته ، يعطف على الصغير ، ويحسن إلى الكبير ، فأكرم به راعي رعية ، وإمام قومٍ وجبت لله به الحجّة ، وبلّغت به الموعظة ، فقد تحملتم ذنوباً يوم الجمل فاغسلوها بنصرة ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
فأجابوه وعزموا على الخروج إليه ، فلمّا تجهز للمصير بلغه قتله (عليه السّلام) قبل أن يسير .
الاستنصار الخامس : استنصاره من أشراف الكوفة ممّن كان يظنّ أنّه على رأيه ، وهو : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي (عليه السّلام) إلى سليمان بن صرد الخزاعي ، والمسيّب بن نجيّة ، ورفاعة بن شداد ، وعبد الله بن وأل ، وجماعة المؤمنين . أمّا بعد ، فقد علمتم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال في حياته : مَنْ رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يعمل في عباد الله تعالى بالإثم والعدوان ، ثمّ لم يغيّر بقول ولا فعل ، كان حقيقاً على الله تعالى أن يُدخله مدخله . وقد علمتم أنّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتولّوا عن طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلال الله ، وإنّي أحقُ بهذا الأمر ؛ لقرابتي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم ، أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن وفيتم ببيعتكم فقد أصبتم حظّكم ورشدكم ، ونفسي مع أنفسكم ، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم ؛ فلكم بي أُسوة ،
وإن لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتكم ، فلعمري ما هي منكم بنكر ؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي ، والمغرور مَنْ اغتر بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومَنْ نكث فإنّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم والسّلام )) .
ثمّ طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مُسهِر الصيداوي ، فلمّا قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير التميمي فقبض عليه ليفتشه ، فأخرج قيس الكتاب فخرّقه أي مزّقه ، فحمله الحصين إلى ابن زياد (لعنه الله) ، فلمّا مثُل قيس بين يديه قال له : مَنْ أنت ؟
قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهما السّلام) وابنه الإمام الحسين (عليه السّلام) .
قال ابن زياد : لماذا خرّقت الكتاب ؟
قال قيس : لئلاّ تعلم ما فيه .
قال ابن زياد : وممّن الكتاب ؟ وإلى مَنْ ؟
قال قيس : من الحسين بن علي (عليه السّلام) إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم .
فغضب ابن زياد ، وقال له : والله لا تفارقني حتّى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم ، أو تصعد المنبر وتلعن الحسين بن علي وأباه وأخاه ، وإلاّ قطّعتك إرباً إرباً .
فقال قيس : أمّا القوم فلا اُخبرك بأسمائهم . وأمّا لعنة الحسين وأبيه وأخيه فأفعل .
فصعد المنبر وحمد الله تعالى وأثنى عليه ، وصلّى على النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وأكثر من الترحّم على علي ووُلده (صلوات الله تعالى عليهم أجمعين) ، ثمّ لعن عبيد الله بن زياد (لعنه الله) ، ولعن أباه (لعنه الله) ، ولعن عتاة بني أُمية عن آخرهم .
ثمّ قال : أنا رسول الحسين (عليه السّلام) إليكم أيّها الناس ، إنّ الحسين بن علي خير خلق الله ، وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (عليها السّلام) ، وأنا رسوله إليكم ، وقد خلّفته بالحجاز فأجيبوه ، وقد خلّفته بموضع كذا فأجيبوه .
فأمر به عبيد الله بن زياد أن يُرمى من فوق القصر ، فرُمي به (صلوات الله عليه) فتقطّع .
وروي أنّه وقع على الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه رجل يُقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه ، فقيل له في ذلك وعِيب عليه ، فقال : أردت أن اُريحه .
الاستنصار السادس : استنصاره (عليه السّلام) من الذين جاؤوا لقتاله ؛ لإتمام الحجّة عليهم ، فاستنصر الحرّ وعسكره حين تلقّوه وحبسوه عن الرجوع تارة ، واستنصر عمر بن سعد (لعنه الله) في الليلة السادسة .
أمّا الأوّل فإنّه (عليه السّلام) لمّا استقبلوه سقاهم ، ثمّ سايروه ، ولم يزل الحرّ موافقاً للحسين (عليه السّلام) حتّى حضرت صلاة الظهر .
فأمر الحسين (عليه السّلام) الحجّاج بن مسروق الجعفي أن يؤذّن بالناس ، فأذّن الحجّاج ، فلمّا حضرت الإقامة خرج
الحسين (عليه السّلام) في إزار ورداء ونعلين متّكئاً على قائم سيفه ، فاستقبل القوم وحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : (( أيّها الناس ، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم أن أقدم علينا ؛ فإنّه ليس لنا إمام ، ولعلّ الله أن يجمعنا وإيّاكم على الهدى والحقّ . فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني ما أطمئن به من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم )) .
فسكتوا عنه ، ولم يتكلّموا كلمة ، فقال (عليه السّلام) للمؤذّن : (( أقم )) . فأقام الصلاة ، فقال الحسين (عليه السّلام) للحر : (( أتريد أن تصلّي بأصحابك ؟ )) . قال الحر : لا ، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك .
فصلّى بهم الإمام الحسين (عليه السّلام) وبعد فراغه دخل الخيمة ، فاجتمع إليه أصحابه ، وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان فيه ، ودخل خيمة قد ضُربت له ، واجتمع إليه خمسمئة من أصحابه .
وعاد الباقون إلى صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه ، ثمّ أخذ كلّ منهم بعنان فرسه وجلس في ظلّها من شدّة الحرّ .
ولمّا كان وقت العصر أمر الحسين (عليه السّلام) أن يتهيّؤوا للرحيل ، ففعلوا ، ثمّ أمر مناديه فنادى بالعصر ، وأذنّ وأقام . فاستقدم الحسين (عليه السّلام) ، فقام وصلّى بالقوم صلاة العصر ، ثمّ سلّم وانصرف بوجهه إليهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، فقال : (( أمّا بعد ، أيّها الناس ، إنّكم إن تتّقوا الله ، وتعرفوا الحقّ لأهله ، يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، وإن أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم ، وقدِمت به عليّ رسلكم ، انصرفت عنكم )) .
فقال الحرّ : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكرونها ؟
فقال الحسين (عليه السّلام) لبعض أصحابه : (( اخرج الخُرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ )) . فأخرج خرجين مملوءين فنُثرت بين يديه.
فقال له الحرّ : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد اُمرنا أنّا إذا لقيناك لا نفارقك حتّى نُقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( الموت أدنى إليك من ذلك )) .
وأمّا استنصاره ابن سعد (لعنه الله) ، فإنّ الإمام الحسين (صلوات الله تعالى عليه) أرسل إليه أنّي اُريد أن أُكلّمك فالقني الليلة بين عسكري وعسكرك .
فخرج إليه ابن سعد (لعنه الله) في عشرين ، وخرج إليه الإمام الحسين (عليه السّلام) في مثل ذلك ، فلمّا التقيا أمر الحسين (عليه السّلام) أصحابه ، فتنحوا وبقي أخوه العباس وابنه علي الأكبر (عليهما السّلام) ، وأمر عمر بن سعد (لعنه الله) أصحابه فتنحوا عنه ، وبقي معه ابنه حفص وغلام له .
فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( ويلك يابن سعد ! أما تتّقي الله الذي إليه معادك ؟ أتقاتلني وأنا ابن مَنْ علمت ؟! ذر هؤلاء القوم وكن معي ؛ فإنّه أقرب لك إلى الله تعالى )) .
