الاُولى: خطبتها في المهاجرين والأنصار

وقد رواها عنه أيضاً العلامة شمس الدين محمد الباعوني الشافعي (ت 871 هـ) في كتابه جواهر المطالب: 1 / 155 ـ 169.
قال الآبي:
قالوا: لما بلغ فاطمة (عليها السلام) إجماع أبي بكر على منعها فدكاً لاثت خِمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لُمَّة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم(1) مشيتها مشية رسول الله

(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثمّ أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء، وارتج المجلس، ثمّ أمهلت هُنيئة(2) حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت كلامها بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ قالت: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)(3) فإنْ تعرفوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمي(4) دون رجالكم، فبلغ الرسالة صادعاً بالنَّذارة، بالغاً بالرسالة، مائلا عن سنن المشركين، ضارباً لثبجهم(5)، يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، آخذاً بأكظام(6) المشركين، يُهشِّم الأصنام، ويفلق الهام، حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر، حتى تفرَّى(7) الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه(8)، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق(9) الشيطان، وتمّت كلمة الإخلاص، (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَة مِّنَ النَّارِ)(10)، نهزة(11)الطامع، ومذقة الشارب(12)،وقبسة العجلان، وموطىء الأقدام، تشربون الطرق(13)، وتقتاتون القِدّ، أذلة خاسئين، يخطفكم الناس من حولكم، حتى أنقذكم الله برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببُهم الرجال، وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، (كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ)(14)، أو نجم قرن للشيطان، أو فغرت فاغرة للمشركين، قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفىء حتى يطأ صماخها(15)بأخمصه، ويطفيء عادية لهبها بسيفه ـ أو قالت ـ ويُخمد لهيبها بحده مكدوداً في ذات الله، وأنتم في رفاهة فكهون آمنون وادعون.
حتى إذا اختار الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) دار أنبيائه، ظهرت حسكة النفاق، وسمل(16) جلباب الدين، ونطق كاظم(17) الغاوين، ونبغ خامل الأفلين، وهدر فنيق(18) المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه صارخاً بكم، فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة ملاحظين، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم(19)فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل، أبماذا زعمتم(20) خوف الفتنة؟ (أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)(21)، فهيهات فيكم، وأنى بكم، وأنى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، زواجره بينة، وشواهده لائحة، وأوامره واضحة، أرغبة عنه تريدون، أم بغيره تحكمون؟ (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا)(22)، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(23) ثم لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها، تشربون حسواً في ارتغاء(24)، ونصبر منكم على مثل حزِّ المدى، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْم يُوقِنُونَ)(25).
إيهاً معشر المُسلمة المهاجرة، أأبتز إرث أبيه؟ أبى الله في الكتاب يا بن قحافة، أن ترث أباك ولا أرث أبيه، لقد جئت شيئا فرياً(26)، فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، و (لِّكُلِّ نَبَأ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(27).
ثمّ انكفأت على قبر أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت (عليها السلام):قد كان بعدك أنباء وهنبثة(28)    لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب إنا فقدناك فقد الأرض وابلها    واختلَّ أهلك فاحضرهم ولا تغب وذُكر أنّها لما فرغت من كلام أبي بكر والمهاجرين عدلت إلى مجلس الأنصار فقالت:
