أشهر ما روي عنها من الأخبار خطبة والدتها
الزهراء ( عليها السلام ) التي احتجت بها في خصوص فدك .
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج - عند شرح
قوله ( عليه السلام ) : بلى كانت في أيدينا فدك . . . - .
ومن ذلك ما روي في كامل الزيارة للشيخ الفقيه
أبي القاسم جعفر بن محمد ابن قولويه طاب ثراه ، قال :
حدثني نوح بن دراج ، قال : حدثني قدامة بن زايدة ، عن
أبيه ، قال : قال علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : بلغني يا زايدة
أنك تزور قبر أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) أحيانا ، فقلت :
إن ذلك لكما بلغك ، فقال لي : ولماذا تفعل ذلك ، ولك
مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحدا على محبتنا
وتفضيلنا ، وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمة من
حقنا ؟ فقلت : والله ما أريد بذلك إلا الله ورسوله ،
ولا أحفل بسخط من سخط ، ولا يكبر في صدري مكروه
ينالني بسببه ، فقال : والله إن ذلك لكذلك ؟ فقلت : والله إن
ذلك لكذلك ، يقولها ثلاثا وأقولها ثلاثا ، فقال : أبشر ثم
أبشر ثم أبشر ، فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب
المخزون :
فإنه لما أصابنا في الطف ما أصابنا ، وقتل أبي ( عليه السلام ) ،
وقتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله ، وحملت
حرمه ونساؤه على الأقتاب ، يراد بنا الكوفة ، فجعلت
أنظر إليهم صرعى ولم يواروا ، فعظم ذلك في صدري ،
واشتد لما أرى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبينت
ذلك مني عمتي زينب الكبرى بنت علي ( عليه السلام ) ، فقالت :
ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي ؟
فقلت : وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وإخوتي
وعمومتي وولد عمي مصرعين ومضرجين بدمائهم ،
مرملين بالعراء ، مسلبين ، لا يكفنون ولا يوارون ،
ولا يعرج عليهم أحد ، ولا يقربهم بشر ، كأنهم أهل بيت
من الديلم والخزر ، فقالت : لا يجزعنك ما ترى ، فوالله إن
ذلك لعهد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى جدك وأبيك وعمك ،
ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة
هذه الأمة وهم معروفون في أهل السماوات ، إنهم
يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم
المضرجة ، وينصبون لهذا الطف علما لقبر أبيك سيد
الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يعفو رسمه ، على كرور
الليالي والأيام ، وليجهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في
محوه وتطميسه ، فلا يزداد أثره إلا ظهورا وأمره إلا
علوا ، فقلت : وما هذا العهد ، وما هذا الخبر ؟
فقالت : نعم حدثتني أم أيمن : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زار
منزل فاطمة ( عليها السلام ) في يوم من الأيام ، فعملت له حريرة ،
وأتاه علي ( عليه السلام ) بطبق فيه تمر ، ثم قالت أم أيمن : فأتيتهم
بعس فيه لبن وزيد ، فأكل رسول الله وعلي وفاطمة
والحسن والحسين من تلك الحريرة ، وشرب رسول الله
وشربوا من ذلك اللبن ، ثم أكلوا وأكل من ذلك التمر
والزبد ، ثم غسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يده وعلي ( عليه السلام ) يصب
عليها الماء ، فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه ، ثم نظر
إلى علي ( عليه السلام ) وفاطمة والحسن والحسين نظرا عرفنا به
السرور في وجهه .