فقال عمر بن سعد (لعنه الله) : أخاف أن تُهدم داري .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أنا أُخلفك عليك خيراً منها ، من مالي بالحجاز )) .
فقال عمر : لي عيال بالكوفة وأخاف عليهم .
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( أنا أضمن سلامتهم )) .
ثمّ سكت عمر ولم يجبه بشيء .
فانصرف الحسين (صلوات الله عليه عنه) ، وهو يقول : (( ما لك ! ذبحك الله على فراشك سريعاً عاجلاً ، ولا غفر لك يوم حشرك ونشرك ، فوالله إنّي لأرجو أن لا تأكل من برّ العراق إلاّ يسيراً )) .
فقال ابن سعد (لعنه الله) : في الشعير كفاية عن البرّ . مستهزئاً بذلك القول .
أقول : إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لا حاجة له لأحد ، فكيف بأعدائه ، ولكن ذلك الموقف وغيره لإلقاء الحجّة عليهم في الدنيا .
الاستنصار السابع : استنصار له (عليه السّلام) بعد ما حوصر في كربلاء ، وبلغ عدد الخيل والرجال ثلاثين ألفاً ، وحالوا بينه وبين الماء
فجاء حبيب بن مظاهر (صلوات الله عليه) إلى إمامه الحسين (صلوات الله عليه) ، وقال له : يابن رسول الله ، إنّ هنا حيّاً من بني أسد بالقرب منّا ، أتأذن لي بالمصير إليهم فأدعوهم إلى نصرتك ؟ فعسى الله أن يدفع بهم عنك بعض ما تكره .
قال الحسين (عليه السّلام) : (( قد أذنت لك )) .
فخرج إليهم في جوف الليل سرّاً حتّى صار إليهم ، فعرفوا أنّه من بني أسد .
فقالوا له : ما حاجتك ؟
قال : إنّي قد أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم ، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت نبيّكم ؛ فإنّه في عصابة من المؤمنين ، الرجل منهم خير من ألف رجل ، لن يخذلوه ولن يسلّموه أبداً ، وهذا عمر بن سعد (لعنه الله) قد أحاط به ، وأنتم قومي وعشيرتي ، وقد أتيتكم بهذه النصيحة ، فأطيعوني اليوم في نصرته تنالوا به شرف الدنيا وحسن ثواب الآخرة .
فإنّي اُقسم بالله تعالى لا يُقاتل منكم في سبيل الله مع ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صابراً محتسباً إلاّ كان رفيق محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله) في أعلى عليين .
فوثب إليه رجل من بني أسد يُقال له عبد الله
ابن بشير فقال له : أنا أوّل مَنْ يُجيب إلى هذه الدعوة ، فجعل يرتجز وهو يقول :
قد علمَ القومُ إذا تواكلوا     وأحجمَ الفرسانُ إذ تثاقلوا
إنّي الشجاعُ البطلُ المقاتل     كأنّني ليثُ عرينٍ باسلُ

ثمّ تبادر رجال آخرون حتّى التأم منهم تسعون رجلاً فأقبلوا يريدون الحسين إمامهم (عليه السّلام) .
وخرج رجل في ذلك الوقت من الحي وصار إلى عمر بن سعد (لعنه الله) فأخبره بالحال ، فدعا ابن سعد رجل من أصحابه يُقال له : الأزرق بن الحرث الصداوي ، فضمّ إليه أربعمئة فارس ووجّه به إلى حيّ بني أسد . فبينما اُولئك القوم قد أقبلوا في جوف الليل مع حبيب يريدون عسكر الحسين (عليه السّلام) ، إذ استقبلتهم خيل ابن سعد (لعنه الله) ، على شاطئ الفرات .
وكان بينهم وبين عسكر الحسين (عليه السّلام) اليسير ، فتناوش الفريقان ( أي أخذ بعضهم بعضاً ) واقتتلوا قتالاً شديداً ، فصاح حبيب بن مظاهر بالأزرق : ويلك ! ما لك وما لنا ، انصرف عنّا ودعنا يشقى بنا غيرك .
فأبى الأزرق أن يرجع ، وعلمت بنو أسد أنّه لا طاقة لهم بالقوم ، فانهزموا راجعين إلى حيّهم ، ثمّ إنّهم ارتحلوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد (لعنه الله) أن يبيتهم ، ( أي يصيبهم ويأخذهم بغتة في الليل ) .
ورجع حبيب بن مظاهر (صلوات الله تعالى عليه) إلى الحسين (صلوات الله عليه) فأخبره بذلك ، فقال الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( لا حول ولا قوّة الاّ بالله )) .
وهذا آخر استنصاراته ، وقد يئس بعد ذلك من الناصر ، وعلم أنّه لا ينصره أحد ، وأنّ الجهاد الذي هو للانتصار والظهور على الأعداء قد سقط عنه ، وأنّه قد تمحّض تكليفه بجهاد خاص ، وهو الجهاد والقتال ليُقتل ، فجمع أصحابه يخبرهم بأنّه لا ناصر له ، وأنّ التكليف بالجهاد للنصر واحتمال الغلبة قد ارتفع ، وأنّه لا تكليف عليهم بذلك .
فقام خطيباً فيهم (عليه السّلام) ، وهو مكسور القلب ، منقطع الرجاء ، فقال لهم : (( إنّه قد نزل من الأمر ما ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت ، وأدبر معروفها ... )) إلى آخر ما قال (سلام الله عليه) .
ومضمونه : أنّه
لا رجاء لي بعد في الاستنصار من أيّ أحد ، بل قد يئست من نصرة الناس ، وقد خذلني جميع الناس ، ولا ذمام عليكم منّي في التكليف بالجهاد معي للانتصار ، ولا الظهور على الأعداء ، واحتمال الغلبة ، بل قد قدّر الله تعالى القتل لي ، ولِمَنْ معي ، فمَنْ وطّن نفسه على ذلك فليبايع للقتل معي ، ومَنْ لا يرغب في ذلك فلينصرف في هذا الليل البهيم ، فلا مقصود للقوم غيري .
فتكلّم أصحابه بكلمات عجيبة ، نذكر تفصيلها في عنوان الشهداء ، وبايعوه البيعة الثانية على ذلك .
الوجه الثالث : إنّ التلبيات السبع ، إجابات سبع ، لاستغاثات سبع ، كانت لأمور خاصة ، لم يغثه أحد فيها .
فأوّلاً : استغاث لسقي جميع أهله وأصحابه .
وثانياً : استغاث لسقي النساء والأطفال ، وقال (عليه السّلام) : إنّهنّ ليس عليهنّ جناح ، أو إنّهنّ لن يقاتلنكم .
وثالثاً : استغاث لسقي الطفل الرضيع (عليه السّلام) فقط ، فقال (عليه السّلام) : أما من أحد يأتينا بشربة من الماء لهذا الطفل ؟ ثمّ قنع بأن يسقوه ، فقال : اسقوا هذا الرضيع .
ورابعاً : استغاث لئلاّ ينهبوا حرمه ، مناديا : (( يا شيعة آل أبي سفيان ... )) . مقولته المشهورة .
وقال (عليه السّلام) : (( اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي ))(3) .
وخامساً : استغاث لا لئلاّ ينهبوا الخيام ، بل لأن يمهلوهم ساعة ، فقال : (( رحلي لكم عن ساعة مباح )) .
