• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

أوّلاً: مجال القرآن والحديث

 عاش الإمام السجاد عليه السلام، فترة نشاطه إماماً للشيعة، من سنة (61- 95) مدّة الثلث الأخير من القرن الأول .
والقرن الأول بالذات هو فترة المنع الحكومي من رواية الحديث ونقله وكتابته وتدوينه، قبل أن يُرفع هذا المنع بقرار من قبل الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز .
وكانت عملية منع الحديث تدويناً ورواية بدأت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، واستمرّ عليها الحكّام الذين تسنّموا أرائك الخلافة بداً بأبيبكر، ثم عمر الذي كان أكثر تشديداً ونكيراً على مَنْ كتب شيئاً من الحديث أو نقله ورواه، بحيث استعمل كل أساليب القمع من أجل الوقوف دون تسرّب شي منه، فحبس جمعاً من الصحابة من أجل روايتهم الحديث، وهدّد آخرين بالضرب والنفي، وأحرق مجموعة من الكتب التي جمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
والتزم الحكّام من بعد عمر، سنّة عمر وسياسته في منع تدوين الحديث وروايته، وقد أعلن عثمان ومعاوية عن اتّباعهما لعمر في منع الحديث النبوي (إلاّ حديثاً كان على عهد عمر )(130) .
وقد ظلّت سياسة عمر بمنع الحديث سارية المفعول، حتّى بلغ الأمر إلى أن الحجّاج الثقفي سفّاك العراق قام بالاعتدأ على كبار صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فختم على أيديهم وأعناقهم، حذراً من أن يحدّثوا الناسَ، أو يسمع الناسُ حديثهم (131) .
فلم يكن القيام بأمر رواية الحديث في مثل هذه الفترة بالذات، وفي مثل هذه الأجواء أمراً سهلا، ولا هيّناً .
ولقد قاوم أئمة أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم هذه السياسة المخرّبة ضدّ أهمّ مصادر الفكر الإسلامي، فكانوا إلى جانب كتابتهم للحديث، وإيداعه المؤلّفات يبادرون بحزم إلى رواية الحديث ونشره وبثّه، على طول تلك الفترة.
وقد عرفنا أنّ الإمام السجّاد كما قال ابن سعد: كان (ثقة مأموناً كثير الحديث عالياً رفيعاً ورعاً) (132) وقد أكثر من نقل الحديث وروايته حتّى أفاد علماً جمّاً، كما قال النَسّابه العمري (133)
ولاريب في أن تصدي الإمام السجاد عليه السلام للوقوف في وجه المنع السلطوي، وقيامه بأمر رواية الحديث ونقله، ليس إلاّ تحدياً صارخاً لأوامر الدولة وسياستها !.
ثم إنه عليه السلام كان يطبّق السنة ويدعو إلى تطبيقها والعمل بها فقد روي عنه أنه قال: إن أفضل الأعمال ما عمل بالسنّة وإن قلّ(134) .
وكان يندّد بمن يستهزي بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويدعو عليه ويقول: ما ندري، كيف نصنع بالناس ? إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحكوا، وإن سكتنا لم يسعنا . ثم ندّد بمن هزأ من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (135)
وقد رُوِيتْ عن الإمام السجَاد عليه السلام مجموعة كبيرة من الأحاديث المسندة المرفوعة، واُخرى موقوفة على آبائه عليهم السلام .
وأمّا ما صدر منه من الحديث الذي يعتبر من عيون الحديث الذي يعتزّ به التراث الشيعي فكثير جداً، ولذلك عدّ الحافظ الذهبي، الإمام السجاد عليه السلام من الحفاظ الكبار وترجم له في طبقات الحفّاظ الكبار(136) .
ومع كل هذا، فأين موقع كلمةٍ قالها بعض النواصب أن الإمام عليه السلام كان (قليل الحديث) ? (137)
ثم إن محتوى الأحاديث المرويَة عن طريق الإمام السجاد عليه السلام، وتلك المنقولة عنه تشكّل مجموعة من النصوص الموثوقة، التي يطمئنّ بها المسلم، فقد تمّ نقلها من مصدر أمين، متصل بينابيع الوحي والرسالة، وفيها ما يسترشد به المسلم، ويعرف من خلاله مصالحه، ويحدّد واجباته، ويدفع عنه اليأس (138)، مثل روايته المرفوعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (انتظار الفرج عبادة) (139).
فقد يكون الإنسان في مثل تلك الظروف الحرجة المأساوية معرضاً للقنوط ولكن بانتظار الفرج وتوقّع كشف الغمّ، المستتبع للعمل من أجل ذلك والكون على استعدادٍ له، والإعداد لحصوله، هو أفضل وسيلة للنجاة من مأزق الياس، وموت الخمول .
