• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الكميت الاسدي:

الكميت بن زيد بن خنيس (أبو المستهل) الأسدي، شاعر الاولين و الآخرين-على حد تعبير الفرزدق-  ٩ و لو لا شعره لم يكن للغة ترجمان، و لا للبيان لسان-حسبما يقول عكرمة الضبي- 1 .
و هو في طليعة رجال الفكر و الأدب في عصره، و قد ساهم مساهمة ايجابية في تطور الثقافة العربية و ازدهار الحركة العلمية في الاسلام، و نعرض لبعض البنود المشرقة من جوانب حياته.
ولادته و نشأته:
ولد الكميت سنة ( ۶٠  ه‍) و هي السنة التي فجعت بها الأمة الاسلامية
بقتل سيد الشهداء الامام الحسين (ع)  2 و قد انطبعت في نفسه صورة تلك المأساة المروعة و أخذت تتفاعل مع مشاعره و عواطفه، و ظهر أثر ذلك في شعره الحزين الذي يرثي به الامام الحسين (ع) .
أما نشأته فقد نشأ بالكوفة التي هي عاصمة الشيعة، و ينبوع التشيع، و منجم الثورات على بني أمية، و تربى على حب أهل البيت (ع) فكان حبهم من عناصره، و مقوماته.
مواهبه:
كان الكميت من أفذاذ التأريخ، و من اعلام الأمة العربية، و كان يتمتع بمواهب شريفة و صفات رفيعة، عدها بعضهم بعشر خصال قال:
«كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر، كان خطيب أسد، و فقيه الشيعة، حافظ القرآن العظيم، ثبت الجنان، و كان كاتبا حسن الخط، و كان نسابة، و كان جدلا، و هو أول من ناظر في التشيع، و كان راميا لم يكن في بني اسد أرمى منه، و كان فارسا شجاعا دينا، و كان مشهورا في التشيع مجاهرا في ذلك. .»  3 
و هذه الصفات قد رفعته الى القمة، و ميزته على جميع ادباء عصره.
شعره:
اما شعره فهو من مناجم الأدب العربي، و من أروع ما قاله شعراء العرب على الاطلاق، فلم يكن في شعره يميل الى الدعابة و المجون، و بذلك فقد فارق شعراء العصر الاموي و العباسي الذين اتجهوا بمواهبهم الفكرية و الادبية الى اللهو و العبث و فساد الاخلاق.
اما الكميت فقد صرف فكره الى ساداته من بني هاشم، فاخذ ينشر مآثرهم، و يذيع فضائلهم بأروع ما نظم في الأدب العربي.
و يقول المؤرخون: كان الكميت لا يذيع شعره بين الناس حتى يرضى به، و يطمئن إليه، فلذا كان لوحة فنية تحكي الابداع و الفن و الفكر، أما هاشمياته، فقد كبرت عن التحديد و التقييم، و قد ضمنها الاستدلال على مذهبه الذي لا يقبل الجدل و التشكيك، و كانت هاشمياته احدى الوسائل الثقافية في تلك العصور لما فيها من الخصب و غزارة الفكر و الادب، و كانت تروى في الاندية، و المجالس و يحفظها الناس.
الكميت مع الفرزدق:
و يروي المؤرخون أن الكميت لما نظم (الهاشميات) سترها و لم يذعها بين الناس، و رأى أن يعرضها على شاعر العرب الأكبر الفرزدق بن غالب ليرى رأيه فيها، فقصده، و بعد أن استقر به المجلس قال له:
-يا أبا فراس، إنك شيخ مضر، و شاعرها، و أنا ابن اخيك الكميت ابن زيد الأسدي.
-صدقت أنت أبن أخي فما حاجتك؟
-نفث على لساني، فقلت: شعرا فأحببت أن أعرضه عليك، فان كان حسنا أمرتني باذاعته، و إن كان قبيحا أمرتني بستره، و كنت أول من ستره علي
و عجب الفرزدق من حسن أدبه، فطفق يقول له:
-أما عقلك فحسن، و اني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فانشدني ما قلت: و انبرى الفرزدق يتلو عليه رائعته قائلا:
طربت و ما شوقا الى البيض أطرب و قطع الفرزدق عليه كلامه قائلا: فيم تطرب يا ابن أخى؟ ! فقال:
و لا لعبا مني و ذو الشيب يلعب؟ !
و راح الفرزدق يقول: بلى يا ابن أخي فالعب، فانك في أوان اللعب، فقال:
و لم يلهني دار و لا رسم منزل و لم يتطربني بنان مخضب
و اكبر الفرزدق هذا الشعر، و انطلق يقول: ما يطربك يا ابن أخي؟ فقال:
و لا السانحات البارحات عشية أمر سليم القرن أم مر أعضب
فقال الفرزدق: اجل لا تتطير فقال الكميت:
و لكن الى أهل الفضائل و التقى و خير بني حواء و الخير يطلب
و اهتز الفرزدق من روعة هذا الادب العالي فراح يقول:
«من هؤلاء؟ ويحك.»
