خير الدعاء ما هيجه الوجد والاَحزان ، وانتهى بالعبد إلى البكاء من خشية الله ، الذي هو سيد آداب الدعاء وذروتها ، ذلك لاَنّ الدمعة لسان المذنب الذي يفصح عن توبته وخشوعه وانقطاعه إلى بارئه ، والدمعة سفير رقّة القلب الذي يؤذن بالاخلاص والقرب من رحاب الله تعالى .
قال الاِمام الصادق عليه السلام لاَبي بصير : «إن خفت إمراً يكون أو حاجة تريدها فأبدأ بالله ومجّده واثني عليه كما هو أهله ، وصلِّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسل حاجتك ، وتباك ولو مثل رأس الذباب ، إنّ أبي كان يقول: إنّ أقرب ما يكون العبد من الرب عزوجل وهو ساجد باكٍ »(1).
وفي البكاء من خشية الله من الخصوصيات والفضائل ما لا يوجد في غيره من أنصاف الطاعات ، فهو رحمة مزجاة من الخالق العزيز لعباده تقرّبهم من منازل لطفه وكرمه ، وتتجاوز بهم عقبات الآخرة وأهوالها .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «إذا أحب الله عبداً نصب في قلبه نائحةً من الحزن ، فإنّ الله لا يدخل النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن إلى الضرع » (2).
وقال الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام : «بكاء العيون وخشية القلوب من رحمة الله تعالى ذكره ، فإذا وجدتموها فاغتنموا الدعاء ، ولو أنّ عبداً بكى في أُمة لرحم الله تعالى ذكره تلك الاُمّة لبكاء ذلك العبد » (3).
وإذا كان البكاء يفتح القلب على الله تعالى ، فإنّ جمود العين يعبّر عن قساوة القلب التي تطرد العبد من رحمة الله ولطفه وتؤدي إلى الشقاء .
وكان فيما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام : «يا علي أربع خصال من الشقاء : جمود العين ، وقساوة القلب ، وبُعد الاَمل ، وحب البقاء » (4) .
واعلم أنّ البكاء إلى الله سبحانه فرقاً من الذنوب وصفٌ محبوب لكنّه غير مجدٍ مع عدم الاقلاع عنها والتوبة منها .
قال سيد العابدين الاِمام علي بن الحسين عليه السلام : «وليس الخوف من بكى وجرت دموعه ما لم يكن له ورع يحجره عن معاصي الله ، وإنّما ذلك خوف كاذب»(5) .
واذا تهيأت للدعاء ولم تساعدك العينان على البكاء ، فاحمل نفسك على البكاء وتشبّه بالباكين ، متذكراً الذنوب العظام ومنازل مشهد اليوم العظيم ، يوم تُبلى السرائر ، وتظهر فيه الضمائر ، وتنكشف فيه العورات ، عندها يحصل لك باعث الخشية وداعية البكاء الحقيقي والرقة واخلاص القلب .
وقد ورد في الحديث ما يدلُّ على استحباب التباكي ولو بتذكّر من مات من الاَولاد والاَقارب والاَحبّة ، فعن إسحاق بن عمار ، قال : قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : أدعو فاشتهي البكاء ولا يجيئني ، وربما ذكرت بعض من مات من أهلي فأرقّ وأبكي ، فهل يجوز ذلك ؟
فقال عليه السلام : «نعم ، فتذكّرهم فإذا رقت فابكِ ، وادع ربك تبارك وتعالى » (6) .
_____________
(1) الكافي 2 : 350 | 10 .
(2) عدة الداعي : 168 .
(3) بحار الاَنوار 93 : 336 .
(4) بحار الانوار 93 : 330 | 9 .
(5) عدة الداعي : 176 .
(6) الكافي 2 : 350 | 7 .
17 ـ البكاء والتباكي :
- الزيارات: 1028