وسادساً : استغاث وهو مطروح لئلاّ يحرقوا أهله وحرمه ؛ فإنّه سمع شمراً (لعنه الله) يقول : عليّ بالنار اُحرقه على مَنْ فيه ، فاستغاث (عليه السّلام) ونادى : (( يابن ذي الجوشن ، أنت الداعي بالنار لتحرق الخباء على أهلي ؟ ))
وسابعاً : استغاث (صلوات الله تعالى عليه) وهو في آخر رمق لقطرة من الماء ، فحزوا رأسه وهو في هذه الاستغاثة .
فإذا لم يجبه أحد لهذه الاستغاثات السبع ، ناسب أن يلبّوا له (عليه السّلام) أولياؤه بعددها ، فيفوزوا بثواب إغاثته (عليه السّلام) في تلك الحالات إذا لاحظوها في تلبيتهم .
الوجه الرابع : وما أدراك ما الوجه الرابع ، أنّ التلبيات السبع ، إجابات سبع ، لاستغاثات سبع ، وقعت منه ، لأصل حالته ، وخذلان الناس عنه ، وعدم الاعتناء به ، وكربته وغربته ووحدته ، بلا طلب شيء خاص من أحد .
وهذه هي التي سمّاها بالواعية (الواعية أي الصارخة) وقد حصل لها تأثيرات خاصة .
فكلّ واحدة من هذه الاستغاثات لها تحريك خاصّ ، وتأثير خاصّ ، وحصل بها انقلابات ، وتغيّر أوضاع مخصوصة ، فاستمع لها فإنّها إلى الآن تدور على أسماع محبيه والموالين له .
فإذا علت أصوات الاستغاثة فاستمعوا لها وأنصتوا ، وأجيبوا داعي الله بالتلبية رحمة له (عليه السّلام) لعلكم ترحمون .
الاستغاثة الأولى حين التقى العسكران ، أنزل الله تعالى النصر على الحسين (عليه السّلام) وكانت رايات النصر ترفرف على رأسه ، فاختار لقاء الله تبارك وتعالى . ثمّ استغاث لإتمام الحجّة ، فأحدثت هذه الحالة همّة خاصة ، وحرّكت عزماً خاصّاً لأصحابه ، علاوة على بنائهم وعزمهم على المقاتلة ، فصاروا يتهافتون على ذهاب الأنفس ، وحصل لهم كيفية استعجال وتلهّب ، وتأسّف وبكاء ، وانقلاب حال سنذكره في عنوان الشهداء .
فلبّوا تأسّياً بهم وقولوا : إن كان لم يجبك بدني مثل الشهداء حين استغاثتك ، ولساني عند استنصارك ، فقد أجابك قلبي بحبّ عملهم ، وبصري بالبكاء ، إلى آخر ما في الزيارة ، فإذا لبّيت لذلك فتهيّأ لاستماع :
الاستغاثة الثانية : فقد علا صوته المبارك (عليه السّلام) لمّا اشتدّ الأمر عليه ، واستحرّ القتل في الأصحاب ، والاضطراب في النساء ، وصعب الأمر عليه فصاح مستغيثاً : (( هل من ذابٍّ يذبّ عنّا )) . فأثّر ذلك في النساء اللاتي كنّ معهم ، فحرّكت هذه الاستغاثة همّة النساء ، فبذلنَ أولادهنّ ورجالهنّ وأنفسهنّ حتّى قُتل بعضهنّ ، كما سيجيء ذلك في عنوان الشهداء إن شاء الله .
ثمّ هذه الاستغاثة حرّكت همّة العجائز ، فأجبنه بالتلبية ببذل الأعزّ من أنفسهنّ ، أعني شبابهنّ وأفلاذ أكبادهنّ .
أفلا تتحرّك همّتك إذا زرته ، وتصوّرت ذلك؟! فتجيب الاستغاثة الأولى بالتلبية الأولى وتقول : لبّيك يا داعي الله تعالى ، إن لم يجبك بدني عند استغاثتك ، ولساني عند استنصارك ، فقد أجابك قلبي ، فإذا لبّيت الثانية فاستمع فقد علت :
الاستغاثة الثالثة : لمّا قُتلوا جميعاً ، وبقي (صلوات الله عليه) وحده ، وخرج عازماً
على لقاء الله تعالى ، جاء قبال القوم وهو راكب فرسه ، فنظر عن يمينه فلم يرَ أحداً ، وعن شماله فلم يرَ أحداً . ورأى قدّامه أصحابه وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) مطروحين ، ووراءه عياله وأطفاله ومَنْ معه من النسوة بتلك الحالة ؛ فصاح (سلام الله عليه) : (( أما من مغيث يغيثنا لوجه الله (عزّ وجلّ) ؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا ؟ )) .
فأثّرت هذه الاستغاثة في نفاذ صبر النساء لمّا سمعنَ ذلك ، فأخذنَ بالعويل والصراخ كلّهنّ دفعة واحدة ، إلى أن بلغ صوتهنّ موقفه ، فرجع (عليه السّلام) وقال : (( مهلاً ، لا يشمت القوم بنا ، فإنّ البكاء أمامكنّ )).
فهذه الاستغاثة قد أخرجت أصوات نسائه ؛ فصعب عليه ذلك حتّى رجع إليهنّ لإسكاتهنّ ، فهل تلبّون له صارخين بالعويل؟ فإنّه (عليه السّلام) يفرح بذلك ، ويجبر قلبه ذلك ، فلبّ له قائلاً بقلبك ولسانك : لبيك داعي الله ، ملاحظاً هذه الاستغاثة .
وبعد ذلك لمّا اشتدّت الحالات منه (عليه السّلام) ، وتواردت المصائب متتابعة إلى أن وقع طريحاً جريحاً مُصاباً ، علت :
الاستغاثة الرابعة : منه ، فأثّرت في حالة الإمام سيد الساجدين علي (عليه السّلام) تأثراً أقامه من فراشه ، مع أنّه مريض ولا يقدر على أن يقبل بنفسه ، وليس عليه جهاد .
لكن حرّكته خصوصية تأثير هذه الاستغاثة ، فأخذ بيده عصاً يتوكأ عليها ، وسيفاً يجرّه في الأرض ، فخرج من الخيام .
وخرجت أُمّ كلثوم خلفه تنادي : يا بُني ارجع . وهو يقول : (( يا عمّتاه ، ذريني أُقاتل بين يدي ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) )) . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( خذيه لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمّد (صلوات الله عليه وآله) )) . فأرجعته أُمّ كلثوم (عليها السّلام) .
فلبّ أنت لأجل المصيبة الرابعة ، وعجّل فقد تتابعت المصائب عليه (عليه السّلام) ، وعلا منه صوت :
الاستغاثة الخامسة : وهو (عليه السّلام) طريح جريح ، مرمّل مُدمى عطشان ، قد أعياه حرّ الجراح والشمس والبلايا ، فأثّرت في الأطفال فخرج طفلان من الخيام لإغاثته (سلام الله عليه) .
أحدهما طفل : خرج وفي اُذنيه درّتان ، وهو مذعور يلتفت يميناً وشمالاً ، فلمّا بعُد قليلاً من الخيام ضربه هانئ بن ثبيت (لعنه الله) على رأس ذلك الطفل المحمدي فقتله هناك ، وأُمّه تنظر إليه ولا تتكلّم كالمدهوشة .
وثانيهما : عبد الله بن الحسن (عليهما السّلام) ، وهو ابن إحدى عشرة سنة لمّا رأى عمّه طريحاً مستغيثاً
لبّى له وخرج إليه .