إلى أن قال :
قال لي جبرائيل : يا محمد إن أخاك مضطهد بعدك ،
مغلوب على أمتك ، متعوب من أعدائك ، ثم مقتول بعدك ،
يقتله أشر الخلق والخليقة وأشقى البرية ، يكون نظير عاقر
الناقة ، ببلد تكون إليه هجرته ، وهو مغرس شيعته وشيعة
ولده ، وفيه على كل حال تكثر بلواهم ويعظم مصابهم ،
وإن سبطك هذا - وأومى بيده إلى الحسين ( عليه السلام ) - مقتول
في عصابة من ذريتك وأهل بيتك وأخيار من أمتك ، بضفة
الفرات ، بأرض يقال لها كربلاء ، من أجلها يكثر الكرب
والبلاء على أعدائك وأعداء ذريتك في اليوم الذي
لا ينقضي كربه ولا تفنى حسرته ، وهي أطيب بقاع
الأرض وأعظمها حرمة ، يقتل فيها سبطك وأهله ، وأنها
من بطحاء الجنة ، فإذا كان اليوم الذي يقتل فيه سبطك
وأهله وأحاطت به كتائب أهل الكفر واللعنة تزعزعت
الأرض من أقطارها ، ومادت الجبال وكثر اضطرابها ،
واصطفقت البحار بأمواجها ، وماجت السماوات بأهلها ،
غضبا لك يا محمد ولذريتك ، واستعظاما لما ينتهك من
حرمتك ، ولشر ما تكافى به في ذريتك وعترتك ،
ولا يبقى شئ من ذلك إلا استأذن الله عز وجل في نصرة
أهلك المستضعفين المظلومين الذين هم حجة الله على
خلقه بعدك ، فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال
والبحار ومن فيهم : إني أنا الله الملك القادر الذي لا يفوته
هارب ولا يعجزه ممتنع ، وأنا أقدر فيه على الانتصار
والانتقام ، وعزتي وجلالي لأعذبن من وتر رسولي
وصفيي وانتهك حرمته وقتل عترته ونبذ عهده وظلم
أهل بيته ، عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، فعند ذلك
يضج كل شئ في السماوات والأرضين بلعن من ظلم
عترتك واستحل حرمتك .
فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولى الله قبض
أرواحهم بيده .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فهذا أبكاني وأحزنني .
قالت زينب ( عليها السلام ) : فلما ضرب ابن ملجم لعنه الله
أبي ( عليه السلام ) ورأيت عليه أثر الموت منه قلت له : يا أبه ،
حدثتني أم أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببت أن أسمعه منك ،
فقال : يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن ، وكأ ني بك
وبنساء أهلك سبايا بهذا البلد أذلاء خاشعين ، تخافون أن
يتخطفكم الناس ، فصبرا صبرا ، فوالذي فلق الحبة وبرأ
النسمة ما لله على ظهر الأرض يومئذ ولي غيركم وغير
محبيكم وشيعتكم .
قال زائدة : ثم قال الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) بعد
أن حدثني بهذا الحديث : خذه إليك ما لو ضربت في طلبه
آباط الإبل حولا لكان قليلا .
صبرها وتحملها المشاق وتسليمها لأمر الله :
الصبر الممدوح : حبس النفس على تحمل المشاق
تسليما لأمر الله تعالى ، كحبسها عن الجزع والهلع عند
المصاب وفقد الأحبة ، وحبسها عن الشهوات نزولا على
حكم الشريعة ، وحبسها على مشقة الطاعة تزلفا إلى
المبدأ الأعلى .
وقد مدح الله تعالى الصابرين في كتابه الكريم ، فقال
عز وجل : * ( وبشر المخبتين * الذين إذا ذ كر الله وجلت
قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة
ومما رزقناهم ينفقون ) * ، وقال تعالى : * ( والذين صبروا
ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم
سرا وعلانية ويدرأون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى
الدار ) * ، وقال تعالى : * ( والصابرين في البأساء والضراء
وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) * ،
والآيات كثيرة في الصبر ، والأحاديث أكثر .
ولما كان الصبر بهذه المثابة عند الله كان الأقربون إلى
الله أكثر صبرا من غيرهم ، كالأنبياء وأوصيائهم ، ثم
الأمثل فالأمثل .
وهذه العقيلة الطاهرة قد رأت من المصائب والنوائب
ما لو نزلت على الجبال الراسيات لساخت واندكت
جوانبها ، لكنها في كل ذلك كانت تصبر الصبر الجميل
كما هو معلوم لكل من درس حياتها .
وأول مصيبة دهمتها هو فقدها جدها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،
وما لاقى أهلها بعده من المكاره .
