ما زلت أذكر تلك اللّيالي الشتويّة الطويلة التي كنت أقضيها طائرا بخيالي وأنا ابن ستّ سنين مستمعاً بشوق لأساطير طالما سردتها علينا عجائز ونساء من أقربائي.
كانت أساطير عن الغول والقزم والعفاريت والشجعان، وكانت تلكم الأساطير أهمّ وسائل الترفيه وقضاء الوقت، خاصّة في تلك اللّيالي الشتوية الطويلة، تحت نور
المصباح الزيتي الخافت وقرب موقد الجمر الذي كان يدفىء لنا غرفة السهر في بيت عمّي، حيث كانت كؤوس الشاي تدار على الحاضرين والجمع منصت للراوية
الذي كانت حكاياته تبدو بلا نهاية، ولربّما كان يزيد فيها من خياله وذوقه الشيء الكثير.
كنت وقد وهبني الله تعالى حافظة قويّة لا أنسى كلمة واحدة من تلك الأساطير والحكايات العجيبة، ولطالما تمنّيت بشوق وانتظرت على أحرّ من الجمر قدوم عجوز
معروفة بأساطيرها لزيارة بيت عمّي والمبيت عندنا حتّى تسرد لنا ممّا في ذاكرتها من حكايات. ولقد كنت أتوسّل إلى العجائز من أرحامي أن تحكي لنا قصّة كانت قد
احتفظت بها في ذاكرتها منذ عهد صباها.
كانت أياماً حلوة حقّاً، فبعد العودة من المدرسة، وبعد ممارسة بعض الأعمال الزراعيّة وتفقّد الأغنام، نعود إلى البيت عندما يبدأ الظلام يلفّ القرية، حيث يختفي قرص
الشمس الأحمر الكبير وراء الجبال ـ ولطالما تمنّيت أن أقف على إحداها حتّى أطّلع على الشمس وهي مختبئة وراء قريتنا حتّى يحين فجر اليوم اللاّحق كما كنت أظنّ ـ
وينشر الغروب رداءه الأحمر فالأسود على قريتنا الوادعة، فلا تعود تسمع إلاّ نباح الكلاب وأزيز خفافيش اللّيل.
ثلاث سنوات قضيتها في عالم خيالي مملؤة بالبساطة والصفاء، خرجت بعدها من ذلك العالم الأسطوري إلى جوّ المدينة الصاخب، حيث يصبح الإنسان أكثر وعياً
بالزمن وأكثر اهتماماً بعقارب الساعة.
لقد افتقدت في جوّ المدينة ـ الجديد عليّ ـ دجاجات وكتاكيت زوجة عمّي، وافتقدت حمارنا الصابر على الأعمال الشاقة والقانع برزقه الخشن وعيشه الجشب، كما افتقدت
تلك الحقول التي كنت أرتع وأمرح فيها. نعم، افتقدت كلّ ذلك الجوّ ما خلا شيئاً واحداً، وهي تلك القصص الممتعة التي بقيت محفورة في ذهني، تلك القصص التي
كانت سبباً وأساساً لتبدّل حياتي لاحقاً رأساً على عقب.
دخلت المدينة وسرعان ما خبا ذلك الشوق الذي كنت أحمله تجاهها، حيث كنت أمنّي النفس بحياة ممتعة لا تفارقها البهجة لكثرة ما في المدينة من أضواء وسينماوات
وشوارع وحركة دائمة. خبى ذلك الشوق إلى المدينة منذ وصولي إليها وعادت تلك الأماني عنها سراباً ووهماً كبيراً، ثمّ عاد لي شوقي وحنيني إلى قريتنا الوادعة
المنسيّة والتي تبدو وكأنّها خارج الزمن، لكني كنت أغتنم تلك الفرص القليلة التي تتوفر لي لزيارتها والوقوف على أطلال ذكرياتي بها.
لقد فقدت من تلك القرية كلّ شيء إلاّ شيئاً واحداً رافقني منها إلى المدينة، كان ذلك الشيء حبّي وولعي بالأساطير والقصص الخياليّة.
لكن من لي بهذه المدينة "العاقلة" الرماديّة ليحكي لي تلك الأساطير؟! إنّ عجائز المدينة واعيات أكثر من اللاّزم، وقد لا تتوفر لهنّ الفرصة لسرد أقاصيص سمعنها في
طفولتهنّ، ففي بيوت أبنائهن وبناتهنّ الكلّ منشغل، فالكبار يتابعون الأخبار على موجات الراديو المحليّة والعالميّة، والأطفال أغنتهم قصص الصور المتحركة عن
الإنجذاب إلى حكايات غير مرئيّة.
ولطالما أغاظتني حكايات رفاقي الأطفال في مدرستنا عن ذلك المسلسل أو تلك المسرحيّة التلفزيونيّة وأبطالها، حيث كنت أسمع أحاديثهم والأسف يعتصرني لأنه لم
يكن عندنا بالبيت جهاز تلفزيون، لكن عزائي الوحيد كان في القصص.