فنادى الحسين (عليه السّلام) : (( يا أُختاه ، احبسيه )) . فأرادت حبسه ، فقال : والله لا اُفارق عمّي . فذهب إليه وجاهد عنه حتّى قُطعت يده المباركة ، ثمّ قُتل على ما سيجيء تفصيله في عنوان أهل البيت (صلوات الله عليهم) .
فإذا لبّيت له التلبية الخامسة ، فعجّل ؛ فإنّه قد علت منه :
الاستغاثة السادسة : لمّا تهيّؤوا لقتله (عليه السّلام) وهو طريح ، فأثّرت هذه الاستغاثة في زينب الكبرى (عليها السّلام) أُخته ، وأخرجتها إلى المقتل صائحة ، وقيل : حاسرة حافية .
وأعظم من ذلك أنّها جاءت تستنصر ابن سعد (لعنه الله تعالى) ، فقالت (صلوات الله عليها) : يابن سعد ، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه ؟! وهذه الحالة أبكت ابن سعد (لعنه الله) حتّى فاضت دموعه على لحيته ، وصرف وجهه عنها .
فلبّ السادسة أنت ، فقد اشتدّ الأمر ، وبلغت الشدّة نهايتها ، وتحقّقت من كلّ الاستغاثات :
الاستغاثة السابعة : وقد علا صوتها بطريق خاص ، وعبارة خاصة ، ونحو خاص ، ووقت خاص ، وحالة خاصة وخيمة ، فأثّرت لا في أشخاص خاصين ، كالاستغاثات السابقة ، بل أثّرت في جميع الموجودات ، وحرّكت جميع المخلوقات ، وذُعر لها الناس وخضعوا ، وزلزلت جميع العالمين من السماوات والأرضين ، وما فيهنّ وما بينهنّ ، وأخرجت كلّ مستقر من مستقره ، وحرّكت كلّ ساكن من مسكنه ، والعرش العظيم وما حوله ، ومَنْ حفّ به وما فوقه وما بينهنّ ، وحرّكت أجزاء الجنّة ومَنْ فيها ، والنار ومَنْ فيها ، وجميع ما يُرى وما لا يُرى .
ونفضي بيان خصوصياتها في عنوان شهادته بإشارة ، وإلاّ فيعزّ عليّ أن اُحرّره ببياني ، أو اُقرره بلساني ، أو أتصوّره في جناني ، فإذا لاحظتها بنحو الإجمال فأقتد بجميع ما خلق الله تعالى ، ولبّ له الآن السابعة :
لبّيك داعي الله تعالى ، إن لم يجبك بدني عند استغاثتك ، فإنّي أُجيبك الآن بقلبي وسمعي وبصري ، ونحيبي وزفرتي ، وعويلي وشهيقي ، وبكائي
وانقلاب أحوالي ، وجميع ما يتعلّق بي ، يا حسين يا إمامي .
وحقّق ذلك من نفسك ختاماً ـ هو مسك ـ إذا تحقّقت منك التلبيات السبع للإغاثات السبع ، وأغثته بتلبيتك له ملاحظاً ما ذكرناه .
فاعلم أنّ الإغاثة بالإغاثة ، والإجابة بالإجابة ، بل التلبية بالتلبية ، فإنّ لك حالات سبع ، لك فيه استغاثات سبع ، لا مغيث لك فيها ، ولا تجد لاستغاثاتك مغيثاً أبداً . نعم ، إذا أجبت الإمام الحسين (عليه السّلام) ، ولبّيت له كما فصّلناه ، فهو أيضاً يغيثك ويجيبك ، بل يلبّي لك في استغاثاتك السبع ، بإغاثات تنفعك ، وتخلّصك من تلك الحالات الباعثة على :
الاستغاثة الأولى : من استغاثتك في حالة احتضارك ، ( إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) ، فمن حالاتك حينئذ الاستغاثة بنصرة الحفدة والأقرباء ، والآباء والأبناء ، والأعزّة والقرناء ، والأصدقاء والأطباء ، ولا ينفعك أحدهم أبداً ، فإذا كنت قد لبّيت استغاثة هذا الداعي إلى الله تعالى ، فلعلّه (عليه السّلام) يحضرك ليغيثك من دون استغاثة ويسكن اضطرابك ، بل يلبّي لك تلبية صادقة منجية ، سريعة نافعة .
الاستغاثة الثانية : لك حين خروجك من قبرك عارياً ذليلاً ، حاملاً ثقلك على ظهرك ، تنظر عن يمينك وأُخرى عن شمالك فلا ترى أحداً تستغيث به ، فإذا كنت ملبّياً استغاثة هذا الذبيح لله ، فلعلك حين تنظر تراه قدّامك ، أو تراه وهو يتفحّص عنك ، أو ترى جدّه (صلّى الله عليه وآله) والروح الأمين (عليه السّلام) يتفقدانك ؛ ليأخذا بيدك فلا تنظر يميناً وشمالاً بعد ذلك .
وكما جاء : (( مَنْ سرّه أن ينظر إلى الله تعالى يوم القيامة ، وتهون عليه سكرة الموت وهول المطلع فليكثر من زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّ زيارة الحسين (عليه السّلام) زيارة قبر الرسول (صلّى الله عليه وآله) )) .
الاستغاثة الثالثة : لك استغاثتك من العطش الأكبر في يوم مقداره خمسون ألف سنة ، والشمس تصهر الرؤوس في ذلك الزمان ، إذ لا مغيث لها .
فإذا كنت لبّيت لساقي الحوض عند استغاثته من العطش ، فلا بدّ أن يلبّي لك عند استغاثتك من العطش ، فيسقيك بشربة لا تظمأ بعدها أبداً .
وقد جاء : (( إنّ الزائر له لا يتناهى له دون الحوض وأمير المؤمنين (عليه السّلام) قائم على الحوض يصافحه ويرويه الماء ... )) .
الاستغاثة الرابعة : حين يدور عليك خصماؤك ، وتفرّ من كلّ ذي حقّ ، وتفرّ من أخيك وأُمّك وأبيك ، الذين هما أرأف الناس بك .
فتستغيث
فتبقى مأيوساً من كلّ أحد ، وتتحير حينئذ بمَنْ تستغيث بعد ما تفرّ من أُمّك وأبيك .
فإذا كنت ملبّياً لاستغاثة صاحب المصيبة الرابعة فلعلك تراه يغيثك هناك ، ويصلح لك أمرك مع خصمائك ، ومطالبيك بالحقوق حتّى والديك .
الاستغاثة الخامسة : إذا صدر الأمر من الله سبحانه بالامتيار ، ونودي : ( وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) وحصلت لكلّ واحد من المجرمين سمة يمتاز بها . فلعلّ نور ميسم زائر الحسين (عليه السّلام) يمنع ظلمة سمة المجرم الحاصلة عند الأمر بالامتياز ، وانقطاعه عن الاستغاثة .
الاستغاثة السادسة : إذا صدر الحكم من الله الواحد القهار بالأخذ إلى النار ، إمّا بالخطاب إلى الملائكة : خذوه ، أو إلى النار : خذيه ، فيُبكم لسانه عن الاستغاثة . فلعلّك إذا لبّيت لاستغاثته يُلبّي لك حين تريد الاستغاثة ، ولا ينطلق لسانك بها .
