رغم أنّ الحزب قد تمكّن من الغلب على الكثير من مواقع السلطة منذ البداية ، إلاّ أنّ ممارساته الواضحة المتوائمة مع طبيعة أغراضه ومنهجه لمْ تفصح عن نفسها جليّاً إلاّ في عهد عثمان . ونقول بجلاء الإفصاح نظراً ؛ لأنّه كانت هناك شواهد وبوادر تنبئ بها فيما سبق عهد عثمان ، وقد كانت قمينة بلفت الأنظار إليها .
فكان أدعى بأصحاب النظر استجلاؤها قبل جلائها ، إلاّ أنّا نترك تفاصيل هذا الأمر لموضعه من البحث .
ولندع أحد المعاصرين للأحداث يروي لنا كيف كانت بداية تمكّن الحزب الفعالية ، وشيوع سياساته ، وظهور أعلامه ، كتب الأشتر إلى عثمان ـ فيما نقله البلاذري في أنساب الأشراف ـ يقول : من مالك بن الحارث إلى الخليفة المُبتلى الخاطئ ، الحائد عن سنّة نبيّه (ص) ، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره .
أمّا بعد ، فقد قرأنا كتابك ، فَانْه نفسك وعمّالك عن الظلم والعدوان وتسيير الصالحين ، نسمح لك بطاعتنا ، زعمت أنّا قد ظللنا أنفسنا ، وذلك ظنّك الذي أرداك فأراك الجور عدلاً والباطل حقّاً .
وأمّا محبتنا ، فأنْ تنزغ وتتوب وتستغفر الله من تجنيك على خِيارنا ، وتسييرك صلحاءنا ، وإخراجك إيّانا من ديارنا ، وتوليتك الأحداث علينا ، وأنْ تُولّي مصرنا عبد الله بن قيس أبا موسى الأشعري وحذيفة ، فقد رضيناهما ، واحبس عنّا وليدك وسعيدك ومَن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك إن شاء الله . والسّلام .
فهذه إذاً صحيفة اتّهام للخليفة ، وبيان بمطالب المعارضة في أحد الأمصار الهامّة للدولة الإسلاميّة ، وهي الكوفة .
فصحيفة الاتّهام ، كما ترى ، تتبلور في الآتي :
1 ـ الظلم والعدوان من الخليفة ونوّابه .
2 ـ قلب الحقائق والتلبيس على الناس .
3 ـ التنكيل بالمعارضة حتّى النفي من الديار .
4 ـ عدم أهليّة وصلاحيّة اُمراء الخليفة .
5 ـ إيثار الهوى على المصلحة .
6 ـ محاباة الأقارب على الرعيّة .
وأمّا مطالب المعارضة ، فتنحصر في الآتي :
ـ التزام الحكم بالقرآن والسنّة .
ـ عدل الحكّام ، وإلاّ فلا طاعة .
ـ كفالة حرية وأمان المعارضة .
ـ توافر الأهليّة للحكم في الولاة .
ـ حقّ الرعيّة في اختيار مَن يحكمها .
وإذاً كان هذا هو الحال في الأمصار ، فكيف كان في عاصمة الدولة المدينة ؟
يُحدّثنا الطبري(1) أنّ أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اجتمعوا لمّا كثَّر النّاس على عثمان ، ونالوا منه ، وانتدبوا عليّ بن أبي طالب (ع) ليكلّمه .
ذهب عليّ (ع) إلى عثمان قائلاً له : (( النّاس ورائي ، وقد كلّموني فيك والله ، ما أدري ما أقول لك وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه .
إنّك لتعلم ما نعلم ، وما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلغكه ، وما خصصنا بأمر دونك ، وقد رايت وسمعت ، وصحبت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونلت صهره ، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك ، ولا ابن الخطّاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنّك أقرب إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رحماً ، ولقد نلت من صهر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما لمْ ينالا ، ولا سبقاك إلى شيء .
فالله الله في نفسك ! فإنّك والله ، ما تبصر من عمى ، ولا تعلم من جهل ، وإنّ الطريق لواضح بيّن ، وإنّ أعلام الدين لقائمة .
تعلم يا عثمان ، أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي وهدى ، فأقام سنّةً معلومةً ، وأمات بدعةً متروكةً ، فوالله ، إنّ كلاً لبيّن ، وإنّ السنن لقائمة لها أعلام ، وإنّ البُدع لقائمة لها أعلام ، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ، ضلّ وضُلّ به ، فأمات سنّة معلومةً ، وأحيا بدعةً متروكةً ، وإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، يقول : يُوتى يوم القيامة بالإمام الجائر ، وليس معه من نصير ولا عاذر ، فيُلقى في جهنّم .
