فلسفة التمحيص والاختبار :
تكشف الأحاديث الاربعة المتقدمة وغيرها من الاحديث الأخرى الواردة في موضوعها عن التخطيط الالهي المقتضي لامتحان المسلمين واختبارهم في غيبة إمام الزمان عليه السّلام ، لمن الغيبة لا سيّما إذا كانت طويلة وزائدة على عمر الإنسان الطبيعي بعشرات المرّات ، ستورث الشكّ في النفوس الضعيفة في بقاء صاحب الغيبة حيّاً طوال تلك الفترة ، وقد يؤول هذا الشكّ إلى الطعن باستمرار وجوده الشريف !
والمراد بالتمحيص : التفية بأخذ الشيء الحيد وابعاد الشيء الردي.
وبالتمييز : التفرقة بين شيئين بموجب خصائص معينة ، والمراد هنا معرفة الناس على حقيقتها بالاختبار.
وبالغربلة : نخل الشيء بالغربال.
وفي حديث الإمام الباقر عليه السّلام : « والله لتميّزنّ ، والله لتمحّصنّ ، والله لتغربلنّ كما يغربل الزوان من القمح » (1).
والزوان : حبوب صغيرة تختلط بالحنطة وتكون على شكلها ولكنها ليست منها ، فانظر إلى دقة التمثيل وروعته ، فكما تخرج الزوان عن القمح بالغربال فكذلك يخرج ضعفاء الإيمان بقانون التمحيص ، وغربالهم ليس إلاّ الظروف الصعبة التي يمر بها الإنسان في حياته ، وما تحيط بتلك الحياة من مصالح ضيقة وشهوات ومغريات.
وقول الإمام الصادق عليه السّلام : « وسيخرج من الغربال خلق كثير » ليس اعتباطاً إذن ، وإنّما هو يحكي عن حقيقة ثابتة نطق بها القرآن الكريم بذم الكثرة ومدح القلة في كثير من الآيات البينات : ( وكثير منهم فاسقون ) (2) ( وما آمن معه إلاّ قليل ) (3).
وكل هذا يشير إلى أن أكثر البشر يتبعون الباطل ، وينحرفون مع الشهوات ، ويندفعون تجاه مصاليهم ، حتى ليكونوا عونا للظالمين ، ويدا لهم ، وفي مقابل هذا تبقى في نتيجة الامتحان والتمييز والتمحيص الطويل ثلة لا يضرها من ناوأها حتى يقاتل آخرها الدجال ؛ لأنهم يمثلون الحق صرفاً الذي لا باطل معه أصلاً.
ونظرة واحدة إلى القرآن الكريم تكشف آن قانون التمحيص الالهي لم يختص بفئة أو اُمّة من الناس ، بل هو قانون عام للبشريّة في جميع مراحل تاريخها ، ويدلنا على ذلك :
قوله تعالى : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتّى يميز الخبيث من الطّيّب ) (4).
وقوله تعالى : ( ليميز الله الخبيث من الطيّب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فير كمه جميعاً فيجعله في جهنّم أولئك هم الخاسرون ) (5).
وقوله تعالى : ( وليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين ) (6).
ومن غير شك أن قانون التمحيص لابد وأن يكون أشد وآكد إذا ما اقترن أمره باعداد النخبة الصالحة التي ينبغي أن تعيش الاستعداد الكامل لنصرة الاحق وأهله من خلال انتظارها لدولة الحق المرتقبة على بد المنقذ العظيم الإمام المهدي عليه السّلام.
لقد أراد الله عزّوجلّ أن يكون التمحيص في الغيبة الكبرى لإمام العصر والزمان عظيماً ؛ ليتضح من خلاله ما إذا كانت تصرفات الانسان وأقواله منسجمة مع الدين أو لا. ولا شكّ أن من يعبرالاختبار الصعب
سوف لن يهمل وظيفته الاجتماعية الكبرى : الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، باعتبارهما من أبرز وظائف عصر الانتظار المتقوم بالإيمان ، والتضحية ، والصمود.
ولا يخفى بأن الغرض من أحاديث التمحيص والاختبار كلها إنّما هو يصبّ في خدمة أجيال الغيبة ؛ لكي ينتبهوا من غفلتهم ويلحظوا ما ينبغي ملاحظته من أمور :
كعدم الاغترار بلمع السراب من كلام المشعوذين الكاذبين.
ومعرفة مكائد السفهاء وأعداء الحق ، من الذين في قلوبهم مرض والمفتونين.
والتعوّذ من زخارف إبليس وأشياعه في كل زمان ومكان.
والتمسّك بالثقلين : كتاب الله والعترة الطاهرة عليهم السّلام.
وعدم استطالة المدى في غيبة المولى عليه السّلام ؛ لمن الظهور الشريف آت لا محالة ومثلة مثل الساعة : ( لا يُجلّيها لوقتها إلاّ هو ثقلت في السّموات والأرض لا تاتيكم إلاّ بغتةً ) (7).
والتدرّع بالصبر على النتظار الحبيب صاحب الطلعة الرشيدة والغرّة الحميدة.
وارتفابه ببصيرة لا حيرة فيها ، ويقيناً لا شكّ معه.
والاعتقاد الحازم بأن الله تعالى سيصلح له أمره في ليلة واحدة وحينئذٍ سيقبل كالشهاب الثاقب.
1 ـ كتاب الغيبة / النعماني : 205 / 8 من الباب السابق.
2 ـ سورة الحديد : 57 / 16.
3 ـ سورة هود : 11 / 40.
4 ـ سورة آل عمران : 3 / 179.
5 ـ سورة الانفال : 8 / 37.
6 ـ سورة آل عمران : 3 : 141 ـ 142.
7 ـ سورة الاعراف : 7 / 187.