الاستغاثة السابعة : لك إذا لم يحصل لك ما يخلّصك في محشرك ، ودخلت النار ، والعياذ بالله ، وهي بأحد كيفيات دخولها ، فعند ذلك تستغيث تارة بالخزنة ، وتارة بمالك ، وتارة بالمتكبّرين الذين دخلت النار بسببهم ، ولا تنفعك هذه الاستغاثات ، بل يزيدك جوابهم لك عذاباً ، مع إنّ الاستغاثة الجزئية لتخفيف يوم ، وبمالك لأن يقضي عليك بالموت ، وبالمتكبّرين لن يغنوا عنك من الله تعالى من شيء ، ولو ساعة ، أو نوعاً من العذاب .
لكن الإمام الحسين (عليه السّلام) بحسب وعده يزور زائره ، فإذا تأخّرت إلى ذلك الزمان لبعض الحكم والتأثيرات التي لا تغيّر ولا تبّدل ، فلا بدّ أن يزورك هناك ، فتنطفئ بزيارته لك النيران المتوقّدة عليك ، ويرتفع عنك العذاب ، ويأخذك معه إلى دار الثواب وحسن المآب .
الصنف الخامس : من الخطابات المختصة بالحسين (عليه السّلام) عند زيارته هو السّلام على أعضائه واحداً واحداً ، والوارد في سائر الزيارات : السّلام على المزور بذكر أوصافه . وفي بعضها : السّلام على روحك وبدنك .
ولكن من خصوصيات الإمام الحسين (عليه السّلام) : السّلام الخاص على أجزاء بدنه بالخصوص ،
فيسلّم على رأسه المبارك على حدة ، وعلى وجهه الأزهر على حدة ، وعلى خده التريب على حدة ، وعلى شفتيه مستقلاً ، وعلى ثغره على حدة ، وعلى شيبه على حدة ، وعلى دمه الزاكي على حدة ، وعلى صدره مستقلاً ، وعلى ظهره مستقلاً ، وعلى قلبه على حدة ، وعلى كبده على حدة .
ومن خصوصياته في هذه خصوصية أنّ السّلام على كلّ جزء منه يقع على وجوه :
ففي السّلام على رأسه الشريف قد يُقال : السّلام على الرأس المرفوع . وقد يُقال : السّلام على الرأس المقطوع . وقد يُقال : السّلام على الرأس المنصوب . وقد يُقال : السّلام على الرأس الموضوع . وقد يُقال : السّلام على الرأس المُدّمى . وقد يُقال : السّلام على الرأس المسلوب . وقد يُقال : السّلام على الرأس الأزهر الأنور الأبهج الهادي لدين جدّه المصطفى محمّد (صلوات الله عليه وآله) .
وفي السّلام على النحر قد يُقال : النحر المنحور . وقد يُقال : النحر المقطوع . وقد يُقال : النحر المضروب . وقد يُقال : النحر المرضوض بحوافر الخيل . وقد يُقال : النحر الأقدس .
وفي السّلام على الجسد قد يُسلّم على الجسد التريب . وقد يُسلّم على الجسد الخضيب . وقد يُسلّّم على الجسد السليب . وقد يُسلم على الجسد المجروح المطروح . وقد يُسلم على الجسد المقطع المُدمى . وقد يُسلّم على الجسد المرضض تكراراً وتكراراً . وقد يُسلّم على الجسد المتفرّق . وقد يُسلّم على الجسد المشرق نوراً كالشمس يطغى على رؤيته .
ومن خصوصياته في هذه الخصوصية أنّ كلّ جزء يُسلّم عليه بصفات خاصة ، فبكلّ واحدة من الصفة الخاصة أيضاً يقع السّلام عليه بوجوه :
فإذا قلت : الرأس المصلوب ، فقد يُقال : المصلوب على الشجرة . وقد يُقال : المصلوب على باب دمشق . وقد يُقال : المصلوب على باب دار يزيد .
وإذا قلت : الرأس الموضوع ، فيُقال : الموضوع قدام يزيد ، أو الموضوع قدام ابن زياد (لعنهما الله تعالى) .
والوجه في هذه التسميات الخاصّة عليه : أنّ كلّ واحدة من هذه المصائب تسليم خاص منه (عليه السّلام) لأمر الله تعالى لم يتّففق لغيره أبداً ، فلا بدّ أن يجعل الله تعالى بإزائه رحمة خاصة به وهو العزيز الحكيم .
والمراد بالسّلام عليه : أن يُسلّم الله له ما جعله له ، بأن يجعله حرماً آمناً لِمَنْ توسّل به ، وتمسّك به ، واستشفع به ، وحصّل علاقة ورابطة به (صلوات الله عليه) ، فإنّ ذلك أحد معاني السّلام على النبي المصطفى والأئمّة الهداة (صلوات الله عليهم أجمعين) .
وفيه رجاء عظيم إذا سلّمنا عليه بهذه التسليمات الخاصة بأعضائه الشريفة المباركة ، وبكينا على كلّ واحدة واحدة ، ورجونا أن تنطفي بكلّ سلام نار موقدة على أعضائه قد أوقدتها الذنوب المحيطة المستغرقة لأعضائنا .

الباب الحادي عشر : في خصوصية زوّاره (عليه السّلام) قبل شهادته وبعدها قبل أن يُدفن
فمنها مطلبان :

المطلب الأوّل : في زواره قبل شهادته وهم أقسام :
الأوّل : الملائكة . ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( ألا وإنّ الملائكة زارت كربلاء ألف عام من قبل أن يسكنه جدّي الحسين (عليه السّلام) )) .
الثاني : سفينة نوح (عليه السّلام) ، وبساط سليمان ، وغنم إسماعيل ، والظباء التي كلّمت عيسى بن مريم (صلوات الله عليهم أجمعين) ، فهذه كلّها قد زارته بطرق خاصة ، وقد مرّ تفصيل أحاديثها في مجالس البكاء .
الثالث : الشهداء الذين اسشهدوا بين يديه حالة تهيؤهم للمقاتلة ، فإنّهم قد زاروه زيارة مخصوصة ، فإذا أراد أحدهم المبارزة راكباً أو راجلاً جاء عنده ووقف بين يديه وقال : السّلام عليك يا أبا عبد الله ، السّلام عليك يابن رسول الله . فيقول له (عليه السّلام) : (( وعليكم السّلام ، ونحن خلفك ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً )) .
والوجه في اهتمامهم بهذه الزيارة أنّهم أرادوا إدراك فيض الزيارة وهم أحياء ، فيُضاف ذلك إلى أجر شهادتهم .
نعم ، لبعض الشهداء في كيفية هذه الزيارة خصوصيات ، وزياراتهم مخصوصة ، فمنهم الأخوان عبد الله وعبد الرحمن الغفاريان ، جاءا لزيارته فوقفا قدّامه بعيداً منه وقالا : السّلام عليك يا أبا عبد الله .
فقال لهما (عليه السّلام) : (( ادنوا منّي )) .
فدنيا ووقفا قريبا منه وقالا : يا أبا عبد الله السّلام عليك ، جئنا لنُقتل بين يديك .
فقال (عليه السّلام) : (( وعليكما السّلام ورحمة الله وبركاته )) .
وجاء الفتيان الجابريان حسيناً (عليه السّلام) فدنيا منه ، وكانا يبكيان بكاءً شديداً .
فقال (عليه السّلام) لهما : (( يا ابنَي أخي ما يبكيكما ، فوالله إنّي لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين ؟ )) .
فقالا : جعلنا الله فداك ، والله ما على أنفسنا نبكي ، ولكن نبكي عليك ؛ نراك وقد اُحيط
بك ولا نقدر أن ننفعك .
فقال (صلوات الله عليه) : (( جزاكما الله يا ابني أخي بوجدكما(4) من ذلك ، ومواساتكما إيّاي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين )) .
