• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

حوادث السنة الثالثة من الهجرة

حوادث السنة الثالثة من الهجرة
32 الدفاع عن الحرّية
غزوة اُحد أو الدفاع عن الحرّية عند جبل اُحُد:
لم تكن السنة الهجرية الثالثة بأقل من السنة الثانية من حيث وقوع الحوادث والوقائع الملفتة للنظر فيها.
فاذا وقعت في السنة الثانية من الهجرة غزوة «بدر» فقد وقعت في السنة الثالثة منها غزوة «اُحد» وهما من أعظم معارك الاسلام وغزواته.
على أن غزوة «اُحد» لم تكن الغزوة الوحيدة التي وقعت في السنة الثالثة، بل وقعت أيضاً غزوات اُخرى(1) الى جنب طائفة من السرايا، التي اخترنا منها سرية واحدة وغزوتين فقط. 1 - سرية محمّد بن مسلمة:
لقد وَصلَ نبأ انتصار المسلمين في معركة «بدر» عن طريق رجلين من المسلمين.
ولم يكن الجيش الاسلاميّ الظافر قد وصل الى المدينة بعد، عندما انزعج «كعب بن الاشرف» - الذي كانت اُمه من يهود «بني النضير» وكان شاعراً قوياً، وخطيباً بارعاً - من الفتح الذي أصابه النبيّ صلّى اللّه عليه وآله والمسلمون في «بدر» فقال: واللّه لئِن كان محمّد أصاب أضراف العرب وملوك الناس (ويعني سادة قريش وصناديدهم الذين قتلوا في بدر على أيدي المسلمين لبطنُ
الأرض خير من ظهرها!! وبدأ يبث الأكاذيب والشائعات في المدينة ومضى يشكك في انتصارات المسلمين في بدر.
وقد كان يسيء الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في قصائده حتى قبل معركة «بدر» ويحرّض الناس على المسلمين.
ثم إنه لما تيقن الخبر خرج حتى قدم مكة وجعل يحرّض قريشاً على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وقد أنشد في هذا المجال أشعاراً يبكي فيها أصحاب القليب من قريش وقد ذكرتها المصادر التاريخية(1).
ثم رجع كعب هذا الى المدينة فشبّب(2) بنساء المسلمين حتى آذاهم!!
ولا شك أنه بهذه المواقف المعادية كان من أظهر مصاديق المفسد في الارض، الأمر الذي آل إلى أن يقرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله التخلص منه، وكفاية المسلمين شره، وقد أوكل هذه المهمة الصعبة الى «محمد بن مسلمة».
وقد خطّط «ابن مسلمة» للتخلص من «كعب» خطةً رائعةً، وألّف لتنفيذها فريقاً كان من بينهم «أبو نائلة» الأخ الرضاعي لكعب بن الأشرف، ليمكن من هذا الطريق التمويه على كعب وتنفيذ الخطة المذكورة.
فخرج أبو نائلة إلى كعب وجلسا يتحادثان، ويتبادلان الشعر.
ثم إن أبا نائلة قال لكعب - بعد ان طلب منه أن يُخرج كل من كان هناك من ذويه وأهله -: إني قد جئتك في حاجة إليك اُريد ذكرها لك فاكتم عني، وإني كرهت ان يسمع القوم كلامنا، فيظنون! لقد كان قدوم هذا الرجل (يعني رسول اللّه) علينا من البلاء، وحاربتنا العرب، ورمتنا عن قوسٍ واحدةٍ، وقطّعت السبل عنا حتّى جهدت الانفس، وضاع العيال، أخذنا بالصدقة ولا نجد ما نأكل.
فقال كعب: قد واللّه كنتُ اُحدّثك بهذا يا ابن سلامة إن الامر سيصير الى ما أقول.
فقال أبو نائلة: إنّ معي رجالاً من أصحابي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاماً، أو تمراً وتحسن في ذلك إلينا، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة.
فقال كعب: وماذا ترهنونني يا أبا نائلة، أبناءكم ونساءكم ؟؟!
فقال أبو نائلة: لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا، ولكنا نرهنك من الحلقة (أي السلاح) ما ترضى به.
فرضي كعب بن الاشرف بذلك.
وإنما قال أبو نائلة هذا القول لابن الاشرف حتى لا يستغرب إذا رأى السلاح بيد الرجال الذين سيأتون معه.
