وأما جعفر بن ابي طالب فحسبه من العظمة شهادة الرسول الاقدس بأنه يشبهه خلقاً وخلقاً ذلك الخلق الكريم الموصوف في الذكر الحكيم بقوله عز شأنه : «وانك لعلى خلق عظيم»(1) وحيث لم ينص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صفة خاصة من اخلاقه فلا جرم من شمول تلك الكلمة الذهبية «اشبهت خَلقي وخُلقي» لجميع ما اتصف به الرسول حتى الدنس من الرجس والآثام .
ولو تنازلنا عن القول بعموم التشبيه لهذه الخاصة فلا بد من القول بتحقيق اظهر صفات المشبه به للمشبه ولا شك في أن ذلك المعنى اظهر ما في خلقه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .
وغير خاف ان هذه الكلمة قالها النبي لما تنازع عنده أمير المؤمنين وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة في ابنة حمزة بن عبد المطلب وكان كل منهم يريد القيام بتربيتها .
وذلك ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من مكة بعد انقضاء الأجل بينه وبين أهل مكة في عمرة القضاء الواقعة في السنة السابعة للهجرة تبعته ابنة حمزة تقول يا عم خذني معك فأخذها أمير المؤمنين ودفعها الى فاطمة عليها السلام وفي المدينة جرى ذلك النزاع بينهم فقال رسول الله لزيد أنت أخوها ومولانا وقال لجعفر اشبهت خَلقي وخُلقي وقال لامير المؤمنين «أنت منّي وأنا منك» ثم قضى بها للخالة وهي أسماء بنت عميس(2) .
هذا هو الحديث المذكور في الجوامع والنظرة الصادقة فيه تفيدنا معرفة السر في اختلاف خطاب النبي مع ابني عمه وكل منهما نصح له في التلبية على الدعوة الالهية واخلص في المفاداة في سبيل تبليغ الرسالة خصوصاً مع معرفته بأساليب المحاورة لانه سيّد البلغاء «وما ينطق عن الهوى»(3) فلا جرم حينئذ من كون الوجه فيه هو الاشارة الى صفة سامية تحلّى بها أمير المؤمنين وتخلّى عنها جعفر وليست هي إلا خلافة الله الكبرى فان علياً عليه السلام حامل ما عند رسول الله الأعظم من علم متدفق وفقه ناجع وخبرة شاملة وتأمل فيّاض وخلق عظيم لا يستطيع البشر القيام به وهذا هو الذي تفيده المنزلة في قوله «أنت منّي وأنا منك» بعد فرض المباينة بينهما في الحدود الشخصية والنبي لا ينطلق ساهياً ولا لاهياً فلا بد أن يكون قاصداً تلك المنزلة الكبرى التي لم يحوها جعفر وان بلغ في خدمة الدين كل مبلغ .
وهذا النزاع انما هو في الحضانة التي هي سلطنة وولاية على تربية الطفل وإدارة شؤونه وقد كان لابنة حمزة يومئذ أربع سنين وهذا القضاء ، كما يفيدنا سقوط حضانة الام إذا تزوجت ، تفيدنا أولوية الخالة على العمة فان عمتها صفية كانت موجودة يومئذ وامها سلمى متزوجة بشداد بن الهادي الليثي حليف بني هاشم .
ويرشدنا طلب أمير المؤمنين الحضانة الى ان أولوية الخالة على غيرها من الاقارب انما هو عند المخاصمة والا فلم يخف الحكم على سيّد الوصيين وهو مستقى الاحكام وينبوعها وقد امتزجت ذاته المقدسة بالمعارف الالهية والاسرار الربوبية واستمد من اللوح المحفوظ .
ولعل السر الدقيق في مخاصمته معهما تعريف الامة مقامه الرفيع ومنزلته الكبرى التي لا يدانيها كل احد والواجب عليه بما انه المنقذ الاكبر وامام الامة ارشادها الى الطريق اللاحب بأي نحو من أنحاء الكلام .
لقد كان جعفر ملازماً لصاحب الرسالة ملازمة الظل لديه يرقب أفعاله وتروكه ويسمع تعاليمه وعظاته ويبصر اعماله وحكمه ويقتص أثره منذ كان يصل جناح الرسول الايسر في الصلاة بعد أمير المؤمنين وخديجة الكبرى .