ومن ذوي الخصوصية لهذه الزيارة المخصوصة علي بن الحسين (عليهما السّلام) ، فقد جعل سلامه بعد مبارزته ومقاتلته ، ووقوعه على الأرض مجدّلاً ، وقد أعياه نزف الدماء وحرارة الشمس ، فتوجّه في ذلك الوقت إلى زيارة والده الحسين (عليه السّلام) ، فقال (عليه السّلام) : يا أبتاه ، عليك منّي السّلام . فكانت له خصوصية في وقت السّلام ، وكيفيته وجوابه .
أمّا سبب تأخيره إلى ذلك الوقت ، فلأنّ الحسين (عليه السّلام) كان جالساً أو واقفاً أمام الخيمة حين أراده سائر الشهداء للمبارزة ، فكانوا يسلّمون عليه على حسب العادة ، ولإدراك ثواب زيارته ، وهم أحياء كما ذكرنا .
وأمّا علي (عليه السّلام) فإنّه لمّا أراد المبارزة جاء الحسين (عليه السّلام) إليه ومشى وراءه ، ولم يستقر حتّى يخاطبه بالسّلام .
وأمّا سبب السّلام بعليك السّلام لا بالسّلام عليك ؛ فلأنّ سلامه كان سلام وداع وانصراف ، لا سلام تحية .
وأمّا خصوصية الجواب ؛ فإنّه (عليه السّلام) لم يجب هذا السّلام ، لأنّه لم يكن سلام تحية يجب ردّه ، ولأنّه عرضت له حالة عند سماع هذا السّلام أسقطت جميع قواه ، وغيّرت أحواله ؛ فأجابه بندائه : (( يا بُني قتلوك ! )) . وسيجيء تفصيل الحال إن شاء الله في عنوان شهادته (عليه السّلام) .

المطلب الثاني : في زواره بعد شهادته قبل دفنه .
فنقول : أوّل مَنْ زاره بعد الشهادة هو الله تعالى العلي العظيم ، كناية عن توجّه خصوصيات الألطاف الخاصة الكثيرة إليه ، والرحمات الإلهية والفيض الربّاني له .
ثمّ زاره رسول الله المصطفى محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وأعطاه الكأس المذخورة له ، وهي التي أخبر بها علي ولده .
فيُعلم من ذلك أنّها كانت في يده قبل شهادته ، وقد سقاه بعدها بلا فاصلة ، وإذا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) زائراً قطعاً فعلي وفاطمة والحسن (عليهم السّلام) معه أيضاً .
ثمّ زاره بعد ذلك الملائكة الذين نزلوا لنصرته فلم يدركوه ، فاُمروا بأن يقوموا عند قبره يزورونه إلى يوم
القيامة ، كما مرّ تفصيل ذلك في عنوان الملائكة .
ثمّ زاره بعد ذلك ذو الجناح ( فرسه ) ، ثمّ الطيور نهاراً ، والوحوش ليلاً ، والجنّ ونساء الجنّ ، لكلّ منهم زيارة خاصة .
وأمّا زواره من الناس فأوّلهم الإمام السجّاد زين العابدين (عليه السّلام) ، وزينب الكبرى (عليها السّلام) ، وسائر أهل بيته الأسرى (عليهم السّلام) ، وأحد عشر طفلاً من أهل البيت ، وقد اجتمع هؤلاء الزوّار ، فقصدوا زيارته .
وأتوا بجميع آداب الزيارة بالطريق الذي ورد بالخصوص في آداب زيارته التي ذكرناها ، فأتوه مغبرين ، جائعين ظامئين ، حزينين باكين ، وزيادة على ذلك أنّهم حفاة عراة حاسرين .
ومنهم مَنْ زاد على ذلك بالأغلال ، والجامعة في العنق الدامي الذي تآكل من شدّة الجامعة التي في عنقه المبارك .
نعم ، قد فاتتهم إحدى الآداب للزيارة ، وهي الغسل بماء الفرات أو الوضوء للزيارة . لكن قد استبدلوا ذلك بتيممهم دماً طيّباً زاكياً ، فمسحوا وجوههم وأيديهم منه ، فصار هذا التيمم أفضل من الغسل بالفرات ، ثمّ شرعوا في الزيارة ، وكانت الزيارة على نحو ما ورد في زياراته : من الابتداء بالسّلام على النبي وعلي وفاطمة والحسن (عليهم السّلام) ، ثمّ السّلام على الإمام الحسين الغريب الشهيد (عليه السّلام) .
وكان أصل الزيارة لزينب الحوراء (عليها السّلام) ، وباقي الزوّار يقرؤون معها ، ولم يُنقل عن الإمام السجّاد (عليه السّلام) بأحد أنواع السّلام مع أنّه أولى بذلك ، والوجه في ذلك أنّه (عليه السّلام) مع أنّه كان عليلاً ، وصار مغلولاً ، وكانت الجامعة في عنقه الدامي ، وما مكّنوه من النزول من الجمل الراكب عليه ، قد عرضت له (عليه السّلام) في ذلك الوقت حالة ، إذ كان يجود بنفسه ، وصار محتضراً.
فتبيّنت منه ذلك زينب الكبرى (عليها السّلام) وسألته ، فأجابها بما أجابها ممّا سنذكر تفصيله إن شاء الله تعالى ؛ فلهذا لم يزر زيارة خطاب وسلام ، واختصّ ذلك بباقِ أهل البيت (عليهم السّلام) ، لكن لم يدعوهنّ ليتممنّ الزيارة ففرّقوا بين الزوّار والمزور ، وقرّبوا الأظعان ، وجروهنّ قهراً من فوق الأجساد ، وجعلوهنّ على أقتاب المطايا يُسار بهنّ إلى الكوفة .

الباب الثاني عشر : في زوّاره (عليه السّلام) بعد دفنـه
وهم أنواع :
منهم مَنْ زاره (عليه السّلام) زيارة مستمرة دائمة ، أو في وقت معين دائم ، فالمستمرون زيارتهم إلى يوم القيامة
دائمة ، ما اتّصل الليل والنهار لا يفترون ، وهم صنف من الملائكة ، وقد تبيّن في عنوان الملائكة .
وأمّا الدوام بحسب الأوقات ، فالذي يجلّ عن المكان ، والمجيء والذهاب وتغيّر الأحوال ، وهو الله العظيم يزوره كلّ ليلة جمعة ، أي يفيض الله تعالى عليه لطفاً خاصاً يعبّر عنه بالزيارة .
ويزوره أيضاً مستمراً في كلّ ليلة جمعة الأنبياء (عليه السّلام) كلّهم ، والأوصياء (صلوات الله عليهم أجمعين) . وكذلك يزوره الأنبياء (عليهم الصلاة والسّلام) بأجمعهم ليلة النصف من شعبان ، وليلة القدر من كلّ سنة دائماً . وأمّا الملائكة جبرئيل وإسرافيل وميكائيل (عليهم السّلام) فلهم أوقات مخصوصة لزيارتهم طول السنة دائماً .
وأمّا أهل هذه النشأة فأوّل مَنْ زاره بعد دفنه سيد الساجدين (عليه السّلام) حين دفنه بعد ثلاثة أيام مع جماعة من بني أسد على التفصيل الذي نذكره في عنوان التجهيز الخاص به . فلمّا سوى القبر زار والده بسلام خاص ، وكلمات مخصوصة ، واضعاً كفّه على القبر كما سيجيء في ذلك العنوان إن شاء الله تعالى .