قال الكميت:
الى النفر البيض الذين يحبهم الى اللّه فيما نابني اتقرب
و استولى الكميت على مشاعر الفرزدق و عواطفه فصاح:
«ارحني ويحك من هؤلاء؟ ! !» قال الكميت:
بني هاشم رهط النبي فانني بهم و لهم أرضى مرارا و أغضب
خفضت لهم مني جناحي مودة الى كنف عطفاه أهل و مرحب
و ملك هذا الشعر احاسيس الفرزدق، و انطلق يقول:
«يا ابن أخي، اذع، ثم اذع، فأنت و اللّه اشعر من مضى، و أشعر من بقي»  4 .
مميزات شعره:
و يمتاز شعر الكميت بأنه كان مسرحا للقيم الدينية التي تعبر اصدق التعبير عن عواطفه تجاه ساداته بني هاشم الذين اخلص لهم في مودته و حبه، و فقد فرضت عليه ذلك الأدلة الشرعية التي لا تقبل الجدل و النقاش أما الظواهر التي امتاز بها شعره، فمن بينها.
 ١ -ان شعره في بني هاشم لم يكن عاطفيا، و انما قام على الجدل و الاقناع، يقول شوقي ضيف: «و هكذا لم يعد الشعر عند الكميت يعبر عن الشعور فحسب، بل اصبح يعبر أيضا عن الفكر، و أصبح يشفع بكل ما وصل إليه العقل العربي في هذا العصر من قدرة على الجدال و الاقناع»  5 «بل لعل تعبيره عن الفكر أهم من تعبيره عن العواطف»  ١۵ و هذه لوحة من احدى روائعه التي تمثل هذا الاتجاه:
و قالوا: ورثناها أبانا و أمنا و ما ورثتهم ذاك أم و لا أب
يرون لهم حقا على الناس واجبا سفاها و حق الهاشميين أوجب  6 
و شجب الكميت بهذين البيتين دعوى الذين انتحلوا الخلافة، و فرضوا لهم حقا على الناس لأنهم من قريش أسرة النبي (ص) فان هذه الجهة التي توصلوا بها الى الخلافة قد توفرت في آل البيت (ع) على اكمل صورها فهم الصق الناس به، و اقربهم إليه. . . و يأخذ الكميت بعد هذين البيتين في الثناء على الرسول الاعظم (ص) ثم يعرج على ما ذهب إليه من أحقية آل البيت (ع) بالخلافة فيقول:
 يقولون: لم يورث و لو لا تراثه لقد شركت فيه بكيل و أرحب
و عك و لخم و السكون و حمير و كندة و الحيان بكر و تغلب  7 
و قد أراد بهذين البيتين ابطال ما زعموه أن النبي (ص) لم يورث فان كان ذلك حقا فان القبائل المذكورة لها نصيب في الخلافة بل كانت الناس فيها سواء-حسبما يقول شارح الهاشميات-و لا وجه لاختصاص قريش بها، و هو منطق رصين يقوم على المنطق و الفكر. . . لقد كان الكميت بهذا الاستدلال فقيها فقد صاغ شعره صياغة العالم الفقيه الذي يعرف كيف يناقش المسائل، و يثبتها و يدلل عليها-كما يقول الدكتور يوسف خليف-  8 .
 ٢ -و أقام الكميت شعره في مدح بني هاشم على الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم تدلل على ما ذهب إليه، يقول مخاطبا بني هاشم:
وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي و معرب
و في غيرها آيا و آيا تتابعت لكم نصب فيها الذي الشك منصب  9 
انه يشير في البيت الأول الى قوله تعالى: «قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ»  10 .
و في البيت الثاني الى قوله تعالى: «إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»  11 و قوله تعالى: «وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ»  12  و قوله تعالى: «وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ»  13 .
لقد دعم الكميت ما ذهب إليه في فضل ساداته بني هاشم بآيات من القرآن الكريم «الذي لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ» فهو حجة قاطعة لا ريب فيه.
 ٣ -و اتسم شعر الكميت في مدحه لأهل البيت (ع) بأنه صادق اللهجة، قوي العاطفة، مبعثه الايمان الخالص الذي لا يشوبه أي عرض من اعراض الدنيا، فقد كان يبغي فيه وجه اللّه و الدار الآخرة و يدلل على ذلك قوله:
الى النفر البيض الذين بحبهم الى اللّه فيما نالني أتقرب
لقد اخلص الكميت في هواه و حبه لأهل البيت (ع) لأنه لم ير وسيلة تقربه الى اللّه زلفى سوى الاخلاص في المودة لهم.