ثم خرج أبو نائلة من عند ابن الاشرف على ميعاد، فاتى أصحابه، فأخبرهم بما دار بينه وبين كعب، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، ثم أتوا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عشاءً وأخبروه، فمشى معهم حتى اتى البقيع، ثم وجّههم، ثم قال:
«إمضوا على بركة اللّه وعَونه اللّهم أعِنهم».
فمضوا حتى أتوا ابن الاشرف، فلمّا انتهوا إلى حصنِه هتف به أبو نائلة، وكان ابنُ الاشرف حديث عهدٍ بُعرس، فوثب من فراشه، فأخذت امرأته بناحية ملحفته وقالت: أين تذهب، إنك رجل محارب، ولا ينزل مثلك في هذه الساعة ؟؟
فقال ابن الاشرف: ميعاد، إنما هو أخي أبو نائلة.
ثم نزل إليهم فحيّاهم، ثم جلَسوا فتحدثوا ساعة حتى اطمأن إليهم.
ثم قالوا له: يابن الاشرف: هل لك أن تتمشّى الى شعب العجوز (وهو موضع قرب المدينة) فنتحدث فيه بقيّة ليلتنا.
فخرجوا يتماشون حتى ابتعدوا عن حصنه، وبينما هم كذلك إذ أدخل أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شم يده فقال: ويحك ما أطيب عطرك هذا يابن الاشرف، ثم مشى ساعة، ثم كرّر هذا العمل ثانية حتى اطمأن ثم مشى ساعة
ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه وقال: إضربوا عدوّ اللّه، فضربوه بسيوفهم، وطعنه أبو نائلة بخنجر في بطنه، وصاح صيحة ثم وقع على الارض ولم تنفعه استغاثاته.
ثم عاد هذا الفريق الفدائي إلى المدينة من فورهم ولما بلغوا «بقيع الغرقد» كبّروا، وقد قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تلك الليلة يصلّي، فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله تكبيرهم بالبقيع كبّر، وعرف أنهم قد قتلوه.
وبهذا أعلنوا عن نجاح عمليّتهم الفدائية الجريئة التي أراحت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه من شرّ ذلك المفسد الخطير الذي لم يفتأ عن إيذاء النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وتناول أعراض المسلمين في أشعاره..(3).
إغتيال مفسد آخر:
وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي يظاهر كعب بن الاشرف على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويقوم بنفس الدور الخبيث الذي كان يقوم به ابن الاشرف من الايذاء والازعاج للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله والمسلمين. فقام فريق فدائي آخر من المسلمين باغتياله على غرار اغتيال صاحبه في عمليةٍ فدائيةٍ جسورةٍ على نحو ما رواه ابن الأثير في كتابه: الكامل في التاريخ بصورة مفصلة(4).
وقد كانت هاتان العمليتان واُمور اُخرى من أسباب اندلاع معركة «اُحد».
وقد حان الأوان الآن أن نستعرض تفاصيل هذه الواقعة الكبرى!
قريش تتكفل نفقات الحرب:
كانت بذور الرغبة في الانتقام والثأر من المسلمين قد بُذِرَت في مكة من زمان وقد ساعدت خطة المنع من البكاء والنياحة على القتلى على اذكاء روح الانتقام هذه لدى قريش.
كما أن تعذّر مرور قافلتها التجارية عبر طريق مكة - المدينة - الشام، واضطرارها الى سلوك طريق العراق للسفر الى الشام زاد هو الآخر من سخطها وانزعاجها.
ولقد أجج مقتل «كعب بن الاشرف» من أوار هذا الحقد، وأوقد لهيبه في النفوس.
من هنا اقترح «صفوان بن اُمية» و«عكرمة بن أبي جهل» على أبي سفيان ومن كانت له في قافلة قريش التجارية مشاركة، أن يدفع كلُّ واحد منهم مبلغاً من المال لتسديد نفقات الحرب قائلين: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا.
ولقد لقي هذا الاقتراح قبولاً من أبي سفيان وتقرّر الإعداد للحرب فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى فعل أبو سفيان ذلك.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع كما ذكر كيف أن قريشاً لم تحصد من هذا الإنفاق الا الخيبة والخسران اذ قال تعالى:
«إنَّ الَّذين كفرُوا يُنفِقُون اموالهُم لِيصُدُّوا عن سبيل اللّه فسيُنفِقُونها ثم تكُونُ عليهم حسرةً ثمَّ يُغلبون والَّذين كفرُوا إلى جهنَّم يُحشرُون»(5).
