فرصة التغيير الحضاري 2
البُعد الثاني: الجانب الروحي ؛ فالمتعارف يين المسلمين اليوم - مع بالغ الأسف - أنهم يتركون ابناءهم ضحية للبرامج الاعلامية الماجنة، او أنهم يعهدون بتربية أولادهم الى اناس مجهولي الحال على أقرب تقدير، والسبب في ذلك قد يكون في عدم ايلائهم الاهتمام اللازم الصادر من حقيقة التشريع الاسلامي في هذا الإطار . ثم إننا نرى الآباء والامهات - بعد كل هذا التقصير - يعرضون اولادهم لشديد العقوبة إذا هم لم يلتزموا بالتعاليـم الدينيـة، وهذا خطأ لعمـري كبير ؛ يصل الى حد الجريمة بحق الأولاد . فالتربيـة السليمـة أساسها الوقايــة عـن الوقوع في المساوئ، والآباء مدعوون قبل كل شيء الى اعداد العدة لتوفيـر وسائل واساليب التربية الصالحة ليضمنوا حيـاة طيبـة لأولادهـم .
إن الأغـرب في الأمر هو أن البلاد الغربية قد اعتمدت قاعدة التخصص حتــى في طريقة الرعي والفندقة وغيرها من الأمور التي قد لاتخطر ببال، ولكننا نحن المسلمين نتقاعس عن ان يكون لنا خبير في التربيـة الصالحة . فنحن نولي أهمية كبرى لدراسة الجغرافية والتأريـخ، ولكننا لم نقم ببناء مؤسسات مختصة بارشاد المتزوجين وتعليم أسس التعامل والتربية الفذة التي تضمن تخريج أجيال صالحة وذكية ومخلصة لدينها في المجتمع .
فالطفل الصغير بحاجة ماسة الى التعرف على كيفية التعامل مع أبية وأمه وإخوانه وأصدقائه؛ تعاملاً يجعله قويم الشخصية، معتدل السلوك، وبإمكانه مواجهة مصاعب الحياة بفطنة كافية.. وليس كما هو الملموس والمشاهد في واقعنـا، حيث يشب الطفل وتشب معه العقد والأمراض النفسية الصادرة أساساً عن جهله بما يحيط به. وذلك لان أي طفل حينما يفتح عينيه على مناظر السوء واصوات الباطل، من المسيقى الماجنة والرقص والاختلاط الباطل، فانه بالتأكيد لن يجد فسحة تمكنه من التفكير السليم او بناء الاعتقاد الصائب.
إن الاسلام يفترض مباشرة أن يسعى الوالدان الى تنمية شخصية الأطفال على ضوء ما رسمه هو لا غير، وأن يقلد الأطفال المسلمون أئمتهم الهداة (عليهم السلام) حينما كانوا هم أطفالاً . بمعنى أن الآباء معنيون بأن ينقلوا لاولادهم سيرة الأئمة فيما يساعدهم في شأن التربية والاصلاح .
إذن فالمفروض هو أن يفكر كل انسان بانتخاب القرين المتوفر على شروط الصلاح في الزواج، ثم يرسم الخطط المستقاة من المنهج التربوي الديني المتفتح لرعاية الاولاد وتربيتهم، لاسيما في ظل افتقـار مدارسنا اللادينية لتلكم المناهـج.
البُعد الثالث: الجانب السياسـي؛ فاقول إننا حينما نتظلم بداعي تسلــط الجبابـرة علينـا، فمن اللازم أن نعرف بأن الظلمة إنما هم سيئات أعمالنا، وأن الجبابرة نتاج سلوكياتنا .
فالمجتمع الفاضل هو المجتمع الذي لا ظلم فيه ولا رشوة، ولا كذب ولا سرقة، ولا أنانية ولا غش . ومثل هذا المجتمع من المستحيل أن يسلط الله سبحانه وتعالى عليه الظلمة والجبابرة، لأن القرآن الكريم يؤكد: « وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » (الانعام/129) ويقول: « قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ » (الانعام/65) .
فحينما يكون المجتمع مجتمعاً فاسداً، لن يليق به أن يحكمه الحاكم العادل. وإذا ما سلمنا جدلاً بوجود حاكم عادل، فانه سيمد يده بكل بساطة الى أخذ الرشوة، ثم ينمسخ مسخاً كلياً ليتماشى والوضع السائد في المجتمع .
يقول الحديث الشريف: لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو يولّى عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم .
فتعالوا نصلح انفسنا ونضع حداً للفحشاء المتحكمة فينا . وأمامنا فرصة ثمينة علينا اغتنامها، وهي فرصة شهر رمضان المبارك لنعلن خلاله توبتنا؛ التوبة النصوح التي تعني وعي الصالحات ووعي السيئـات، لنعمـل بالأولى ونهجر الثانية. وذلك من خلال عرض انفسنا على كتاب الله، كما يعرض المريض نفسـه على الطبيب فيحدد له المسموح والممنوع من الغذاء. فلننظــر الى المسافـة التـي تفصلنا عن القـرآن ومفاهيمـه ومعانيـه، ونسعى لردم الهوة القاتلـة، ونتعلم كيف نتجاوز المسافـة .