وبعد ذلك زارته القبائل المحيطة بكربلاء ، حتّى روي أنّه زاره بعد دفنه في سنة أو سنتين مئة ألف امرأة ممّن لا يلدن .
وممّن زاره بعد دفنه بأيّام عقبة بن عمرو السهمي ، ويُقال : أنّه أوّل شاعر رثى الإمام الحسين (عليه السّلام) ، حاء قبره المبارك ووقف على قبره وأنشد يقول :
مررتُ على قبرِ الحسينِ بكربلا     ففاضت عليهِ من دموعي غزيرها
فما زلتُ أرثيهِ وأبكي لشجوه     ويسعدُ عيني دمعها وزفيرها
وبكيتُ من بعدِ الحسين عصابةً     أطافت بهِ من جانبيها قبورها
سلامٌ على أهلِ القبورِ بكربلا     وقلّ لها منّي سلامٌ يزورها
سلامٌ بآصالِ العشي وبالضحى     تؤدّيهِ نكباءُ الرياحِ ومورها
ولا برحَ الوفــّادُ زوّارُ قبره     يفوحُ عليهم مسكُها وعبيرها
* * *

* النكباء : أي الريح المنحرفة عن مهاب الرياح ... ووقعت بين ريحين أو بين الصبا والشمال .
* المور (بالضم) : الغبار .
وأوّل مَنْ زاره (عليه السّلام) قاصداً إليه من بُعد البلاد هو جابر بن عبد الله الأنصاري (صلوات الله تعالى عليه) ، ولزيارته كيفية خاصة نذكرها في محلّها إن شاء الله تعالى .
ثمّ بعد ذلك جعل الله تعالى أفئدة من الناس تهوي إليه (عليه السّلام) ، فقصدته الشيعة من الأطراف في زمن بني أُميّة ، فمنعوا من ذلك ، وجعلوا المراصد والحرس لمنع ذلك ، وأمروا بالقتل والصلب ، وقطع الأيدي والأرجل لك مَنْ زاره ، فلم يزد ذلك إلاّ كثرة زائريه وإلى مدى الدهور .
ثمّ إنّ المتوكّل من بني العباس (لعنه الله) ، لشدّة عداوته بالخصوص مع الزهراء البتول فاطمة (صلوات الله تعالى عليها) وبنيها ، منع من الزيارة أشدّ المنع ، ولمّا رأى ذلك لا يفيد أمر بتخريب القبر الشريف .
ثمّ لمّا رأى أنّ ذلك لا يفيد أمر بمحو أثره بالحرث والنبش وإجراء الماء ، فجعل الله تعالى من خصائص الحسين (عليه السّلام) أنّ هذا الذي خرب القبر ، وحرثه ونبشه ، وأجرى الماء عليه أمر بتعمير القبر ، ونادى المنادي بإذنه في زيارة الإمام الحسين (صلوات الله تعالى عليه) .
وتفصيل ذلك كما في الأخبار ، أنّ المتوكّل (لعنه الله) من خلفاء بني العباس ، كان كثير العدواة ، وشديد البغض لأهل بيت رسول الله المعصومين (عليهم السّلام) .
وهو الذي أمر الموكّلين بحرث قبر الحسين (عليه السّلام) بأن يخربوا بنيانه ، ويخفوا آثاره ، ولا يقف على خبره أحد ، وتوعّد بالقتل مَنْ زار قبره ، وجعل رصداً من أجناده وأوصاهم بقتل كلّ مَنْ وجدوه يريد زيارة الحسين (عليه السّلام) ، يريدون بذلك إطفاء نور الله تعالى ، وإخفاء آثار ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، بل ومحو الإسلام دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده .
فبلغ الخبر إلى رجل من أهل الخير يُقال له ( زيد المجنون ) وكان ذا عقل سديد ، ورأي رشيد ، وإنّما لُقّب بالمجنون لأنّه أفحم كلّ لبيب ، وقطع حجّة كلّ أريب ، وكان لا يعيى من الجواب ، ولا يملّ من الخطاب .
فسمع بخراب بنيان الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وحرث مكانه ، فعظم ذلك عليه ، واشتدّ حزنه وتألّمه ، وتجدد مصابه بسيده الحسين (عليه السّلام) ، وكان مسكنه يومئذ بمصر .
فلمّا غلب عليه الحزن والوجد لحرث قبر الإمام (عليه السّلام) خرج من مصر ماشياً هائماً على وجهه ، شاكياً همّه وكربه إلى ربّه تعالى ، وبقي حزيناً كئيباً ، حتّى بلغ الكوفة .
وكان بهلول يومئذ فيها فلقيه زيد المجنون ، فسلّم عليه فردّ عليه السّلام ، فقال له بهلول : من أين لك بمعرفتي؟ ولم ترني قطّ؟
فقال زيد : يا هذا ، اعلم أنّ قلوب المؤمنين جنود مجنّدة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .
فقال له بهلول : يا زيد ، ما الذي أخرجك من بلادك بغير دابة ومركوب ؟
فقال : والله ، ما خرجت إلاّ من شدّة وجدي وحزني ، وقد بلغني أنّ هذا اللعين أمر بحرث قبر الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وتخريب بنيانه ، وقتل زوّاره ، فهذا الذي أخرجني من موطني ، ونغّص عيشي ، وأجرى دموعي ، وأقلّ هجوعي ، ( الهجوع : النوم الخفيف ) .
فقال بهلول : وأنا والله كذلك .
فقال له : قم بنا نمضي إلى كربلاء لنشاهد قبور أولاد علي المرتضى (عليهم السّلام) .
قال : فأخذ كلّ بيد صاحبه حتّى وصلا إلى قبر الحسين (عليه السّلام) ، فإذا هو على حاله لم يتغيّر ، وقد هدموا بنيانه ، وكلّما أجروا عليه الماء غار وحار واستدار بقدرة العزيز الجبّار ، ولم تصل قطرة واحدة إلى قبر الحسين (عليه السّلام) .
وكان القبر الشريف إذا جاءه الماء ترتفع أرضه بإذن الله تبارك تعالى ، فتعجّب زيد المجنون ممّا شاهده ، وقال : انظر يا بهلول ، ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .
قال : ولم يزل المتوكّل يأمر بحرث قبر الحسين (صلوات الله عليه) مدّة عشرين سنة ، والقبر على حاله لم يتغيّر ، ولا تعلوه قطره من الماء . فلمّا نظر الحارث إلى ذلك قال : آمنت بالله تعالى ، وبمحمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) . والله لأهربنّ على وجهي ، وأهيم في البراري ، ولا أحرث قبر الإمام الحسين (عليه السّلام) ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإنّي منذ عشرين سنة أنظر آيات الله تعالى ، وأُشاهد
براهين آل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا أتّعظ ولا أعتبر !
ثمّ إنّه حلّ الثيران وطرح الفدان ، وأقبل يمشي نحو زيد المجنون ، فقال له : من أين أقبلت يا شيخ ؟ قال : من مصر . قال : ولأي شيء جئت إلى هنا ، وإنّي لأخشى عليك القتل ؟
فبكى زيد وقال : والله ، قد بلغني حرث قبر الحسين (عليه السّلام) فأحزنني ذلك ، وهيّج حزني ووجدي . فانكبّ الحارث على أقدام زيد يقبّلهما وهو يقول : فداك أبي وأُمّي !