وحيث أن زعماء قريش كانوا يعرفون بقوة المسلمين وقد رأوا من كثب استقامتهم وثباتهم في معركة «بدر» لهذا قرروا أن يتألف جيشهم هذه المرة من صناديد أكثر القبائل العربية وشجعانها البارزين وأبطالها المعروفين.
فكلّف «عمرو بن العاص» وعدة أشخاص آخرين بأن يؤلّبوا العرب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويجمعوا أبطالها وصناديدها، للمشاركة في الجيش الكثيف والمنظم الذي اعتزمت قريش على تسييره لقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والمسلمين، وغزوهم وبأن يخبروهم بأن قريشاً قد تكفّلت نفقات هذه المعركة.
وقد أثمرت نشاطات «عمرو» ورفاقه في هذا السبيل.
فقد استطاعوا بعد محاولات واسعةٍ أن يضمّوا إلى جيش قريش أبطالاً وصناديد من بني كنانة وتهامة، فخرجت قريش وهم أربعة آلاف بمن انضم إلى صفوفهم من تلك القبائل(6).
وقد كان هذا هو عدد الرجال الذين شاركوا في هذه المعركة، ولو أضفنا اليهم عدد النساء اللواتي شاركن فيها لتجاوز العدد ما ذكرناه.
على أنه لم يكن من عادة العرب أن يشركوا نساءهم في الغزو ويخرجوهن معهم إلى القتال، ولكن نساء مكة الوثنيات شاركن مع رجالهن في هذه المعركة على خلاف عادة العرب، وكان الهدف من أخذهن هو أن يحرّضن الرجال على القتال والصمود، ويمنعن المقاتلين من الفرار، ويذكّرن بقتلى بدر، ويشعلن الحماس في النفوس بدق الدفوف، وإنشاد الأشعار المثيرة للهمم والداعية إلى الثأر ولأن فرار الرجال كان يعني أن تقع النسوة في الأسر، وهو ما كان يأباه العربي آنذاك. فتكون الغيرة والحمية على العرض سبباً للمقاومة والصمود.
كما أنه اشترك في هذه المعركة طائفة من العبيد والرقيق طمعاً في العتق الذي وعدوا به إن نصروا أسيادهم وقاتلوا بين أيديهم، وذلك مثل «وحشي» وكان غلاماً حبشياً لمطعم بن جبير يقذف بحربة له قذف الحبشة قلّما يخطئ بها فقال له سيده: اخرج مع الناس فإن نلتَ محمداً أو عليّاً أو حمزة فأنت عتيق(2).
وعلى أية حال استطاعت قريش أن تجهّز بعد جهد كبير جيشاً كبيراً قوياً يتألف من سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف فارس، ومشاة كثيرين، وقد خرجوا بعدة وسلاح كثير.
الاستخبارات ترفع تقريراً الى النبيّ:
فلما اجمعت قريش على المسير كتب العباس بن عبد المطلب(7) كتاباً يضم
تقريراً مفصلاً عن نوايا واستعدادات قريش، وختمه واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يقطع الطريق إلى المدينة في ثلاثة أيام ويوصل تلك الرسالة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
فقدم الغفاري المدينة فلم يجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وانما وجده في بستان خارجها فدفع إليه كتاب العباس المختوم، فقرأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واطلع على ما فيه، ولكنه كتم محتواها عن أصحابه(8).
روى العلامة المجلسي عن الامام ابي عبد اللّه الصادق عليه السلام أنه قال: كان مما منّ اللّه عزّ وجلّ على رسوله صلّى اللّه عليه وآله أنه كان لا يقرأ ولا يكتب، فلما توجّه أبو سفيان الى «اُحد» كتب العباس إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه ولم يخبر أصحابه، وأمرهم أن يدخلوا المدينة فلما دخلوا المدينة أخبرهم(9).
جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة:
تحرَّك جيش قريش باتجاه المدينة، وبعد قطع مسافة معينة وصلت طلائعه إلى الابواء، وهي المنطقة التي دفنت فيها والدة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله السيدة «آمنة بنت وهب» فقال فتية من قريش: تعالوا ننبش قبر اُم محمّد، فانّ النساء عورة، فان يصب من نسائكم أحد قلتم هذه رمة اُمّك، فان كان برّاً بامّه كما يزعم فلعمري ليفادينكم برمة اُمّة، وان لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة اُمّه بمال كثير إن كان بها برّاً.