وليس الأمر صعباً أبداً ؛ فالقضية بحاجة الى إخلاص وتصميم وتدوين ما يمكن تدوينه من بنود إصلاح النفس والمجتمع عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوكل على الله والاستغفـار والتوبـة اليـه .
إن على الخطباء في هذا الشهر الكريم أن يسعوا الى بث روح القرآن الكريم بين الناس، وعليهم التعريف بنهج البلاغة، وتشذيب التأريخ من الخدع والضلالات والشبهات، كما عليهم البحث عن أجوبة شافية عما يدور في أدمغة الشباب المسلم من اسئلة وشبهات تثيرها أجهزة الاعلام المعادية للدين وإشاعات المخابرات الأجنبية التي يبدو تصاعد حدتها في شهر رمضان على وجه الخصوص لمعرفتهم بمدى تأثير هذا الشهر الكريم على الروح الايمانية للناس .
إني أشير عبر هذه النقطة الى أن تكون أحاديث الخطباء، أحاديث نابعة من صميم الحاجة الاجتماعية، لتكون أحاديث مفيدة حقاً .
إن فـي المجتمعات الاسلامية أمراض خطيرة للغاية سيطرت أو في طريقهـا الى السيطرة عليها، من الضروري أن تعالج معالجة جذرية، تبدأ من وضع نقاط الوقاية اللازمة؛ من قبيل مرض المخدرات الذي يجب السعي حثيثــاً لاقتلاعـه، عن طريق مواجهة النـاس بكل صراحة عن أضراره وعواقبه والقيام بالتعبئة الشمولية ضده . وهناك مرض ادمان التدخين، الذي يتعدى الحديث فيه المضار الصحي الى الحديث عن الذوق الاجتماعي القاضي بضرورة عدم الحاق الضرر بالآخريـن واحترام الأماكـن التي يلوثها المدخونون، لاسيما الأماكن التي تقام فيه المجالس القرآنية والحسينية.. ولأن الخطباء والعلماء أصحاب رأي في المساجد والحسينيات، فعليهم ان يمنعوا مزاولة هذه العادة الكريهة في هذه الأماكن لتكون بدورها السباقة ازاء الأماكن الأخرى، وبالتالي قطع الخطوات الأولى لاجتثات هذه العـادة .
ثمة مشكلة أخرى، وهي مشكلة العنوسة التي تعد بحق من الظواهر الصعبة والمستعصية في المجتمعات، ينبغي التفكير لحلها. فهذه الظاهرة سبب مباشر في انتشار الفساد والعقد النفسية والمشاكل العائلية الحادة .
وهناك ايضاً ظاهرة العنف والتطرف في ابداء الآراء واثبات الحقوق، هذه الظاهـرة التي تعني العودة الى الجاهلية المقيتة. فمن الخطأ المميت أن يرى الانسان نفسه على حق، بينما الآخرين على باطل وكفر وفســق. وما أزمة الانبياء مع قومهم إلاّ أن كان الوجهـاء في تلك المجتمعات يعاتبـون انبياءهـم، أنهم أصبحوا ملجأً للضعفاء والفقراء من الناس، حيث كانوا يطلقـون عليهم تسميـة الأراذل « وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا » (هود/27)
فقد كانت تسيطر عليهم الروح الاستكبارية، وروح الاستهانة، واستحقار الآخرين . فلا يصح مطلقاً ان تسود هذه الروح في مجتمع يفترض أن يكون مجتمعاً اسلامياً. فيجب معالجة ذلك عبر بث الثقافة، وتعميم الاخلاق الحسنة على الناس، بحيث تكون الأخلاق فيه مسلكاً لا علماً جافاً ...
ان اساس علاج مختلف المشاكل والازمات الاخلافية والفكرية يكمن في التوجه الى الله سبحانه وتعالى، وفي أن يتوجه الانسان بقوة ايمانية الى فهم وإدراك سبب وحقيقة وجوده في هذه الدنيا الزائلة . فاذا عرف الانسان ربه حق معرفته، يكون من المستحيل عليه ان ينحرف .
ونحن إذ نستقبل أيام شهر رمضان المبارك، علينا ان نستفيد حق الاستفادة من هذه الفرصة الثمينة، وهذه الطاقة الجبارة، لكي نضع أسس الوقاية ونعمل وفق منطوق ومفهوم النص القرآني القائل: « وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ » ثم نعمل على توجيه المجتمع الى العمل الجدي بالحسنات، لنرى بعد ذلك انقشاع السيئات والموبقات ؛ الواحدة بعد الأخرى .