وإنّما الذي يعنيني في مقامي هذا بعد أن عرّفتكم بشخصي الضعيف، أن أعرّفكم بما هو أهم، وهو طريقي الذي أسلكني الله فيه وقادني به إلى الاستبصار واتّباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
لقد مرّ عليّ زمن استغرق عقدين من السنين أحاول خلالهما أن أتعرف على وجه الحق في أساس الاعتقاد في مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وكان منطلقي في بداية البحث هو نشأتي الريفية التي جُبلت على حب أهل البيت وإعطائهم الولاء القلبي الكامل.
ولمّا شغلت منصب القضاء في مصر في عام 1965م و1966م و 1967م ـ أي على مدى أعوام ثلاث ـ إتفق لي أن أتولى الفصل في قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين، وكذلك في قضايا الأحوال الشخصية للمسيحيين، في إحدى مدن الصعيد وهي مدينة " كوم امبو "، من أعمال محافظة أسوان، وفي هذه المدينة يتعايش المسلمون والمسيحيون في سلام اجتماعي واحترام متبادل، وقد اتفق لي أن عرضت عليّ قضية طلاق بين مسيحي ومسيحية، وكان مبنى الدعوى التي أقامها الزوج على الزوجة هي الزنا!! وهو السبب الوحيد لفصم العروة الزوجية عند الأقباط الأرثودكس.
وأود أن أشرح للمستمع وللمشاهد أنه: قبل ثورة يوليو 1952م التي فجرها جمال عبد الناصر، كان القضاء في الأحوال الشخصية للمسيحيين يعود الى محاكم محلّية خاصّة بهم في كنائسهم، فلمّا وحّد جمال عبد الناصر القضاء جعل الفصل في هذه القضايا للقضاء العادي ـ بما فيه من قضاة مسلمين أو مسيحيين ـ وكان القانون ينصّ على أن القاضي عند نظره للدعاوى التي بين المسيحيين يجب أن يحضر معه رجل الدين المسيحي ـ وهو القسيس ـ كخبير وليس كقاضي.
وكان القسيس الذي حضر معي الجلسة يبدو عليه التوتر والإنزعاج والقلق ممّا يرمي به المدّعي ـ الزوج ـ زوجته المدّعى عليها! فأشفقت عليه ممّا يعانيه وأردت أن أداعبه مخفّفاً عنه، فقلت له: هلاّ فكرتم بالبحث عن طريق لتخفيف الإنغلاق في مسألة الطلاق، بحيث يستطيع الزوج عندكم أن يطلق من غير حاجة الى إتهام زوجته بالزنا؟!
فجاء ردّ الرجل سريعاً ومنفعلا وقال: أتريد أن تجعل الطلاق عندنا مثل ما عند المسلمين " طَقَّتْ حَنَكْ "؟! ومعناها كلمة طائرة يتفوّه بها الرجل فتطلّق المرأة من غير ضوابط، لقد شدتني هذه العبارة!
وفي اليوم التالي كنت أجلس للقضاء في الأحوال الشخصية بين المسلمين، فتقدّمت مني إمرأة مسلمة ترفع دعوى بطلب نفقة زوجية من زوجها لامتناعه من الإنفاق عليها، فلمّا طلبت من الزوج الجواب على الدعوى، كان جوابه: إني طلقتها منذ عام وليس لها نفقة في ذمّتي.
وإذا بالمرأة تصرخ وتستجير وتواجه دعوى زوجها عليها وتصفها بالكذب، وأنّه كان معها في معاشرة زوجية منذ أيام فقط!!
كان لهذا التخاصم وقع كوقع الصاعقة عليّ، فقد أعاد الى ذهني كلمة القسيس عن الطلاق الخالي من الضوابط، حيث أن الطلاق في الراجح على مذهب أبي حنيفة يمكن أن يتم غيابياً وبلفظ صريح أو بكناية أو معلّق.
فوجدت أن الأمر يحتاج الى مراجعة من هو أعلم مني بشؤون الشريعة والأحوال الشخصية، فذهبت لزيارة فضيلة المرحوم الشيخ محمد أبو زهرة ـ وكان أستاذاً لي في كلّية الحقوق ـ وشكوت إليه قواعد الطلاق في مذهب أبي حنيفة التي تجيز وقوع مثل هذه المأساة بحيث تطلق الزوجة في غيبتها ومن دون علمها ومن دون شهود على ذلك، ثمّ يبقى زوجها معاشراً لها بغياً وعدواً!!
فكان جواب الشيخ أبي زهرة لي: يا ولدي لو كان الأمر بيدي ما جاوزت في القضاء والفتيا مذهب الإمام الصادق(عليه السلام).
ووجهني إلى أن أعود الى سورة الطلاق وإلى شروح مذهب أهل البيت حول أحكام الطلاق.
ولما عدت إلى السورة وإلى شروح الأحكام، تبيّن لي أنّ الطلاق لا يقع صحيحاً في كتاب الله إلاّ في طهر لم يمسسها الزوج المطلق فيه، وبلفظ صريح، وبشاهدي عدل، فقلت: سبحان الله! كيف غاب هذا عن فقهاء تركوا مذاهب يدين بها الناس وتتأثر بها العلاقات ويصبح بها الحلال حراماً والحرام حلالا؟
كانت هذه أوّل محطة جادّة وضعتني في مواجهة مع نفسي، إذ أنّ الأمر جدٌّ لا هزل فيه، فقلت في نفسي: إبحث وتقصى واستعصم بما تعلم أنه الحق.
الطريق إلى الاستبصار
- الزيارات: 813