• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

المجلس السّابع والأربعون بعد المئة

 

المجلس السّابع والأربعون بعد المئة(1)
خلا الجوُّ لمعاوية بعد مقتل الحسن (عليه السّلام) بالسمّ ، أمّا زياد بن أبيه فقد تكفّل بالقضاء على كلّ العناصر القيادية في العراق ، مستعملاً في ذلك أبشع الوسائل .
وفي المدينة عاشت الإرستقراطية العربية في بحبوحة من العيش , عاشت في قصور ناعمة يُجلب إليها من كلّ الأقطار وسائل التّرفيه , ويعيش في غُرفاتها القيان والعبيد ، ويجلس الأمير في حاشية من صحبه وخدمه والمتزلّفين إليه .
وكانت إرستقراطية المدينة تتكوّن أساساً من الولاة السّابقين الذين فرّوا بمال بيت المال ، أو أغدق عليهم معاوية ما شاءت له سياسته ؛ ليتقاعدوا ويكفّوا يدهم عن السّياسة ، ومن كبار المحاربين ذوي الاُعطيات الضّخمة وأصحاب الثّروات الطّائلة ، ومن أبناء هؤلاء جميعاً وأتباعهم . وستصبح المدينة بعد ذلك مكانا شاعريّاً يظهر فيها الغناء والشّعر ، والموسيقى والرّقص كأزهى ما كانت عليه مدينة في عصور الازدهار القديمة .
ومن المُمكن تصوّر كيف كانت تفكّر هذه الإرستقراطية
؛ كانت أحاديث السّياسة هي الغالبة ، وكان البحث عن مواقع القُرى ومراكز التّجمع والأنصار شغلهم الشّاغل في المدينة , كذلك كان الحسين (عليه السّلام) ظاهراً كأكثر الرّجال شعبية ، وأظفرهم برضاء عامّة المُسلمين وقواعدهم , وكان هُناك أيضاً عبد الله بن الزّبير ، كما كان هناك سعد بن أبي وقاص ، كما كان هناك مروان بن الحكم قطب بني اُميّة الكبير ، كما كان هناك عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد , وغير هؤلاء كثيرون من نفس الطّبقة أو أقلّ قليلاً .
وكلّ من هؤلاء كان يتطلّع إلى الخلافة وينظر إلى السّياسة ويُفكّر فيها من هذه الزّاوية , ووراءهم مباشرة يأتي الولاة الذين يستمدّون سُلطانهم في حكم أمصار ضخمة كالعراق ومصر وغيرهما من الإنضمام إلى هذا الفريق أو ذاك . والنّظام الفوقي للدولة يتكوّن عموماً من هذه الإرستقراطية التّي تصطرع فيما بينها على السّلطة , وتكوّن كلّ منها تجمّعات حولها في مواقع مختلفة تستفيد منها في تدعيم نفوذها , وتتربّص باللحظة المُناسبة للوثوب إلى السّلطة .
ولكن أقوى الأحزاب جميعاً هو الحزب الحاكم المنتصر ؛ حزب معاوية الذي لم يكن يملك النّفوذ فقط ، بل يملك القوّة الرّسمية الضّاربة أيضاً , وهي القوة الوحيدة المُنظّمة . وإذا كانت الإرستقراطية العربية المُقيمة في المدينة تملك المال الوفير ، فإنّ هذا المال لا يُقاس ببيت المال الذي يتحكّم فيه معاوية ، والذي يُجبى إليه من جميع الأمصار التّي تخضع لحكم الدّولة .
وفي هذا الصّراع العنيف من أهل السّلطة كثرت التجمعات ، وغلبت المصلحة على كلّ شيء ، ووصلت الأخلاق العامّة إلى أقصى درجة من الانحدار . ورأينا كيف يخرج الرّجل من ولاء إلى ولاء في سهولة ويسر ، وهو في ولائه الثّاني أكثر التزاماً من ولائه الأوّل ، ثُمّ لا يلبث أنْ ينتقل إلى ولاء ثالث بنفس القوّة على تعارض كلّ جبهة من هذه الجبهات ! وكان القتل هو أبسط الوسائل التّي يستعملها الحكّام في هذا الصّراع ، إذ كان التّمثيل بالجثث والصّلب على الأشجار ، وتقطيع الأيدي والأرجل ، وألوان العقاب البدني المختلفة هي لغة الحديث اليومية ، أمّا الوقيعة والدّس والتّزلّف والخيانة والسّرقة والنّهب ، فهي السّمة العامّة لتلك المرحلة . وفي سبيل السّلطة لم يكن الرّجل ذو النّخوة يخجل من أنْ يثلم عرضه إذا كان في هذا منفعة .
وقُصّة زياد بن أبيه قصّة غريبة تدعو للتأمّل ؛ حيث نَسبه معاوية إلى أبيه ـ أبي سفيان ـ ليكون أخاه ، مُدّعياً أنّ أبا سفيان قد عاشر اُمّه سميّة , وهي زوجة رجل آخر ، فأنجب زياداً منها . وأغرب ما في هذه القصّة ، إنّ ادّعاء هذه الإخوّة تمّ في مجلس علني رسمي حتّى يتحقق الإدّعاء على رؤوس الأشهاد ، فلم يخجل منه زياد , موازناً بين مغانم هذه الإخوّة وبين ازداراء النّاس له , ففضّل اخوّة الخليفة على سلامة العرض . وزياد كان في أوّل أمره مع علي (عليه السّلام) . ثُمّ على يدي زياد لاقى العلويّون القتل والصّلب والتّقطيع بعد أنْ عمل لمعاوية ، وكان بينه وبين البشر ثأراً قديماً .