 ۴ -و الظاهرة التي يمتاز بها شعر الكميت في بني هاشم انه لم يستند فيما نظمه فيهم الى ما يسمعه عنهم من المآثر و الفضائل، و إنما يستند الى مشاهداته فقد عاصرهم، و نظر الى مثلهم العليا التي طبق شذاها العالم بأسره، فهام بها، شأنه شأن الأحرار الذين يقدسون الفضيلة، و يكبرون من اتصف بها، . . لقد كان شعر الكميت صورة حية يحكي الواقع المشرق لأهل البيت (ع) الذين اذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.
هذه بعض مميزات شعر الكميت، أما الحديث عن مظاهره الفنية فانه يستدعي الاطالة، و قد آثرنا الايجاز في اكثر هذه البحوث.
صلابته فى عقيدته:
كان الكميت صلب العقيدة، راسخ الايمان، قد أقام عقيدته على الواقع العلمي الذي لا يقبل الجدل و النقاش، فهو شاعر العقيدة الشيعية، و المعبر عن آرائها، و مبادئها و يجمع الرواة على أنه اول من فتق باب الاحتجاج للشيعة في هاشمياته، و انه كان لسانهم، و المدافع عنهم، و المحتج لهم، و قد صورت هاشمياته الجانب الفكري، و العقائدي للشيعة، و احاطت -بوضوح-بشئون الامامة التي تعتبر من العناصر الاساسية في مبادئهم.
مع الامام الباقر:
و اختص الكميت بالامام أبي جعفر (ع) فكان شاعره الخاص، و قد تلا عليه بعض هاشمياته و قصائده التي نظمها في حق أهل البيت (ع) فأخذت موقعها من نفس الامام (ع) فشكره و دعا له بالمغفرة و الرضوان.
و كان الكميت لا يرى أحدا في هذه الدنيا يستحق الولاء و التقدير غير سيده الامام أبي جعفر (ع) فقد دخل عليه و هو يقول:
ذهب الذين يعاش في اكنافهم لم يبق إلا شامت أو حاسد
و بقي على ظهر البسيطة واحد فهو المراد و أنت ذاك الواحد  14 
تعطشه لرؤيا الامام:
كان الكميت مقيما في الكوفة، فاشتد به الوجد الى رؤيا الامام فسافر الى يثرب، و لما مثل عند الامام تلا عليه قصيدته التي يذكر فيها تعطشه لرؤياه، يقول فيها:
كم جزت فيك من احواز و ايقاع و أوقع الشوق بي قاعا الى قاع به إليك غدى سيري و ايضاعي
أ ما بلغتك فالآمال بالغة بنا الى غاية يسعى لها الساعي
من معشر شيعة اللّه ثم لكم صور إليكم بابصار و اسماعي
دعاة أمر و نهي عن أئمتهم يوصي بها منهم واع الى واعي
لا يسأمون دعاء الخير ربهم أن يدركوا فيلبوا دعوة الداعي  15 
و صورت هذه الابيات عظيم ولائه للامام، و ما عاناه من جهد الطريق، و عناء السفر في سبيل رؤيته و الالتقاء به.
رثاؤه للحسين:
و كان الكميت قد ولد في السنة التي استشهد بها أبو الأحرار الامام الحسين (ع) و لما ترعرع، و فهم الحياة رأى الناس قد ذهلتهم أهوال تلك المأساة الخالدة في دنيا الأحزان، و هم يرددون في انديتهم و مجالسهم ما عاناه ريحانة رسول اللّه (ص) من فوادح المحن و الخطوب، و قد هزت مشاعره و عواطفه، و ملأت نفسه الما عاصفا، و قد رثاه بذوب روحه في كثير من شعره، و يقول الرواة انه نظم قصيدة في رثاء الحسين و وفد على الامام أبي جعفر ليتلوها عليه فلما مثل عنده قال له:
-يا ابن رسول اللّه قد قلت فيكم أبياتا من الشعر: أ فتأذن لي في انشادها؟
-انها ايام البيض  16 -التي يكره فيها انشاد الشعر-.
-هي فيكم خاصة.
-هات ما عندك.