ثم فقدها أمها الكريمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بعد
مرض شديد ، وكدر من العيش ، والاعتكاف في بيت
الأحزان .
ثم رأت شهادة أبيها أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) بفلق
رأسه من ضربة ابن ملجم لعنه الله .
ثم فقدها أخيها المجتبى مسموما ، تنظر إليه وهو يتقيأ
كبده في الطست قطعة قطعة ، وبعد موته ترشق جنازته
بالسهام .
ثم رؤيتها أخيها الحسين ( عليه السلام ) تتقاذف به البلاد ،
حتى نزل كربلاء ، وهناك دهمتها الكوارث العظام من
قتله ( عليه السلام ) ، وقتل بقية إخوتها وأولادهم وأولاد عمومتها
وخواص الأمة من شيعة أبيها عطاشى .
ثم المحن التي لاقتها من هجوم أعداء الله على
رحلها ، وما فعلوه من سلب وسبي ونهب وإهانة وضرب
لكرائم النبوة وودائع الرسالة ، وتكفلها حال النساء
والأطفال في ذلة الأسر ، ثم سيرها معهم من بلد إلى بلد ،
ومن منزل إلى منزل ، ومن مجلس إلى مجلس ، وغير
ذلك من الرزايا التي يعجز عنها البيان ويكل اللسان .
وهي مع ذلك كله صابرة محتسبة ، ومفوضة أمرها إلى
الله تعالى ، قائمة بوظائف شاقة ، من مداراة العيال ،
ومراقبة الصغار واليتامى من أولاد إخوتها وأهل بيتها ،
رابطة الجأش بإيمانها الثابت وعقيدتها الراسخة ، حتى
كانت تسلي إمام زمانها زين العابدين ( عليه السلام ) ، حتى أنها
لما وقفت على جسد أخيها الحسين ( عليه السلام ) مقطعا أمام
جيش الأعداء رفعت يديها إلى السماء وقالت : اللهم
تقبل منا هذا القربان ، بكل صبر حتى لا يشمت بها
الأعداء .
أقول : يكفي في علو مقام هذه الدرة المكنونة
والجوهرة المصونة في الصبر وعظيم درجتها في التسليم
لأمر الله والرضى بقضائه ما نقله في الطراز المذهب : أنها
- سلام الله عليها وعلى جدها وأبيها وأمها وإخوانها -
لما وقفت على جسد أخيها الحسين ( عليه السلام ) قالت : اللهم
تقبل منا هذا القليل من القربان .
قال : فقاربت أمها في الكرامات ، والصبر في
النائبات ، بحيث خرقت العادات ، ولحقت بالمعجزات .
قلت : وهذه الكلمات من هذه الحرة الطاهرة ، في تلك
الوقفة التي رأت بها أخاها العزيز بتلك الحالة المفجعة
التي كان فيها ، تكشف لنا قوة إيمانها ، ورسوخ عقيدتها ،
وفنائها في جنب الله تعالى ، وغير ذلك مما لا يخفى على
المتأمل .
قال أبو إسحاق الأسفرائيني في كتاب نور العين في
مشهد الحسين ( عليه السلام ) : روي عن العقيلة زينب أخت
الحسين ( عليه السلام ) عند هجوم القوم على الخيام أنها قالت :
دخل علينا رجال وفيهم رجل أزرق العيون ، فأخذ كل
ما كان في خيمتنا التي كنا مجتمعين فيها ، إلى أن قالت :
فقلت له : قطع الله يديك ورجليك ، وأذاقك الله النار في
الدنيا قبل الآخرة ، قال : فما كان إلا قليل حتى ظهر
المختار الثقفي طالبا بثأر الحسين ( عليه السلام ) ، فوقع في يده
ذلك الرجل - وهو حولي بن يزيد الأصبحي - فقال
المختار : ما فعلت بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) ؟ فذكر أفعاله
التي فعلها ودعوة العقيلة عليه ، فاستجاب الله دعاءها ،
فقطع المختار يديه ورجليه وأحرقه بالنار .
بعض الأخبار المروية عنها ( عليها السلام ) :
- الزيارات: 506