واستثار أبو سفيان أهل الرأي من قريش في ذلك فاستقبحوه وشجبوه بشدة وقالوا:
لو فعلنا ذلك نبشت بنو بكر وخزاعة (وهم أعداء قريش) موتانا(10).
وبعث النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ليلة الخميس الخامس من شهر شوال، السنة الثالثة من الهجرة، «أنساً» و«مونساً» ابني «فضالة» للتجسس على قريش خارج المدينة، واخباره صلّى اللّه عليه وآله بتحركاتهم، فأخبرا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، وانهم قد سرحوا إبلهم وخيولهم ترعى في مراعي المدينة.
كما أخبر «الحُباب بن المنذر» هو الآخر باقتراب جيش المشركين إلى المدينة، وان طلائع ذلك الجيش قد استقر على مقربة من جبل اُحد، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد بعث الحباب سراً وقال له: لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلا أن ترى قلة.
وبخبر الحباب تأكّد ما أخبر به ابنا فضالة.
وحيث إن المسلمين كانوا يخافون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من العدو، أن يهاجموه ليلاً، لذلك باتت وجوه الأوس والخزرج (الانصار) ليلة الجمعة وعليهم السلاح في المسجد بباب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله يحرسونه، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا.
منطقة «اُحد»:
كان الوادي الطويل الكبير الذي يصل طريق الشام التجاربة باليمن يسمى آنذاك ب«وادي القرى»، وكانت القبائل العربية من اليهود وغير اليهود تقطن في كل منطقة تتوفر فيها ظروف المعيشة ومستلزمات الحياة، ولهذا نشأت على طول هذا الخط «قرى» بسبب وجود مناطق خصبة فيه وقد سُوّرَت بأسوار من الحجارة،
وكانت يثرب مركز هذه القرى واُمها وهي التي سميت في ما بعد بمدينة الرسول، ومن ثم «المدينة» تخفيفاً واختصاراً.
وكان على كل قادم من مكة إلى المدينة، أن يدخل من جنوب يثرب وحيث أن أرض هذه المنطقة ذات طبيعة صخرية لذلك يكون عبور الجيش من خلالها أمراً عسيراً وفي غاية الصعوبة.
من هنا عمدت قريش - عندما وصل جيشها الى مشارف المدينة - تحاشت هذه المنطقة، ودخلت من شمال المدينة، واستقرت في وادي العقيق في سفوح جبل «اُحد»، وقد كانت هذه المنطقة لعدم وجود نخيل فيها، ولسهولة أرضها، أفضل مكان للعمليات العسكرية، وخير ميدان للقتال والحرب.
وقد كانت المدينة عرضة للخطر من هذه الناحية لأنه قلّما كان المرءُ يرى فيها موانع طبيعية.
نزلت قوى المشركين عصر يوم الخميس في الخامس من شوال من السنة الثالثة من الهجرة عند جبل «اُحد».
وبقي النبي ذلك اليوم وليلته في المدينة، وفي يوم الجمعة أقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على عقد شورى عسكرية، واستشار قادة جيشه وأهل الخبرة والرأي من أصحابه في كيفية مواجهة العدو، والتكتيك الذي يجب أن يتبعه المسلمون(11).
المشاورة في كيفية الدفاع:
كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قد اُمِرَ من جانب اللّه تعالى أن يشاور أصحابه في الاُمور العسكرية وما يشابهها ويشركهم في قراراته وخططه التي يتخذها في المجالات المذكورة، ليعطي بذلك درساً كبيراً للمسلمين، ويوجد بين أصحابه وأتباعه روح الديمقراطية (الصحيحة) وتحري الحق، والموضوعية.
ولكن هل كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نفسه يستفيد من هذه المشاورة ؟ وينتفع بآرائهم ونظرياتهم، ومقترحاتهم، أم لا؟.
لقد أجاب علماء العقيدة ورواد علم الكلام الاسلامي من مختلف الطوائف على هذا السؤال في مؤلفاتهم ودراساتهم، وللقارئ الكريم إذا أراد الوقوف على الجواب أن يراجع تلكم المصنفات.
