• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

المبحث الثالث لماذا كلّ هذا الحرص على إطالة عمره (عج) ؟

ونتناول الآن السؤال الثاني، وهو يقول:
لماذا كلّ هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات، فتعطّل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره؟ ولماذا لا تترك قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخّض عنه المستقبل، وتنضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز على الساحة ويمارس دوره المنتظر.
وبكلمة أخرى: ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرّر لها ؟
 وكثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً، فنحن نؤمن بأنّ الأئمّة الاثني عشر مجموعة فريدة [1] لا يمكن التعويض عن أي واحد منهم، غير أنّ هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف، على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها والمتطلّبات المفهومة لليوم الموعود.
وعلى هذا الأساس نقطع النظر مؤقّتاً عن الخصائص التي نؤمن بتوفّرها في هؤلاء الأئمّة المعصومين [2] ، ونطرح السؤال التالي :
 
إننا بالنسبة إلى عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود، بقدر ما تكون مفهومة على ضوء سنن الحياة وتجاربها، هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدّخر عاملاً من عوامل إنجاحها، وتمكّنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أكبر؟
ونجيب عن ذلك بالإيجاب، وذلك لعدة أسباب منها ما يلي :
 إنّ عملية التغيير الكبرى تتطلّب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها، مشحوناً بالشعور... بالتفوّق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي أعدّ للقضاء عليها، وتحويلها حضاريّاً إلى عالم جديد.
 فبقدر ما يعمر قلب القائد المغيّر من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها، وإحساس واضح بأنها مجرّد نقطة على الخط الطويل لحضارة الإنسان، يصبح أكثر قدرة من الناحية النفسية [3] على مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدّها حتى النصر. ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يراد القضاء عليه من حضارة و كيان ، فكلما كانت المواجهة لكيان أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ، تطلّب زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم.
 ولما كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم وبالجور، تغييراً شاملاً بكلّ قيمه الحضارية وكياناته المتنوّعة، فمن الطبيعي أن تفتش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كله، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالم الذين نشأوا في ظل تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدال حضارة العدل والحق بها; لأنّ من ينشأ في ظل حضارة راسخة، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفكارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها; لأنّه ولد وهي قائمة، ونشأ صغيراً وهي جبّارة، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أو جهها المختلفة.
 وخلافاً لذلك، شخص يتوغّل في التاريخ عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الأخرى ثمّ تداعت وانهارت [4]، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تاريخ..
 ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوّن الفصل الأخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبيّن..
ثمّ شاهدها وقد اتّخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربّص الفرصة لكي تنمو وتظهر..
ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارة، ويحالفها التوفيق تارة أخرى..
 ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالم بكامله، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين، ينظر إلى هذا العملاق - الذي يريد أن يصارعه - من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسّه، لا في بطون كتب التاريخ فحسب، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) [5] إلى الملكيّة في فرنسا، فقد جاء عنه أنه كان يرعبه مجرّد أن يتصوّر فرنسا بدون ملك، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكريّاً وفلسفيّاً إلى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذ; لأنّ (روسو) هذا نشأ في ظل الملكيّة، وتنفس هواءها طيلة حياته، وأما هذا الشخص المتوغّل في التاريخ، فله هيبة التاريخ، وقوّة التاريخ، والشعور المفعم بأنّ ما حوله من كيان وحضارة وليد يوم من أيام التاريخ، تهيّأت له الأسباب فوجد، وستتهيأ الأسباب فيزول، فلا يبقى منه شيء كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد، وأنّ الأعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلاّ أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل .
هل قرأت سورة الكهف ؟
وهل قرأت عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربّهم وزادهم الله هدىً ؟ [6] و واجهوا كياناً وثنيّاً حاكماً ، لا يرحم ولا يتردّد في خنق أي بذرة من بذور التوحيد والارتفاع عن وحدة الشرك، فضاقت نفوسهم ودبّ إليها اليأس وسدّت منافذ الأمل أمام أعينهم، و لجأوا إلى الكهف يطلبون من الله حلاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول ، وكبر في نفوسهم أن يظل الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحقّ ويصفّي كلّ من يخفق قلبه للحقّ .
هل تعلم ماذا صنع الله تعالى بهم ؟
 إنه أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين [7] في ذلك الكهف، ثمّ بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بهرهم بقوّته وظلمه قد تداعى وسقط، وأصبح تاريخاً لا يرعب أحداً ولا يحرّك ساكناً، كلّ ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوّته واستمراره، ويروا انتهاء أمره بأعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم.
 و لئن تحقّقت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكلّ ما تحمل من زخم وشموخ نفسيّين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مدّد حياتهم ثلاثمئة سنة، فإنّ الشيء نفسه يتحقّق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم، والشجرة الباسقة وهي بذرة، والإعصار وهو مجرد نسمة [8].
 أضف إلى ذلك، أن التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوّراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود; لأنها تضع الشخص المدّخر أمام ممارسات كثيرة للآخرين بكلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوة، ومن ألوان الخطأ والصواب، وتعطي لهذا الشخص قدرة أكبر على تقويم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها، وكلّ ملابساتها التاريخية.
 