وزياد هو صاحب قصّة حجر المشهورة التّي قتل فيها ستّة من المسلمين الشّرفاء ؛ لأنّهم رفضوا أنْ يسبّوا عليّاً (عليه السّلام) أمام النّاس ، فهذا الإنتهازي الغريب الذي كان إلى جانب علي (عليه السّلام) كان يدعو النّاس فيأمرهم بأنْ يسبّوا عليّاً (عليه السّلام) حتّى إذا امتنعوا أوقع بهم أبشع أنواع العذاب .
وقصّة حجر وأصحابه أخذت من كتب التّاريخ الإسلامي صفحات كثيرة , فكان يؤتى بالرّجل منهم بعد أنْ يُحفر قبره أمامه ليعدل عن موقفه , فإذا أبى قُتل ودُفن في قبره المحفور . والذي فعله زياد هذا يقصر عمّا فعله بعده ولده عُبيد الله بن زياد .
على أنّ هناك حادثة اُخرى تُثير التأمّل ، وتكشف عمّا يستطيع أنْ يفعله الطّموح إلى السّلطة بالإنسان وكرامته ، كما تستطيع أنْ تكشف عن أخلاقيّات معاوية ووجهة نظره إلى الحياة .
فهناك رجل اسمه عبد الله بن سلام كان والياً لمعاوية على العراق , تزوّج من امرأة هي اُرينب بنت إسحاق ، وقيل : إنّها كانت أجمل امرأة في عصرها ، وإنّ يزيد بن معاوية رآها فأحبّها حتّى أمرضه الحبُّ ، وعرف معاوية بهذه القصّة وأنّ المرأة امتنعت على ولده ، ففكّر في أنْ يُطلّقها من زوجها ليزوّجها من يزيد . فأرسل معاوية إلى عبد الله بن سلام فاستدعاه , وعندما جاء قرّبه إليه ثُمّ فاتحه في أنْ يزوّجه من ابنته , فما كان من الرّجل إلاّ أنْ طار فرحاً , ولكنّ معاوية عاد فقال : إنّه لا ينبغي أنْ يجمع إلى زواجه من ابنته زوجة اُخرى . ولم يُفكر عبد الله بن سلام إلاّ قليلاً , فطلّق امرأته اُرينب , وبعد الطّلاق فوجئ بإنّ ابنة معاوية ترفض زواجه , وأنّ معاوية رجل مُتحضّر يرفض أنْ يُرغم ابنته على زواجٍ تأباه .
أمّا اُرينب فقد رفضت طلب رسول معاوية ، وإنقاذاً للموقف سارع الحسين (عليه السّلام) بزواجها ، حتّى اذا رجع عبد الله بن سلام خائباً ردّها الحسين (عليه السّلام) دون أنْ يقربها .
مثل هذه القصّة تكشف عن المدى الذي وصلت إليه أخلاق النّاس ، وكيف استطاع الحُكم أنْ يُفسد هذه الأخلاق حتّى يهبط بها إلى هذا المستوى ! وسنجد أنّ الأخ يخذل أخاه ، والابن يعقُّ أباه ، وأنّ الخوف والطّمع هُما المُحرّكان الأساسيان في هذا المُجتمع .
وفي هذا الجوِّ المُخيف من انهيار القيم , فكّر معاوية في أنْ يورّث الخلافة في بيته ، ولم ينقضِ نصف قرن على الإسلام .
وتروي الكتب القديمة : أنّ معاوية قد اُوحي إليه بهذه الفكرة من أحد الدّهاة المُتزلّفين هو المغيرة بن شعبة ، وكان الخليفة قد غضب عليه في أمر من الاُمور ،
فاراد أنْ يشتري رضاءه بهذه الزّلفى ، وأنْ يضيف إليها إسهامه في انتزاع البيعة من الولاية التّي يحكمها.
ومثل هذه الرّواية لا تستبعد في هذه الظّروف ، والواقع يؤكدها ؛ فقد انتهى الأمر فعلاً إلى خلافة يزيد بن معاوية . ولكنّ الغريب أنّ يزيد هذا كان سكّيراً عربيداً متبطّلاً ، وقصّة غرامه باُرينب بنت إسحق تكشف عن طبيعته المتبطّلة المتفسّخة ، وأنّها لجرأة في النّفاق من المغيرة بن شعبة هذا أنْ يقترحه على معاوية خليفة للمسلمين ! وبدأ معاوية يعمل لتنفيذ الفكرة ، غير عابئ بردّ الفعل الخطير الذي سيحدثه في الرّأى العام للمسلمين ، فما من مسلم إلاّ ويعلم سيرة يزيد ، وما من مسلم إلاّ ويرفض أنْ يتحوّل الإسلام إلى كسروية أو قيصرية . ومع ذلك فقد فُرض يزيد خليفة على المسلمين وبويع بالخلافة في عهد أبيه !
ولسنا في حاجة إلى تقصّي قصّة هذه البيعة , ولا ما قيل من روايات كثيرة عن الاُسلوب الإرهابي الذي اتبعه معاوية , إلاّ أنّ الواضح أنّ الشّعب كان في وادٍ والسّلطة في وادٍ آخر . وحين يحكم السّيف ، تضيع الكرامة ويستسلم النّاس ويستدعون من أنفسهم كلّ الكوامن الخبيثة ؛ ليعايشوا السّلطة القاهرة بأسلحة من طباعها .
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) من المجالس التّي أضفناها إلى الطّبعة السّابقة . وهذا المجلس مع المجالس الثّلاثة التّي تليه ، بقلم الاستاذ أحمد عباس صالح .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page