وكانت قريش تخبط في غلواء جحوذها وتغلي مراجل بغضائها على الصادع بالدين الحنيف وعلى كل ذلك تمرنه التعاليم النبوية الخاصة به وتكهربه تهذيبات المشرع الاطهر ولا تدعه جاذبة الدعوة الالهية يلوي يميناً ولا شمالاً .
ومن هنا أئتمنه صاحب الرسالة على نشر كلمة التوحيد وعلى ضعفاء المسلمين يوم بعثه الى الحبشة في السنة الخامسة من الهجرة فأدّى النصيحة ونهض بالدعوة حتى استمال النجاشي الى الاسلام فآمن غير ان منيته حالت دون امنيته .
ولو لم يكن جعفر بتلك المنزلة الرفيعة لما تعاقبت مفاخرات أئمة الدين به كما افتخروا بعمّه أسد الله وأسد رسوله في كثير من مفاخراتهم ففي احتجاج الطبرسي ان أمير المؤمنين احتج على أهل الشورى بأن أخاه جعفر المزين بجناحين في الجنة يحل فيها حيث شاء فلم يرد عليه أحد بل قابلوه بالتسليم والقبول .
وفي نهج البلاغة فيما كتب به الى معاوية ان قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل له الطيار في الجنة وذو الجناحين .
فلو لم يكن كفاحه عن الدين عن بصيرة نافذة ويقين ثابت لما افتخر به المعصومون والعارفون بمآل العباد حتى جعلوا مواقفه في الدين ذريعة الى التوسل الى مطلوبهم .
ولحزمه الثابت ومواقفه المحمودة واصابته في الرأي وقديم إيمانه أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة مؤتة على المسلمين ولم يجعل عليه أميراً فإذا قتل فالامير زيد بن حارثة فان قتل فالامير عبد الله بن رواحة(4) فما ذهب اليه فريق من المؤرخين من تقديم زيد وابن رواحة عليه يدفعه صحيح الاثر والاعتبار الصادق .
وهذه العظمة هي التي تركت قدومه من الحبشة يوم فتح خيبر أعظم موهبة منح الله تعالى بها نبيّه تعادل ذلك الفتح المبين حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم (ما أدري بأيّهما أسرّ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر) ثم قال له ألا احبوك ألا امنحك فظن الناس انه يعطيه ذهباً وفضة لما فتح الله عليه من خيبر فقال له جعفر بلى يا رسول الله فعلمه صلاة التسبيح وهي المعروفة بصلاة جعفر(5) .
وهذه الحبوة من الرسول الكريم لابن أخيه حيث علم ان من فرط قداسته لا يروقه الا ما كان من عالم القدس فخلع عليه بها وجعله وسام شرف له وهي من المتواترات بين العامة والخاصة كما نص عليه المجلسي في البحار .
ولكن شرذمة من مناوئي أهل البيت لم يرق لهم ثبوت تلك المنحة لأخي أمير المؤمنين وحيث لم يسعهم أن يلصقوها بواحد منهم زحزحوها الى العباس بن عبد المطلب كما في شفاء السقام للسيد جعفر الكتاني صفحة 20 .
وقد كشفت الحقيقة عن نفسها وأماطت ستار التمويه بافتعال هذه النسبة من عكرمة مولى ابن عباس الكذاب بنص الذهبي في الميزان وياقوت في المعجم وابن خلكان في الوفيات بترجمته .
____________
(1) سورة القلم ، آية : 4 .
(2) أخرج الحديث البخاري في صحيحه ج 3 ص 50 في عمرة القضاء والحاكم في المستدرك ج 3 ص 220 والحلبي في السيرة الحلبية ج 3 ص 76 وابن دحلان بهامشها ج 2 ص 261 .
(3) سورة النجم ، آية : 3 .
(4) تاريخ اليعقوبي ج 2 واعلام الورى ص 64 ومناقب ابن شهراشوب ج 1 ص 143 .
(5) انظر الكافي والهداية للصدوق وجمال الاسبوع ودعوات الراوندي وأربعين الشهيد .
الكافي ج 3 ص 465 ح 1 والهداية للصدوق ص 53 س 6 .
الطيّار
- الزيارات: 924