لكن الذي لا يمكن انكاره في المقام هو: أن هذه المشاورات سيرة حية تركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من بعده، ولقد كانت هذه السيرة مؤثرة جداً بحيث استخدم الخلفاء والاُمراء من بعده اُسلوب التشاور والشورى، وكانوا يستفيدون على هذا الاساس من آراء الامام علي عليه السلام ونظرياته السامية في الاُمور العسكرية، والمشكلات الاجتماعية التي كانت تطرأ على حياة المسلمين.
المشاورات العسكرية:
لما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باقتراب قريش الى المدينة وقف في تلك الشورى التي كانت جمعاً كبيراً من صناديد أصحابه، وقادة جيشه وجنوده وقال بصوتٍ عالٍ: «أشيروا عليّ».
وهو يطلب بذلك من اولئك الجنود والقادة أن يدلوا بآرائهم في كيفية مواجهة العدو، وطريقة الدفاع عن حوزة الاسلام وصرح التوحيد المهددة من قبل قريش والمتحالفين معهم من أحزاب الشرك. وأتباع الوثنية.
فقام «عبد اللّه بن ابي بن سلول» وكان من منافقي المدينة، وطرح فكرة التحصّن في داخل المدينة، والقتال فيها على غرار حرب الشوارع. وذلك بأن لا يخرج المسلمون من المدينة بل يبقوا داخلها، ويستخدموا أبراجها وسطوحها لمقاتلة العدوّ ودفعه فترمي النساء العدوَّ بالأحجار من السطوح، ويقاتل الرجال أفراده في الشوارع والأزقة قائلاً: يا رسول اللّه كنا نقاتل في الجاهلية فيها، ونجعل النساء والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كلّ ناحية وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام، ونقاتل بأسيافنا في السكك (أي الطرقات).
يا رسول اللّه إن مدينتنا عذراء ما فُضّت علينا قط، وما خرجنا إلى عدوّ قط إلا أصاب منّا. فانهم ان أقاموا أقاموا بشر محبس، وان رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين.
وكان هذا رأي الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من المهاجرين والأنصار، إلا أن الفتيان من المسلمين وبخاصة من لم يشهد منهم بدراً وكانوا يشكلون الاغلبية شجبوا هذا الرأي بشدة، ورفضوه بقوة وطلبوا من رسول اللّه الخروج إلى العدو، ورغبوا في الشهادة، وأحبّوا لقاء العدو.
وقالوا: إنّا نخشى يا رسول اللّه أن يظن عدوُّنا أنا كرهنا الخروج اليهم جبناً عن لقائهم فيكون هذه جرأة منهم علينا، وقد كنتَ يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفّرك اللّه عليهم، ونحن اليوم بشر كثير، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو اللّه به فقد ساقه اللّه إلينا في ساحتنا.
وقال «حمزة» بطل الاسلام العظيم: لا أطعم اليوم طعاماً حتى اُجالدهم بسيفي خارجاً من المدينة(12).
الاقتراع من أجل الشهادة!!:
وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة - وهو شيخ يقظ البصيرة - وقال: ان قريشاً مكثت حولاً تجمع الجموع، وتستجلب العرب في بواديها، ومن تبعها من أحابيشها، ثم جاؤونا قد قادوا الخيل وامتطوا الابل، حتى نزلوا بساحتنا فيحصرونا في بيوتنا، وصياصينا، ثم يرجعون وافرين لم يُكلموا، فيجرّئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا، ويصيبوا أطرافنا، ويضعوا العيون والارصاد علينا، مع ما قد صنعوا بحروثنا،
ويجترئ علينا العرب حولنا، حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج اليهم، فنذبهم عن جوارنا، وعسى اللّه أن يظفّرنا بهم، فتلك عادة اللّه عندنا، أو تكون الاخرى: الشهادة.
لقد أخطأتني وقعة بدر، وقد كنتُ عليها حريصاً، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت(13) ابني على الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد كنتُ حريصاً على الشهادة وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، وهو يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً.
وقد واللّه يا رسول اللّه أصبحت مشتاقاً الى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني ورقّ عظمي، وأحببتُ لقاء ربّي فادعُ اللّه يا رسول اللّه أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة !!!(14).