ثمّ إنّ عملية التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم على أساس رسالة معينة هي رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الأولى، قد بنيت شخصيّته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضاره التي يقدّر لليوم الموعود أن يحاربها.
 وخلافاً لذلك، الشخص الذي يولد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتتفتّح أفكاره ومشاعره في إطارها، فإنّه لا يتخلّص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها، وإن قاد حملة تغييريّة ضدها.
 فلكي يضمن عدم تأثر القائد المدّخر بالحضارة التي أعدّ لاستبدالها، لابدّ أن تكون شخصيته قد بنيت بناءً كاملاً في مرحلة حضارية سابقة هي أقرب ما تكون فى الروح العامة ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتجّه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته. [9]
 _____________________
  [1]  إشارة إلى معتقد الإماميّة الاثني عشريّة المستند إلى أدلة المعقول والمنقول، وبالأخص إلى حديث الثقلين المتواتر «إني تركت فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي» . راجع: صحيح مسلم 4 : 1874 وراجع الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 89، قال: ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيّف وعشرين صحابيّاً.
وكذلك إلى قوله (ص):«لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض...»، وإلى قوله (ص): «الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش». ومفاد ذلك كلّه تقرير هذا المعنى.
 [2]  تحدّث النبيّ الأكرم محمد (ص) كثيراً عن خصائصهم وأدوارهم، ووظيفتهم ومهمّاتهم، وأنهم حملة الشريعة، وسفن النجاة، وأمان الأمّة، وعصمتها من الضلال، كما إليه الإشارة في حديث الثقلين، وحديث لن يفترقا، وكلاهما يؤكّدان عصمتهم، إذ لا يعقل أنهم عصمة الأمّة من الضلال، وأنهم لن يفترقا عن القرآن المعصوم، وهم غير معصومين!!
راجع في هذا المطلب: الأصول العامّة للفقه المقارن / العلاّمة محمد تقي الحكيم / مبحث حجّية السنّة : ص 169 وما بعدها.
 [3] أن يكون القائد التاريخي مهيّئاً نفسياً ومعدّاً إعداداً مناسباً لأداء المهمة، أمرٌ مفروغ منه، ولو رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدناه يتحدّث عن هذه المسألة في تاريخ الأنبياء بصورة واضحة جدّاً، وبخاصة فيما يتعلّق بالنبيّ نوح (ع)، وهو أمرٌ يلفت الانتباه والنظر، وربّما يكون للتشابه والاتّفاق في الدور والمهمة التي أوكلت لهما، كما نبّه الشهيد الصدر (ره) إليه.
راجع: مع الأنبياء / عفيف عبدالفتاح طبارة.  
 [4]  ويمكن أن تقرّب هذا المعنى بما عشناه وشاهدناه من صعود الاتّحاد السوفيتي وترقّيه حتى صار القطب الثاني في العالم، وتقاسم هو وأمريكا النفوذ الحضاري والهيمنة السياسية، وركبا معاً أجواء الفضاء، ثمّ شهدنا انهيار الاتّحاد السوفيتي وتفكّك أوصاله بمثل تلك السرعة القياسية في الانهيار، فكم كان لذلك من أثر؟ وكم كان فيه من عبرة؟ وكم فيه من دلالة عميقة؟  
 [5]  جان جاك روسو (1712 ـ 1778 م) كاتب وفيلسوف فرنسي اعتبره بعض النقّاد الوجه الأبعد نفوذاً في الأدب الفرنسي الحديث والفلسفة الحديثة، وقد مهّدت كتاباته ومقالاته للثورة الفرنسية، وأشهر مؤلفاته العقد الاجتماعي، راجع: موسوعة المورد / منير البعلبكيّ 8 : 169.
 [6]   إشارة إلى الآية القرآنية المباركة: (إنهم فتيةٌ آمنوا بربّهم وزدناهم هدىً...)الكهف: 13، وراجع تفسيرها في الكشّاف / الزمخشري 2: 706، نشر دار الكتاب العربي ـ بيروت.
 [7]  إشارة إلى الآية: (ولبثوا فى كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادو تسعاً...)الكهف: 25.
 [8]  وكلّ ذلك له مدخليّة في تربيته وإعداده الإعداد الخاص، بما في ذلك امتلاكه النظرة الشمولية العميقة، فضلاً عن شهوده بنفسه ضآلة أولئك المتعملقين الذين يملؤون الدنيا ضجيجاً وصخباً، ويسترهبون الناس، وهذا الشهود يؤهّله أكثر فأكثر لأداء مهمته الكونية في التغيير، أي ملئه للأرض عدلاً بعدما ملئت ظلماً، هذا بغمض النظر عن مؤهّلاته الذاتية، والعناية الربّانيّة الخاصة.
 [9]  ولا ينبغي أن يُشكِل أحدٌ بأنّ النبيّ محمد (ص) مع عالمية رسالته ومهمّته التغييرية الكبرى، إلاّ أنه عاش في كنف الحضارة الجاهلية، ولم يتأثر بها، وكذا الأنبياء السابقون، فما هو الوجه في هذا الرأي؟


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page