ومع القرآن:
إن القرآن الكريم، باعتباره الوحي الإلهي المباشر، والمصدر الأساسي المقدّس بنصّه وفصّه، والذي اتفقت كلمة المسلمين على حجيته وتعظيمه وتقديسه، فهو الحجّة عند الجميع، والفيصل الذي لا يردّ حكمه أحد ممن يلتزم بالإسلام ديناً وبمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّاً .
ولذلك كانت دعوة أهل البيت عليهم السلام إلى الالتزام به، والاسترشاد به وقرأته والحفاظ عليه، دعوة صريحة مؤكدة .
وفي الظروف التي عاشها الإمام زين العابدين عليه السلام، كان الحكّام بصدد اجتثاث الحقّ من جذوره واُصوله ومنها القرآن، بقتل أعمدته وحفظته ومفسّريه (140) .
فكانت الدعوة إلى القرآن من أوجب الواجبات على الأئمة عليهم السلام مضافاً إلى ما ذكرنا من قدسيّة القرآن عند الجميع، فلم يتمكّن الحكّام من منع تعظيمه وقرائته والدعوة إليه .
فقام الإمام زين العابدين عليه السلام بجهد وافر في هذا المجال :
ففي الحديث أنه قال: عليك بالقرآن، فإن الله خلق الجنة بيده، لبنة من ذهب ولبنة من فضّة، وجعل ملاطها المسك، وترابها الزعفران، وحصاها اللُؤلؤ، وجعل درجاتها على قدرآيات القرآن، فمن قرأ منها قال له: (إقرأ وارق) ومن دخل الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه، ما خلا النبيين والصديقين (141) .
واُسْنِدَ عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول: آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها(142) .
وقال عليه السلام: من ختم القرآن بمكّة لم يمت حتّى يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويرى منزله في الجنة (143) .
وكان يعبّر عن كفاية القرآن، بتعاليمه الروحانية القيّمة، بكونه مؤنساً للانسان المسلم، يعني: أنّ الوحشة إنّما هي بالابتعاد عن هذه التعاليم حتّى لو عاش الإنسان بين الناس، فكان يقول: لو مات مَنْ ما بين المشرق والمغرب ما استوحشتُ بعد أن يكون القرآن معي(144) .
وهكذا يجدّ الإمام عليه السلام في تعظيم القرآن، وتخليده في أعماق نفوس الأمة، كما يسعى في التمجيد له عملياً وبأشكال من التصرفات :.فممّا يؤثر عنه عليه السلام: أنه كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، حتّى: أن السقّائين كانوا يمرّون ببابه، فيقفون لاستماع صوته، يقرأ...(145) .
وقال سعيد بن المسيب: إن قرّأ القرآن لم يذهبوا إلى الحج إذا ذهب علي بن الحسين عليه السلام، ولم يخرج الناس من مكّة حتّى يخرج علي بن الحسين عليه السلام (146) .
وفي بعض الأسفار بلغ عدد القرأ حسب بعض المصادر: ألف راكبٍ (147) .
وقد كان الإمام السجّاد عليه السلام مرجعاً في علوم القرآن ومعارفه، يسأله كبار العلمأ عن القرآن : قال الزهري: سألت علي بن الحسين: عن القرآن ? فقال: كتاب الله، وكلامه (148) .
وقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يستفيد من تفسير القرآن في إرشاد الاُمة إلى ما يُحييهم، ويطبّق مفاهيمه على حياتهم، ويحاول تنبيههم الى ما يدور حولهم من قضايا، وإليك بعض النصوص:
روي أنه عليه السلام قال في تفسير قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) سورة البقرة (2] [) الاَية (179): (ولكم) يا أمة محمّد (في القصاص حياة) لأن مَنْ هَمَ بالقتل، فعرف أنه يقتصّ منه، فكفّ لذلك من القتل، كان حياة للذي همّ بقتله، وحياة لهذا الجافي الذي أراد أن يقتل، وحياة لغيرهما من الناس: إذا علموا أن القصاص واجب، ولا يجسرون على القتل مخافة القصاص (يا أولي الألباب) اولي العقول (لعلكم تتقون) .
ثم قال عليه السلام: عباد الله، هذا قصاص قتلكم لمن تقتلونه في الدنيا، وتفنون روحه! أفلا اُنبئكم بأعظم من هذا القتل ? وما يوجبه الله على قاتله ممّا هو أعظم من هذا القصاص ?
قالوا: بلى، يابن رسول الله . قال: أعظم من هذا القتل أن يقتله قتلاً لا يُجبر، ولا يحيى بعده أبداً قالوا: ماهو ?