إن هذا الذي ذكرناه ليس سوى نموذج واحد من مواقف كثيرة تجدها أيّها القارئ الكريم في صفحات التاريخ الاسلامي المشرقة فهناك الكثير من هؤلاء الفدائيين المخلصين الذين آلوا على أنفسهم أن يدافعوا عن حياض العقيدة وشرف الدين، ورُزقوا الشهادة في نهاية المطاف.
إن الايديولوجية التي لا تعتمد على اُسس الايمان باللّه واليوم الآخر قلما تنتج جندياً فدائياً مخلصاً مثل خيثمة، ومن شاكله.
إن روح الفداء والتفاني والايثار بالنفس والتضحية بالغالي والرخيص، التي تدفع بالجندي إلى أن يطلب الشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحق، وإعزاز التوحيد باصرار وشوق لا توجد إلا في مدرسة الأنبياء والمرسلين، ولا تحصل الا في ضوء تربيتهم.
واما في المجتمعات المادية كالمجتمعات الحاضرة التي تهتم أكبر اهتمام بتحسين أحوال العسكريين حيث إن الهدف من الحروب والمعارك لم يكن قط إلا الحصول على وضع معيشيّ أفضل، فانّه لا يهم الجنود فيها إلا الحفاظ على أرواحهم وحياتهم
فذلك هو أكبر هدف لديهم، ومن هنا تندر عندهم روح التفاني والتضحية.
وأما في مدرسة الأنبياء فان المعارك والحروب لا يهدف منها إلا ابتغاء رضا اللّه سبحانه، فلو انحصر ذلك في الشهادة أقدم عليها الجندي المسلم من دون خوف أو وجل، وعرّض نفسه لجميع الاخطار من دون تلكؤ أو ابطاء.




_______________________________
(1) أي اجريت القرعة بيني وبين ولدي.
(2) المغازي: ج 1 ص 212 و213.
(3) مثل غزوة بحران وغزوة حمراء الأسد.
(4) المغازي: ج 2 ص 121 - 122.
(5) راجع السيرة النبويّة: ج 2 ص 52.
(6) السيرة النبوية: ج 2 ص 51 - 56، المغازي: ج 1 ص 184 - 190.
(7) الكامل في التاريخ: ج 2 ص 101.
(8) الانفال: 36، وراجع السيرة النبوية: ج 2 ص 60، مجمع البيان: ج 2 ص 541، السيرة الحلبية: ج 2 ص 217.
(9) اختلف علماء التفسير والتاريخ كعلي بن ابراهيم والشيخ الطبرسي في إعلام الورى، وابن هشام والواقدي في عدد المشركين والكفار في هذه المعركة، ما ذكرناه هو الاقرب الى الحقيقة.
(10) بحار الأنوار: ج 20 ص 96.
(11) وكان العباس كما أسلفنا ممن أسلم وآمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في مكة ولكنه ظلّ يكتم = ايمانه ليتمكن من البقاء بين قريش ورصد تحركاتهم واخبار النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بنواياهم. راجع السيرة الحلبية: ج 10 ص 198.
(12) المغازي: ج 1 ص 203، ويرى بعض المؤرخين أن مبعوث العباس قدم بالرسالة المدينة وكان النبيّ ساعتها في المسجد فأعطى النبيّ الرسالة إلى ابي بن كعب فقرأها عليه، وقد روى الواقدي هذا الوجه أيضاً (ج 1 ص 204) ومن أن النبيّ لم يعهد منه أن قرأ رسالة فيكون الوجه الاول أقرب الى الحقيقة.
(13) بحار الأنوار: ج 20 ص 111.
(14) المغازي: ج 1 ص 206.
(15) لم تكن هذه هي المرة الاُولى والأخيرة التي شاور النبيّ فيها أصحابه وقد ذكرنا عدة موارد من هذا النوع من التشاور والهدف منه في كتابنا: معالم الحكومة الاسلامية.
(16) راجع الخطبة 134 من نهج البلاغة.
(17) المغازي ج 1 ص 211 وبحار الانوار ج 125 من المعلوم أن نظرية عبد اللّه بن أبي لم تخلو من الخطر، إذ لم يكن من البعيد ان يستفيد العدوّ بعد دخوله في المدينة من بيوت المنافقين. وأن يتعاون معهم يهود المدينة أيضاً فتكون حينئذٍ الضربة القاضية للاسلام والمسلمين.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page