خالي : انتهيت ؟
قلت : أجل ، وهل بعد هذا الكلام من زيادة ، وابتسمت قائلةً : قطعت جهيزة قول كل خطيب ، ولو كان للشيعة ربع هذه الأدلة لقلنا إنهم تأوّلوا ، ولوجدنا لهم عذراً .
خالي : هوِّني عليك يا بنت أختي ، زادني الله وإياك بصيرة في الحق .. وهدانا الله إلى طريق الهدى والصراط المستقيم .
حججك ـ يا عزيزتي ـ قويّة ومنطقيّة ، ولكن عندي عدّة أسئلة وبعض الشبهات حول ذلك ، فإن أجبت عنها كان الصواب معك .
قلت بوجه مستبشر وبلهفة : تفضَّل .. تفضَّل .
خالي : ذكرت أنّ الحل والمنهجيّة التي وضعها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمَّته بعد وفاته هي الشورى بين المسلمين ، واستدليت بالآيتين المباركتين : {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}(1) ، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}(2) .
قلت : أجل ، هو ذلك .
خالي : حسناً ! من هو المخاطب بقوله تعالى : {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}(3) ؟
قلت : المخاطب هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) .
خالي : إذن فالخطاب في الآية متوجِّهٌ إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته ، أليس كذلك ؟
قلت وبعد ثوان من الصمت : لم أفهم ذلك .
خالي : بما أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو الحاكم الشرعي ، وخطاب الآية متوجّهٌ له ، فلا يمكن أن تكون الآية مؤسِّسة لنظريَّة الحكم ، وإلاّ يكون في الأمر خلف وتحصيل حاصل ; لأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الحاكم حين ذاك ، فكيف تكون الشورى لتنصيب الحاكم والحاكم موجود ؟! فأقصى ما نفهمه من الآية أنّ من وظائف الحاكم الشرعيِّ هو الشورى مع رعيّته ، هذا ما أكَّده أميرالمؤمنين (عليه السلام) : من استبدّ برأيه هلك ، ومن شاور الرجال في أمورها شاركها في عقولها(4) ، هذا أوَّلا .
وثانياً : إنّ مشورة الحاكم للرعيَّة ليست على وجه الإلزام ; أي ليس واجباً على الحاكم الأخذ برأيهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى : {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}(5) ، فالأمر أوَّلا وأخيراً منوط بالحاكم .
هذه هي الشورى الشرعيَّة التي أمر بها الإسلام ، وهي لا تنعقد إلاّ بوجود الحاكم والقيّم على الشورى ، فأركان الشورى في الإسلام ، أوَّلا : المتشاورون ، وهذا من قوله تعالى : {وَشَاوِرْهُمْ} ، وثانياً : موضوع للشورى ، والدليل عليه : {فِي الأَمْرِ} .
وثالثاً : وليٌّ وقيّم على الشورى ، حيث ترجع إليه الآراء ، وهو الذي يحكم فيها : {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} ، فبهذا لا يمكن أن تنعقد الشورى بكيفيَّتها الإسلاميَّة إلاّ بحاكم ، وأنتم تزعمون أنّ الحاكم لا يأتي إلاَّ عن طريق الشورى ، وهذا دور ، والدور باطل كما تعلم ، أي ـ بمعنى آخر ـ إن الحاكم لا يأتي إلاّ بالشورى ، والشورى لا تقوم إلاَّ بالحاكم ، فإذا حذفنا المتكرِّر تكون المحصَّلة : الحاكم لا يقوم إلاَّ بالحاكم ، أو الشورى لا تقوم إلاّ بالشورى ، وهذا باطل بإجماع العقلاء ، فتكون الآية خارجة عن موضوع تعيين الحاكم ، ولأجل ذلك لم نر أحداً من ]أهل[ السقيفة احتجّ بهذه الآية .
فالمتعمعِّن في الآية يتضح له أنّ الأمر بالمشاورة كان بقصد الملاينة معهم والرحمة بهم ، ومن سبل الترابط الذي يجمع بين القائد وأمَّته ، قال تعالى : {فَبَِما رَحْمَة مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ}(6) .
أمَّا قوله تعالى : {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(7) فالكلام فيها بنفس ما تقدَّم ; لأن الخطاب كان شاملا للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً ، فمن الممنوع عقلا وشرعاً أن يعقد الصحابة مشورة من دون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بينهم ، فإذا تحتّم دخول الرسول معهم ـ وهو الحاكم المطاع ـ فتخرج الشورى حينها عن موضوع تعيين الحاكم كما تقدَّم في الآية الأولى ، فتكون الآية حثَّت على الشورى فيما يمتُّ إلى شؤون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أمرهم.
أمَّا كون تعيين الإمام داخلا في أمورهم فهذا هو أوَّل الكلام ، وعلى أقل تقدير إذ لا ندري هل أن أمر الإمام هو من شؤون المؤمنين أم من شؤون الله سبحانه ، ومع هذا الترديد لا يصحُّ التمسُّك بالآية .
فهذه الآيات التي ذكرتيها لا يستفاد منها أكثر من رجحان التشاور بين المؤمنين في أمورهم ، كما أن التشاور لا يمكن أن يكون في القضايا التي ورد فيها تحديد شرعيٌّ ، فليس لأحد صلاحيَّة في قبالة تشريعات الله ، قال تعالى :{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}(8) ، وقال : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً}(9) .
... فالآيتان أجنبيَّتان تماماً عن موضوع القيادة ، وبالتالي دليلك هذا ساقط ، ولا ينهض بأيِّ حال من الأحوال لإثبات المدَّعى .. أليس كذلك ؟!
قلت : هذا الكلام يبدو في ظاهره وجيهاً ، مع أنّه يشوبه نوع من الغرابة ، فلم أسمع من قبل بمثل هذا الاستدلال ، ولكن كل ما أفهمه أنّ اختلاف أمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة .
________
1- سورة آل عمران ، الآية : 159 .
2- سورة الشورى ، الآية : 38 .
3- سورة الشورى ، الآية : 38 .
4- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي (عليه السلام) : 4/41 ح161 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 72/104 ح38 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 18/382 .
5- سورة آل عمران ، الآية : 159 .
6- سورة آل عمران ، الآية : 159 .
7- سورة الشورى ، الآية : 38 .
8- سورة القصص ، الآية : 67 .
9- سورة الأحزاب ، الآية : 36 .
الاستدلال بآيات الشورى باطل
- الزيارات: 684