وإنّي أُحذّرك الله ، وأُحذّرك سطوته ونقماته ، فإنّ عذابه شديد أليم . وأُحذّرك أنْ تكون إمام هذه الاُمّة المقتول , فإنّه يُقال : يُقتل في هذه الاُمّة إمام ، فيُفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، وتلبس أمورها عليها ، ويتركهم شِيعاً ، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً )) .
فهذا إذاً اضطراب وقلق وتململ ، ثمّ معارضة وبداية تمرّد ، ثمّ فتنة معمية ، ثمّ صراع رهيب لمّا يزل ، كما توقّع عليّ (ع) حتّى اليوم .
ولم تكن البداية في كلّ ذلك إلاّ عندما بدأت سياسة الحزب الأموي تأخذ طريقيها للتنفيذ الفعلي ، إذ تسلّل أوّلاً إلى مواقع السلطة ، ثمّ شرع في الغلب على جميع مقدرات الدولة ، إلى أنْ ملك نهائيّاً على يد معاوية .
فكيف كانت سياسته حينما وصل إلى هذا الحدّ ؟
تعالَوا نقرأ معاً رأي أحد النقّاد وهو الجاحظ ؛ لنقف على مُوجز هذه السياسة . يقول الجاحظ (2) :
استوى معاوية على المُلك ، واستبدّ على بقيّة الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سمّوه عام الجماعة ، وما كان عام جماعة ، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكاً كسروياً ، والخلافة غصباً قيصرياً ، ولم يعدّ ذلك أجمع الضلال والفسق .
ثمّ ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا وعلى منازل ما رتبنا , حتّى ردّ قضية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ردّاً مكشوفاً وجحد حكمه جحداً ظاهراً في ولد الفراش وما يجب للعاهر , مع اجتماع الاُمّة أنّ سميّة لم تكن لأبي سفيان فراشاً ، وأنّه إنّما كان بها عاهراً ، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكّفار .
وليس قتل حجر بن عدي ، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر ، وبيعة يزيد الخليع ، والاستئثار بالفيء ، واختيار الولاة على الهوى ، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة ، من جنس جحد الأحكام المنصوصة والشرائع المشهور ، والسنن المنصوبة .
وسواء في باب ما يستحقّ من الإكفار جحد الكتاب وردّ السنّة إذ كانت السنّة في شهرة الكتاب وظهوره ، إلاّ أنّ أحدهما أعظم ، وعقاب الآخرة عليه أشدّ . فهذه أوّل كفرة كانت من الاُمّة . ثمّ كانت فيمَن يدّعي إمامتها والخلافة عليها .
* *
ولعلّك تلاحظ معي هُنا ملاحظة هامّة للغاية ، تلك هي اشتراك خطاب الجاحظ هذا وخطاب الأشتر ذاك في نصوص اتّهام تكاد تكون متطابقة في الجنس ، وإنْ اختلفت في درجت القوّة والعنف ، ذاك أنّ معاوية انتقل بأفعاله إلى طور آخر من العلانيّة بلا مُبالاة ولا مُراعاة ، بعد أنْ كانت تُؤتى على استحياء أوّل مرّة .
فقد كان اتّهام الأشتر لعثمان بالظلم والعدوان ، فأضحى الاتّهام لمعاوية لا بالفجر وإنّما بالكفر . وقد كانت في الأولى إمامة وخلافة ، فصارت في الثانية مُلكاً قيصريّاً ، وغصباً كسرويّاً .
وكانت في الأولى تنكيلاً بالمعارضة ، فأضحت على يد معاوية قتلاً ـ حجر بن عدي وصحبه على سبيل المثال ـ .
وكانت في الأولى حيدة عن الأحكام تأوّلاً ، فغدت ردّاً مكشوفاً وجحداً ظاهراً للكتاب والسنّة .
وظلّت سمة مشتركة واحدة كما هي ، وهي إلباس الحقّ بالباطل ، وأقلّه إطلاق عام الجماعة على عام الفرقة والقهر .
* * *
ـــــــــــــــ
(1) المرجع السابق 4 / 337 ، أحداث سنة 34 هـ .
(2) الجاحظ ، رسالة في بني اُميّة ، ملحقة بنهاية كتاب التنازع والتخاصم للمقريزي ، المرجع السابق / 124 .
سيرة الحزب من قريب حتّى عهد معاوية
- الزيارات: 1029