يا معشر الفئة، وأعضاد الملة، وحضنة الإسلام ; ما هذه الفترة في حقي؟(29) والسنة في ظلامتي؟ أما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أن يُحفظ في ولده؟ لسرع(30) ما أحدثتم! وعجلان ذا إهالة(31)، أتقولون: مات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فخطب جليل استوسع وهيه، واستنهر(32) فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض لغيبته، واكتأبت خيرة الله لمصيبته، وخشعت الجبال، وأكدت الأمال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتلك نازلة علن بها كتاب الله في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم، تهتف في أسماعكم، ولقبله ما حلّت بأنبياء الله ورسله صلّى الله عليهم، (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ)(33).
إيهاً بني قيلة(34) أأهتضم تراث أبيه وأنتم بمرأى ومسمع؟ تلبسكم الدعوة، وتشملكم الحيرة، وفيكم العدد والعدة، ولكم الدار وعندكم الجُنن(35)، وأنتم الألى نخبة الله التي انتخب لدينه، وأنصار رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأهل الإسلام، والخيرة التي اختار الله لنا أهل البيت، فنابذتم العرب، وناهضتم الاُمم، وكافحتم البُهم، لا نبرح نأمركم فتأتمرون، حتى دارت لكم بنى رحا الإسلام، ودرّ حلب الأيام، وخضعت نعرة الشرك، وباخت نيران الحرب، وهدأت دعوة الهرج(36)، واستوسق(37) نظام الدين، فأنّى حِرتم بعد البيان، ونكصتم بعد الإقدام، وأسررتم بعد التبيان، لقوم نكثوا أيمانهم، (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ)(38).
ألا قد أرى أن أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدعة، فعجتم عن الدين، ومججتم الذي وعيتم، ولفظتم الذي سوغتم(39)، (إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)(40).
ألا وقد قلت الذي قلته على معرفة مني بالخذلان الذي خامر صدوركم، واستشعرته قلوبكم، ولكن قلته فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وبثة الصدر، ومعذرة الحجة، فدونكموها فاحتقوبها مدبرة(41) الظهر، ناقبة الخف(42)، باقية العار، موسومة بشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون،(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ)(43) وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون.
____________
1- ما تخرم مشيتها: ما تنقص عنها.
2- هنيئة: بمعنى هنيهة، تصغير هنة، وهي القياس في التصغير: اللسان. هنو.
3- سورة التوبة: 128.
4- إشارة إلى مؤاخاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام).
5- الثبج: الوسط. اللسان.
6- الأكظام: جمع كظم، وهو مخرج النفس. اللسان.
7- تفرى: تشقق. اللسان.
8- المحض: الخالص. اللسان.
9- الشقاشق جمع شقشقة، شيء كالرئة يخرجه البعير من فمه إذا هاج ويروى وتمت كلمة الإخلاص.
10- سورة آل عمران: 103.
11- نهزة الطامع: اسم للشيء المعرض لك كالغنيمة. اللسان.
12- المذقة: الشربة من اللبن المخلوط بالماء. اللسان، وفي القول تشبيه.
13- الطرق: ماء السماء الذي تبول فيه الإبل. اللسان.
14- سورة المائدة: 64.
15- الصماخ: فتحة الأذن الباطنية. اللسان، وفي القول استعارة.
16- سمل الجلباب: بلي ورث. اللسان.
17- الكاظم: المبطن للحقد. اللسان.
18- الفنيق: الجمل الفحل. اللسان.
19- أحمشكم: جعلكم تغضبون، ومن معانيها: ساقكم بغضب. اللسان.
20- في المصورة: أبماذا زعمتم، وفي المخطوطة: أنازعتم، والتصويب من بلاغات النساء: 18.
21- سورة التوبة: 49.
22- سورة الكهف: 50.
23- سورة آل عمران: 85.
24- مثل يضرب لمن يظهر أمراً ويبطن غيره. اللسان.
25- سورة المائدة: 50.
26- الفري: العمل الذي لم يسبق إليه. اللسان.
27- سورة الأنعام: 67.
28- الهنبثة: الاختلاط في الكلام. اللسان.
29- في بلاغات النساء: 21 ما هذه الغميزة في حقّي، وفي نهج البلاغة: ما هذه الغمزة في حقّي.
30- لسرع: ما أسرع. اللسان.
31- الإهالة: الشحم والزيت، وهو مثل يضرب للشيء يأتي قبل أوانه.
32- استنهر: اتسع، تشبيهاً له بجريان النهر وتمكنه. اللسان.
33- سورة آل عمران: 144.
34- قيلة: هي قيلة بنت كاهل، اُمّ الأوس والخزرج. اللسان: قيل.
35- الجنن: جمع جنة، وهي الدرع. (القاموس).
36- الهرج: الفتنة. اللسان.
37- استوسق نظام الدين: اجتمع وتضام. اللسان. والمراد: قوي.
38- سورة التوبة: 13.
39- أعطيتم.
40- سورة إبراهيم: 8.
41- مدبرة الظهر: بها دبرة في ظهرها، أي قرحة. اللسان.
42- نقب الخف: رق. اللسان.
43- سورة الشعراء: 227.

أضف تعليق