قال: أن يضلّه عن نبوّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعن ولاية علي بن أبيطالب عليه السلام، ويسلك به غير سبيل الله، ويغيّر به باتباع طريق أعدأ عليّ والقول بإمامتهم، ودفع عليّ عن حقّه، وجحد
فضله :، وأن لا يبالي بإعطائه واجب تعظيمه، فهذا هو القتل الذي هو تخليد المقتول في نار جهنم، مخلداً أبداً، فجزأ هذا القتل مثل ذلك: الخلود في نار جهنم (149) .
وكان الإمام زين العابدين عليه السلام كثيراً ما يستشهد بآيات من القرآن ويستدلّ بها، وعندما يجد مناسبة يعرّج على تطبيق ذلك على الحالة الاجتماعية المتردّية التي كان يعيشها المسلمون .
ففي الخبر: إنه عليه السلام كان يذكر حال مَنْ مسخهم الله قردة من بني إسرائيل، ويحكي قصتهم (المذكورة في القرآن) فلما بلغ آخرها، قال: إن الله تعالى مسخ اُولئك القوم، لاصطيادهم السمك.
فكيف ترى عند الله عزوجل يكون حال من قتل أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهتك حريمه ?
إن الله تعالى، وإن لم يمسخهم في الدنيا، فإن المعدّ لهم من عذاب الاَخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ (150) .
إن تصدّي الإمام زين العابدين عليه السلام لهذه القضايا، لاشك أنه أكثر من مجرد تعليم وتفسير للقرآن، بل هو تطبيق له على الحياة المعاصرة، وتحريك للأفكار ضدّ الوضع الفاسد الذي تعيشه الأمة، ولا ريب أن ذلك يعتبره الحكام تحدياً سياسياً يحاسبون عليه .
ومن فلتات التاريخ أنه خلّد لنا من التراث صفحة من القرآن الكريم، منسوبة كتابتها إلى خط الإمام زين العابدين عليه السلام .
والعجيب أنّ هذه الصفحة تبدأ بقوله تعالى: (القربى، واليتامى، والمساكين وابن السبيل)، وتنتهي بآيات الجهاد: قوله تعالى (يايها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا .[ سورة الأنفال (8) الاَيات 41 -45 ])(151)

_______________
(130) لقد تحدثنا عن منع الخلفاء من كتابة الحديث وتدوينه، ومن نقله وروايته، بتفصيل في كتابنا (تدوين السنة الشريفة) المطبوع في قم سنة 1413 ه .
(131) اُسد الغاية، لابن الأثير (2: 472) ترجمة سهل الساعدي .
(132) تهذيب التهذيب (7 : 305) .
(133) المجدي في الأنساب (ص 92) وتدوين السنة الشريفة (ص 149 -152) .
(134) المحاسن، للبرقي (ص 221) ح (133) .
(135) الكافي (3: 234) الحديث 4، وبحار الأنوار (46: 142) وعوالم العلوم (ص 85 وص 290) .
(136) تذكرة الحفاظ (1 74 -75) .
(137) قال ذلك الزُهْريّ، كما في تهذيب التهذيب (7: 305) وقد كذّبَ الزهريَ قومُه، كما أنّه متّهم في ما يقوله في أهل البيت، لما سيأتي من عمالته للاُمويين، لكنّ أمثال هذا المخذول قد حرموا أنفسهم من الاستمتاع بعلم أهل البيت: حيث تركوهم وصاروا إلى أصحاب الرأي والاجتهاد في مقابل النصّ، فخسروا خسراناً مبيناً .
(138) إنّ كتابنا هذا يحتوي على مجموعة كبيرة من الأحاديث التي رُويت عن الإمام السجّاد ,والتي استشهدنا بها، تجدها مجموعة في فهرس الأحاديث في آخر الكتاب .
(139) كشف الغمة (2: 101) ولاحظ الجامع الصغير (1: 108) .
(140) مثل سعيد بن جبير، ويحيى بن ام الطويل، وميثم التمار، وغيرهم من شهداء الفضيلة، فلاحظ كتب التاريخ لتلك الفترة .
(141) تفسير البرهان (3: 156) .
(142) اصول الكافي (2: 609) المحجة البيضاء (2: 215) .
(143) المحجة البيضاء (2: 215) .
(144) الكافي الاصول (2: 602) وانظر المحجة البيضاء (2: 215) وبحار الأنوار (46: 107) .
(145) الكافي (2: 616) بحار الأنوار (46: 70) ب 5 ح 45 . ولاحظ عوالم العلوم (ص 135) .
(146) رجال الكشي (ص 117) رقم 187 .
(147) عوالم العلوم (ص 303) .
(148) تاريخ دمشق، ومختصره لابن منظور (17: 240) وسير أعلام النبلاء (4: 396) .
(149) الاحتجاج (ص 319) .
(150) الاحتجاج (ص 312) .
(151) دائرة المعارف الشيعية (ج 2 ص 66) .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page