• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

رأيان متناقضان

وهذا الادعاء هو الذي أثار عليه زعماء هذا الطريق ودارت بينهم مساجلات ومخاصمات كثيرة، وإذا حاولنا تلخيص رأيه من خلال كتاباته التي بين أيدينا فسنصل إلى رأيين مختلفين ومتناقضين بل ربما وصلنا إلى آراء متعددة وغير واضحة تماما. فهو كما يرى عبد الحفيظ المكي قد تعامل بنفس الأسلوب الذي تعامل به مع الفقهاء والمذاهب الفقهية وعلماء الكلام، إذ يرى أن شيوخ التصوف الأوائل قيدوا علومهم وتربيتهم بالكتاب والسنة. أما المتأخرون فقد ضل كثير منهم بتأثير الأفلاطونية الجديدة التي تسربت إلى الفكر الإسلامي عامة خلال ترجمة العلوم اليونانية وانحرفوا بعيدا عن الطريق الصحيح للزهد والتربية الروحية (1).
فابن تيمية حسب هذا الرأي لم يرفض التصوف جملة وتفصيلا وإنما انتقد ما طرأ عليه من خروج على الأهداف ومناهج تربية الإسلامية الأصيلة. يقول ابن تيمية: وما وقع في هؤلاء من فساد الاعتقاد والأعمال أوجب إنكار طوائف لأصل طريقة المتصوفة بالكلية حتى صار المنحرفون صنفين: صنف يقر بحقها وباطلها، وصنف ينكر حقها وباطلها. كما عليه طوائف من أهل الكلام والفقه. والصواب: إنما هو الإقرار بما فيها وفي غيرها من موافقة الكتاب والسنة والإنكار لما فيها وفي غيرها من مخالفة الكتاب والسنة (2).
وهذا الرأي الذي ذكره الشيخ الحراني فيه من الوضوعية ما فيه، وقد شاركه فيه عدد ممن درس التصوف وتعرض لعلاج مشكلاته العقائدية والسلوكية.
فأغلب الفقهاء يقفون موقفا معاديا لعقائد الحلول ووحدة الوجود والاتحاد التي وصم بها ما يسمى التصوف الفلسفي مع ابن عربي وابن سبعين والحلاج وعمر بن الفارض وغيرهم.
وإن كان هؤلاء وأتباعهم قد جنحوا إلى التأويل، أي صرف ما يصدر عنهم من أقوال أو كتابات عن معناها الظاهري، الذي قد يفهم منه الحلول والاتحاد أو وحدة الوجود.
قد يعتقد البعض أن ما ذمه ابن تيمية في طريقة أهل التصوف هو ما يعرف عنهم من شطحات وأحوال غربية تطرأ على بعضهم فتخرجه عن الحال المألوف، فمنهم من يتفوه بكلمات غير مفهومة حال جذبه، وقد تكون تلك الكلمات أو العبارات تخالف بمنطوقها بعض عقائد الإسلام، كما ويصدر عن بعضهم أفعال تتعارض مع ما ندبت إليه الشريعة، كتمزيق الثياب والصياح والغيبوبة لساعات بل ربما لأيام كثيرة. بالإضافة إلى طريقتهم في المأكل والمشرب. مما يجعل العوام تفتتن بهم وتروم اتخاذهم قدوة وأسوة. وما نجم عن ذلك من تعطيل لرسوم الشريعة والمدنية على حد سواء.
وحتى هذا الفعل منهم والذي قد يعزى إليه السبب في حملة الشيخ عليهم، تجد له في كتاباته وصفا وشرحا، فيه الكثير من الفهم والتبرير. أنظر إلى قوله يصف هذه الأحوال: " فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الغناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك، إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان، معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره، وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل ما يكرهه الله، ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم (3).
ومن يقرأ هذا الكلام وغيره في فتاوى الشيخ وكتبه لا يشك في موضوعية الشيخ وأنه قد أنصف القوم وتكلم بلسانهم. فهذا الذي قاله واصفا، هو أقصى ما يمكن أن يتفوه به من يروم الدفاع عن طريقة أهل التصوف وسلوكهم وحالاتهم. بل لقد سجل قلمه قولا، فصلا يمكن أن نضعه حدا أو فيصلا في الصراع المرير القائم الآن بين الصوفية أصحاب الطرق التعبدية وبين تلامذة ابن تيمية الجدد أي " السلفية " أو أتباع السلف.