نعم، لئن كنت فاقداً في بيئتي الجديدة للأساطير القروية وفاقداً لجهاز تلفزيون في المدينة، فقد اتجهت رغبتي وانصبّ شوقي إلى المطالعة التي كان معلّمونا يشجعوننا
عليها ويوفرونها لنا مجّاناً في المدرسة، وكنت أرى في تلك الأقاصيص الطفولية امتداداً لعالم الأساطير وتعويضاً عنها، حيث كانت تلك القصص مطرّزة بأغلفة مزيّنة
وجذابة، وكذلك الحال مابين صفحاتها.
كم كنت نهما في مطالعتها، ربّما لأنّها كانت تحيلني إلى جنّتي المفقودة ـ قريتنا ـ حيث كانت أحداث تلكم القصص تدور حول الذئب المغرور، وقصة حياة حبّة قمح، أو
لربّما كانت تحكي عن جحا ومغامراته.
كان المعلّمون يرغّبوننا بالمطالعة لتقوية زادنا في العربيّة والفرنسيّة، وكان إعطاؤنا القصص يتجاوز المنحى الترفيهي إلى المنحى التعليمي، حيث كنّا نُسأل عن
مضمون القصّة ونُكلَّف كذلك بتلخيصهاوما كان أيسره من عمل!
بعد الفراغ من القصّة نعيدها ثانية ونقوم بتبادل قصصنا مع بعضنا البعض وهكذا.
مع مرور الزمان بدأت أقرأ بشغف قصصاً أكبر حجماً وأعمق مضموناً، كحكايات الألغاز البوليسيّة، وقصص الأدب العربي ككليلة ودمنة وحي بن يقظان، وقصص
الظرفاء والسندباد البحري وألف ليلة وليلة وغيرها.
لكن مع دخولي مرحلة المراهقة بدأ وضعي الجديد يفرض عليّ الابتعاد عن القصص الملوّنة الجميلة، حيث صارت تمثّل لي مرحلة من العمر بدأت في مفارقتها، ولم
تعد تلكم القصص تروي غليلي، إذ أنّها من ناحية كمّها كانت تبدو صغيرة جدّاً ومن ناحية كيفها بدأ الجوّ الدراسي العام يشعرنا بأننا كبرنا عليها وينبغي الاتجاه إلى
تلخيص وتحليل روايات وآثار معاصرة لأدباء معاصرين. وفي الواقع كنت أشعر بالضجر من هؤلاء الكتاب الذين يضمّنون رواياتهم وقصصهم بُعداً رمزيّاً أو بعداً
واقعيّاً ـ بما في الواقع من رماديّة ـ خالياً من تلك المسحة الشعريّة التي كنت أتوق إليها دائماً.
روايات كنتُ وما زلت أعتبرها فارغة فراغ فؤاد أم موسى، تتحدث عن "ابن الحارة" وعن علاقته "بالسنيورة" وهيامه بها، أو روايات تحكي عن حياة قاض في
الأرياف وغيرها.
لكن سرعان ما استعضت عن هذه الروايات بشيء أكثر بريقاً وأكثر إمتاعاً، حيث وجدت في التاريخ ضالتي المنشودة التي تحقق لي حاجتي إلى التّسلية والتحليق في
فضاء أرحب وأوسع.
وكما هو الحال في أغلب المناهج الدراسية للدول، يُبدأ بتدريس فترة ماقبل التاريخ وانسان ما قبل التاريخ، ثم يُبدأ بتدريس تاريخ البلاد القديم والأوسط والحديث.
وهكذا كان، فبعد تعريف علم التاريخ وفائدته، ولَجْنا إلى عصر الإنسان البدائي، ثمّ تدرّجنا في تاريخ تونس القديم وأهم الحضارات التي مرّت عليها من فينيقيين وبربر
وروم غربيين وبيزنطيين وعرب.
لقد وجدت ضالتي المنشودة في مطالعة التاريخ، فقد فتحت لي آفاقاً شاسعة وصُنع لي من قصة الحضارة شريطاً حلواً بأبطاله وأحداثه التي بدورها فتحت لي مجالات
أخرى للتحليل وربط "الخيوط" ببعضها البعض، بل زاد حبّي للتاريخ من شوقي للتعرّف على تاريخ بقيّة البلدان العربيّة والإسلاميّة.
وهكذا يبدو الأمر طبيعيّا جدّا، أليس لكلّ واحد منّا ولعٌ وشغف بشيء ما؟! فهناك المُولع بالجغرافيا وهناك المولع بالشعر وهناك الشغوف بالموسيقى أو الرياضة...
لكن شغفي أنا بالتاريخ فتح عيني على حقيقة عظمى وغيّر من حياتي الشيء الكثير!!
البِداية:
- الزيارات: 1034