فقال : يا شيخ ، منذ إقبالكم عليّ أقبلت عليّ الرحمة ، واستنار قلبي بنور الله تعالى ، وإنّي آمنت بالله وبرسوله ، وإنّي ومنذ عشرين سنة وأنا أحرث هذه الأرض ، وكلّما أجريت الماء [على] قبر الحسين (عليه السّلام) غار وحار واستدار ولم يصل إلى قبر الحسين (عليه السّلام) منه قطرة ، وكأنّي كنت في سكر وأفقت الآن ببركة قدومك إليّ .
فبكى زيد وتمثّل بهذه الأبيات ، فقال :
تا اللــهِ إن كانت أُميّة قد أتت     قتلَ ابنَ بنتِ نبيّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيهِ بمثله     هذا لعمرُكَ قبرُهُ مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا     في قتلهِ فتتبّعوهُ رميما

* * *
فبكى الحارث وقال : يا زيد ، قد أيقظتني من رقدتي ، وأرشدتني من غفتلي ، وها أنا الآن ماضٍ إلى المتوكّل بسر مَنْ رأى أعرّفه بصورة الحال ، إن شاء يقتلني ، وإن شاء يتركني .
فقال له زيد : أنا أيضاً أسير معك البتة ، وأساعدك على ذلك .
قال : فلمّا دخل الحارث على المتوكّل وخبّره بما شاهد من برهان قبر الإمام الحسين (عليه السّلام) استشاط غيظاً ، وازداد بغضاً لأهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأمر بقتل الحارث ، وأمر أن يُشدّ في رجله حبل ويُسحب على وجهه في الأسواق ، ثمّ يُصلب في مجمع الناس ؛ ليكون عبرة لِمَنْ اعتبر ، ولا يبقى أحد يذكر أهل البيت (عليهم السّلام) بخير أبداً .
وأمّا زيد المجنون فإنّه ازداد حزنه ، واشتدّ عزاؤه ، وطال بكاؤه ، وصبر
حتى أنزلوه من الصلب ، وألقوه في زبالة هناك ، فجاء إليه زيد فاحتمله إلى نهر دجلة فغسّله وكفّنه وصلّى عليه ودفنه ، وبقي ثلاثة أيام لا يُفارق قبره ، وهو يتلو كتاب الله تعالى عنده .
فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع صراخاً عالياً ، ونوحاً شجيّاً ، وبكاء عظيماً ، ونساء كثيرات منتشرات ، مشقّقات الجيوب ، مسودّات الوجوه ، ورجالاً كثيرين يندبون بالويل والثبور ، والناس في اضطراب شديد ، وإذا بجنازة محمولة على أعناق الرجال ، وقد نشرت لها الأعلام والرايات ، والناس من حولها أفواج ، وقد انسد الطريق بالرجال والنساء .
قال زيد : فظننت أنّ المتوكّل قد مات ، فتقدّمت رجلاً منهم ، فقلت له : مَنْ يكون هذا الميت ؟ فقال : هذه جنازة جارية المتوكّل ، وهي جارية سوداء حبشية ، وكان اسمها ريحانة ، وكان يحبّها حبّاً شديداً ، ثمّ إنّهم عملوا لها شأناً عظيماً ودفنوها في قبر جديد ، وفرشوا فيه الورد والرياحين ، والمسك والعنبر ، وبنوا عليها قبّة عالية .
فلمّا نظر زيد إلى ذلك ازدادت أشجانه ، وتصاعدت نيرانه ، وجعل يلطم وجهه ، ويمزّق أطماره(1) ، ويحثوا التراب على رأسه وهو يقول : وا ويلاه ! وا أسفاه عليك يا حسين ! أتُقتل بالطفّ غريباً وحيداً فريداً ، ظمآن شهيداً ، وتُسبى نساؤك وبناتك وعيالك ، ويُذبح أطفالك ، ولم يبكِ عليك أحد من الناس ، وتُدفن بغير غسل ولا كفن ، ويُحرث بعد ذلك قبرك ؛ ليطفئوا نورك ، وأنت ابن علي المرتضى ، وابن فاطمة الزهراء ، ويكون هذا الشأن العظيم لموت جارية سوداء ، ولم يكن الحزن والبكاء لابن محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) !
فلم يزل يبكي وينوح حتّى غشي عليه ، والناس ينظرون إليه ، فمنهم مَنْ رقّ له ، ومنهم مَنْ حنا عليه ، فلمّا أفاق من غشيته أنشد يقول :
أيُحرثُ بالطفّ قبرُ الحسيـن     ويُعمرُ قبرُ بني الزانيه
لعلّ الزمــانُ بهم [قد] يعود     ويأتـــي بدولتهم ثانيه
ألا لعنَ اللهُ أهلَ الفســاد     ومَنْ يأمــنُ الدنيا الفانيه !

* * *
ثمّ إنّ زيداً كتب هذه الأبيات في ورقة وسلّمها لبعض حجّاب المتوكّل .
قال : فلمّا قرأها اشتدّ غيظه ، وأمر بإحضاره فأُحضر ، وجرى بينه وبينه من الوعظ والتوبيخ ما أغاظه حتّى أمر بقتله (صلوات الله عليه) ، فلمّا مثل بين يديه سأله عن أبي تراب (عليه السّلام) مَنْ هو ؟ استحقاراً له .
فقال زيد : والله ، إنّك عارف به وبفضله ، وشرفه وحسبه ونسبه ، فوالله ما يجحد فضله إلاّ كافر مرتاب ، ولا يبغضه إلاّ منافق كذاب .
وشرع بعرض فضائله ومناقبه حتّى ذكر منها ما أغاظ المتوكّل (لعنة الله تعالى عليه) ، فأمر بحبسه فحبس ، فلمّا أسدل الظلام وهجع جاء إلى المتوكّل هاتف رفسه برجله ، وقال له : قم واخرج زيداً من حبسه ، وإلاّ أهلكك الله تعالى عاجلاً .
فقام هو بنفسه (لعنة الله عليه) وأخرج زيداً (صلوات الله عليه) من حبسه ، وخلع عليه خلعة سنية ، وقال له : اطلب ما تريد .
قال : أريد عمارة قبر الإمام إمامنا الحسين (عليه السّلام) ، وأن لا يتعرض أحد لزوّراه (عليه السّلام) . فأمر له بذلك ، فخرج من عنده فرحاً مسروراً ، وجعل يدور في البلدان وهو يقول : مَن أراد زيارة الحسين (صلوات الله تعالى عليه) فله الأمان طول الأزمان .
انتهى العنوان السابع

 



(*)هكذا وردت العبارة الأخيرة ، ويبدو أنّ هناك سقطاً وقع أثناء النسخ قد أربك السياق . (موقع معهد الإمامين الحسنين)
(1)أي هو الجهاد في سبيله تعالى في سبيل الله .
(2)    كامل الزيارات / 295 ، وأيضاً بحار الأنوار 98 / 12 .
(3)لم نعثر على هذا النص في موسوعاتنا الروائية ، والذي وجدناه للإمام (عليه السّلام) هو : (( إنّي أقول : أقاتلكم وتقاتلونني ، والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حيّاً )) . (راجع اللهوف في قتلى الطفوف ـ للسيد ابن طاووس / 71) . وأمّا ما ذُكر فهو مقطع من بيت شعر على لسان حاله (عليه السّلام) وهو :
قال اقصدوني واتركوا حرمي     قد حان حيني وقد لاحت لوائحه
(موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(4)معنى وجدكما أي حزنكما .
(5)أطمار : جمع طمر (بالكسر) ، كحمل وأحمال ، وهو الثوب الخلق والكساء البالي .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page