يقول الشيخ: " من جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا فهو مخطئ ضال مبتدع " (4). وهذه الكلمات الثلاث الأخيرة من كلام الشيخ هي نفسها الأوصاف المتداولة بين السلفيين اليوم عندما يتعرضون لأهل الطرق الصوفية، فهم في نظرهم مبتدعة ضلال مخطئون، بل إنهم غارقون في الشرك وعبادة القبور.
والسلفية اليوم في إطلاقهم وصف الابتداع الضلال على الصوفية وأهل الطرق ليسوا مجتهدين وإنما مقلدة، يقلدون رأي إمامهم ابن تيمية فهم يصدرون عن رأيه وفتاويه ويحاكمون بها هؤلاء الطرقيين، وهذا لعمري إشكال يظهر تناقضا فظيعا في للفصل في هذه القضية. لذلك قلنا سابقا إن للشيخ الحراني إزاء التصوف مواقف متناقضة وأراء غامضة. فاتباعه يضللونهم ويبدعونهم - أي الصوفية - بل يكفرون قسما كبيرا منهم، ويتهمون قسما آخر بالوقوع في الشرك وعبادة القبور، في الوقت نفسه الذي نجد البعض من أهل الطرق والصوفية يستنجد بكلام الشيخ نفسه وفتاويه لإبراء ساحة أصحابه مما يصفهم به أتباع الشيخ " السلفية الوهابية ".
ينقل عبد الحفيظ المكي نصا لابن تيمية ينتصر فيه لطريقة أصحابه - الصوفية - وينزهم عن الابتداع والكفر والشرك. ويطلب من المنتسبين إلى السلفية وإلى شيخ الإسلام ابن تيمية على حد تعبيره، أن يلاحظوا ويقرأوا قول إمامهم: يقول ابن تيمية في الفتاوي: فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام. وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وكلا في طرفي هذه الأمور ذميم والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله. ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، والمقتصد الذي هو من أهل اليمين وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أولا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه (5).
وعليه فموقف السلفية اليوم الرافض للتصوف جملة وتفصيلا مذموم قطعا باعتراف ابن تيمية نفسه، بل إنهم مخطئون ومبتدعون وضلال. وبذلك يبلغ الموقف أقصى درجات التناقض والتخبط.
وإذا أراد الباحث أن يحقق في الأمر ليرسو على بر، سيجد أن مصدر هذا التناقض الواقعي بين الأتباع والخصوم، إنما مصدره كتابات الشيخ الحراني ومواقفه العملية. فقد ذكرنا سابقا أنه قد دارت بينه وبين الصوفية ملاحم وفتن خصوصا لما كان منفيا، كما أن رأيه في ابن عربي والحلاج صريح فهو يكفر ابن عربي، وهو من هو في التصوف وتاريخ القوم. كما ذم طريقة الغزالي وكان كثير التعرض له والوقوع فيه.
كل هذا إلى جنب ما خطه يراعه في كتبه والتي ينبعث منها الهدوء والوصف الموضوعي والمعالجة العلمية الرصينة. ونعتقد إن ذلك مرده إلى نفسية الشيخ وطبعه فقد كانت تنتابه حدة ومزاج عصيب فينزل على خصومه لا يرى لهم في الحق نصيبا يذكر، وربما كتب أو أفتى وهو متزن المزاج هادئ البال فيكون منه خلاف ما نطق أو أفتى به في حاله الأول.
هذا من جهة أخرى فقد يلقي هذا التناقض الكبير في مواقف الشيخ وكتاباته ظلالا من الشك في كل ما ينسب إليه من رأي وضده. على اعتبار أن التعارض يفضي إلى التساقط. وعليه فإن كلا من السلفية والصوفية ليسوا على شئ في ما يدور بينهم من حرب ضروس. وإن كانت كفة أهل التصوف راجحة لأنهم في موقف من يدافع على نفسه أمام الهجوم السلفي الذي يصدر عن فتاوى الشيخ وآرائه ليضع القوم في خانة الابتداع والضلال أو الكفر.





____________
(1) المرجع السابق، ص 198.
(2) المرجع السابق، نقلا عن الفتاوى، ج 10 ص 82.
(3) مجموع الفتاوى، جمع وترتيب عبد الرحمن العاصمي النجدي، مطبعة الرياض، ط 1 ج 11 ص 5. ضمن جوابه عن الصوفية أنظر عبد الحفيظ المكي، ص 202.
(4) المرجع السابق، نقلا عن المكي، ص 205.
(5) المرجع السابق، نقلا عن المكي، ص 206.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page