• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عزل الكوفة

 وكان من حسن حظ الكوفة أن بقيت بمعزل عن نهج معاوية وحزبه ، لذلك سلمت لها أخلاقها وإن فرض عليها نهج اُموي من نوع آخر ، وهو الإرهاب والجوع ، إلاّ أنّ ذلك لم يفض بها إلى التميّع والتخنّث ، فكانت ما تزال تحتفظ بروح الثورة جياشة فيها ، كما احتفظت بعزيمة الجهاد وجلد المجاهدين ، ولأجل هذه القوى المتدفقة في حياتها الثورية ميّزها الأمويون عن سائر البلاد بوضع خاص ، فأرسلوا إليها عمّالاً أشدّاء ، وفرضوا عليها أتاوة من نوع خاص ، وهي ردع الحركات الثورية وصدّها ، أو الحرمان من أبسط الحقوق ، وقطع العطاء عنهم ، ولم تستطع شدّة الولاة عليهم وعسف الحكام لهم أن تقف في وجه السيل المتدفق من القوى الثوريّة والعناصر المضادة للحكم .
يرجع فضل ذلك إلى الجذوة الملتهبة من روح النضال والعزم التي فجّرها فيهم أميرالمؤمنين ، وكانت السبب الأكبر في حمايتهم من هيمنة أخلاق ولاة الأمور عليهم ، فحافظوا على تماسك أخلاقهم بعد ما هبت رياح السياسات الهوجاء بأخلاق الاُمّة قاطبة كما مرّ سلفاً . لمّا جمعت العراق لزياد بعد موت المغيرة ، فأتى الكوفة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :
إنّ هذا الأمر أتاني وأنا بالبصرة ، فأردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرطة البصرة ثمّ ذكرت أنّكم أهل حقّ وإنّ حقّكم طالما دفع الباطل ، فأتيتكم في أهل بيتي ، فالحمد لله الذي رفع منّي ما وضع الناس ، وحفظ منّي ما ضيّعوا حتّى فرغ من الخطبة فحصب على المنبر فجلس حتّى أمسكوا ، ثمّ دعا قوماً من خاصّته وأمرهم فأخذوا أبواب المسجد ثمّ قال : ليأخذ كلّ رجل منكم جليسه ولا يقولنّ لا أدري من جليسي ؟ ثمّ أمر بكرسي فوضع له على باب المسجد فدعاهم أربعة أربعة يحلفون بالله ما منّا من حصبك ، فمن حلف خلاّه ومن لم يحلف حبسه وعزله ، حتّى صار إلى ثلاثين ويقال : بل كانوا ثمانين فقطّع أيديهم ...(1)
ودلالة هذه المواقف على تماسك الأخلاق لا تكاد تخفى ، فإنّ الكوفي آثر قطع اليد على أن يحلف بالله كاذباً وهذه ظاهرة فريدة في نوعها لم نعثر عليها إلاّ في الكوفة بلد الثورة والثائرين ، من هنا نجد الكوفة من دون سائر البلاد احتضنت زعماء الثورة بدءاً بأميرالمؤمنين وتسلسلت مع أولاده الطاهرين ، وضحّت في سبيل ذلك بأفلاذ أكبادها وما كان يقوم مع الثائرين من أهل البيت غير الكوفة . ويعود سبب الإخفاق في ثوارتهم لا إلى الكوفة وحدها ، ولكن السبب الأكبر أنّها تكون دائماً ثورة على دولة متحدة الأجزاء متناسقة الأقاليم قائمة على أحسن حال ، لها جيش ضارب وعسكر مجر ، وقوّة تفوق طاقة الثوار أضعافاً مضاعفة من هنا تطفو الثورة بعض حين في هذا البحر الخضم ، ثمّ تغوص في أعماقه لتعود من جديد منقضة على الدولة حتّى تمكّنت في الآونة الأخيرة أن تعصف بالدولة على يد الثوّار من توّابين وطالبين بثأر الحسين بزعامة المختار ، ورمت بالدولة السفيانيّة بعيداً عن أرض العار وأراحت الاُمّة من ويلانها .
وحيث أنّ التجاوب معدوم بين أجزاء الدولة الإسلاميّة لما عليه وضع الخلافة من قبل ، فقد كان موزعاً بين أهل الإختيار وأهل النص واولئك الأكثرية الغالبة واولاء هم الأقلية المغلوبة ، من ثمّ استطاعت جهة اُخرى نظير الجهة المطوح بها أن تستولي على الحكم وتأخذ بأزمّته وتمسك بيد من حدّ يد مقاليده ، وتعود الأمور في الحكم سيرتها الاُولى وتدور في حلقة مفرغة ، وتبقى العناصر الثورية في الكوفة حيث هي تبشر بفجر جديد وتنتظر اليوم الموعود .
كلّ هذا والأسباب ليست منحصرة في غدر الكوفة أو عدم وفائها كما زعموا وقال مثلهم : الكوفي لا يوفي ، فالكوفة إن حقّقت هي البلد الثوري الوحيد في البلدان الإسلاميّة الذي ما فتىء بعصف بين الفينة والفينة على شكل ثورة عارمة بالظلم والظالمين ، والكوفة هو البلد الوحيد الذي نجى من الوباء الأخلاقي الذي هبّ على البلاد الإسلاميّة بفعل سياسة الحاكم المفرضة ، وسلم من الموجة الخبيثة التي غمرت بلاد المسلمين كلّها ، من ثمّ نجده دون غيره يعمد إلى احتضان الثورة الحسينيّة التي عرفها من قبل حينما كان الحسين (عليه السلام) حالاً بين ظهراني أهله ، وابتدأ يعمل على استقدام الحسين لتسليم مقاليد الثورة إليه ، ولعلّ غرض بعض العناصر الثائرة كان هو التغيير في السياسة والحكم فحسب لعدم اطّلاعه على جوهر الحركة الحسينيّة ، فما كلّ ثائر معه ألم بهدفه أو عرف السبب الذي أخرجه من المدينة إلى مكة ومنها إلى العراق .
وبقي هدف الحسين الأكبر مقصوراً على ثلة من علماء الثورة وخاصّتها الذين انتجبهم الله بها كما ينتجب لرسالاته خيرة خلقه وهم خيرة الخلق (عليهم السلام) الذين رابطوا مع الحسين وحبسوا أنفسهم معه حتّى فازوا فوزاً تمنّى الإمام المعصوم وهو الصادق (عليه السلام) أن يكون معهم فيفوز بفوزهم ، وفدى لهم أباه الباقر واُمّه : بأبي أنتم واُمّي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم وفزتم والله فوزاً عظيماً فياليتني كنت معكم فأفوز معكم .
وصار طلب الفوز معه وتمنّيه شعاراً لشيعة أهل البيت كما تطلب الجنّة وتشتهى .


______
(1) الطبري ، ج5 ص235 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page