فانبرى يقول:
اضحكني الدهر و ابكاني و الدهر ذو صرف و الوان
لتسعة بالطف قد غودروا صاروا جميعا رهن اكفان
و تألم الامام كأشد ما يكون التألم حينما سمع رثاء جده الامام الحسين، و اغرق في البكاء و بكى معه ولده الامام الصادق (ع) كما بكت العلويات من وراء الخباء، و لما بلغ الى قوله:
و ستة لا يتجارى بهم بنو عقيل خير فرسان
ثم علي الخير مولاهم ذكرهم هيج أحزاني
بكى الامام أبو جعفر (ع) أمرّ البكاء، و ذكر له ما اعد اللّه من الثواب الجزيل لمن يذكر أهل البيت، و يحزن لحزنهم، و لما بلغ قوله:
من كان مسرورا بما مسكم أو شامتا يوما من الآن
فقد ذللتم بعد عز فما ادفع ضيما حين يغشاني
أخذ الامام (ع) بيد الكميت و أخذ يدعو له قائلا:
«اللهم اغفر للكميت ما تقدم من ذنبه و ما تأخر. .» و لما بلغ قوله:
متى يقوم الحق فيكم متى يقوم مهديكم الثاني التفت إليه الامام، و عرفه بأن الامام المهدي (ع) هو الامام المنتظر الذي يملأ الارض عدلا و قسطا بعد ما ملئت ظلما و جورا، و سأله الكميت عن زمان خروجه فقال (ع) : لقد سئل رسول اللّه (ص) عن ذلك، فقال: انما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم الا بغتة  17 .
الميمية من هاشمياته:
و انشد الكميت بحضرة الامام أبي جعفر (ع) الميمية من هاشمياته، و هي من أروع الشعر العربي و ارقاه فهي تصور-بوضوح-انطباعاته الخاصة عن أهل البيت (ع) تصويرا رائعا يستند الى مشاهداته لمآثرهم الرفيعة و مثلهم العليا، يقول فيها:
من لقلب متيم مستهام غير ما صبوة و لا احلام
طارقات و لا ادكار غوان واضحات الخدود كالآرام
بل هواي الذي أجن و ابدي لبني هاشم فروع الانام
للقريبين من ندى و البعيدين من الجور في عرى الاحكام
و المصيبين باب ما اخطأ الناس و مرسي قواعد الاسلام
و الحماة الكفاة في الحرب ان لف ضرام و قوده بضرام
و الغيوث الذين أن أمحل الناس فمأوى حواضن الأيتام
و الولاة الكفاة للأمران طر ق يتنا بمجهض أو تمام
و الأساة الشفاة للداء ذي الريبة و المدركين بالاوغام
و الروايا التي يحمل بها النا س و سوق المطبعات العظام
و البحور التي بها تكشف الحر ة و الداء من غليل الأوام
لكثيرين طيبين من النا س و برين صادقين كرام
واضحي أوجه كرام جدود واسطي نسبة لهام فهام
 للذرى فالذرى من الحسب الثا قب بين القمقام فالقمقام
راجحي الوزن كاملي العدل في ال‍ سيرة طبين بالامور العظام
فضلوا الناس في الحديث حديثا و قديما في اول القدام
لقد ذكر في مطلع قصيدته هيامه في الحب، و انه قد استولى على مشاعره و عواطفه، فصار اسيرا، لا يملك من أمر نفسه شيئا. و لكن لمن هذا الحب العارم الذي وقع في شبكه؟ انه ليس للغانيات التي يفتتن الناس بجمالهن، و انما كان لأرفع الناس شأنا، و اسماهم مكانة، انهم بنو هاشم الذين التقت بهم جميع عناصر الشرف و المجد، و فاقوا جميع الناس بمواهبهم و عبقرياتهم، فقد قصر عليهم اخلاصه و هواه الذي يجنه و يبديه.
و لم يندفع الكميت بحب ساداته بني هاشم وراء العاطفة، و إنما رآهم صورة رائعة لا ثاني لها في تأريخ البشرية، فقد رأى، و شاهد، و لمس أروع صور الانسانية التي رفعتهم الى القمة السامقة، قمة الفكر، و القيادة العليا في الاسلام.
رأى الكميت من صفات اسياده التي هام بها ما يلي:
 ١ -انهم معدن الجود و الكرم و السخاء، فقد جادوا بجميع ما يملكونه لانعاش المحرومين، و انقاذ البائسين.
 ٢ -انهم مصدر العدل بين الناس، فلا يؤثرون قريبا على بعيد، و انما الناس جميعا عندهم على حد سواء، فلا يعرفون المحسوبية، و لا سائر الاعتبارات الأخرى التي يأخذ بها الناس اندفاعا مع العاطفة و الهوى.
 ٣ -انهم اشجع من خلق اللّه، فلم يمر الخوف على نفوسهم، فقد خاضوا غمرات الحروب، و أبدوا من صنوف البسالة، ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ، فكان الامام امير المؤمنين (ع) مضرب المثل في الدنيا في شجاعته و بسالته، و كذلك الامام الحسين سيد الأباة و الاحرار في الارض فقد ابدى يوم عاشوراء من قوة البأس و روعة التصميم ما حير العقول و أذهل الألباب، و تطعمت بهذه الروح العالية سائر ابناء الأسرة النبوية، فقد ملكوا من الشجاعة ما لا يملكها أي أحد من الناس.
 ۴ -انهم كانوا الملجأ و المأوى لايتام الناس و سائر الفقراء و المحرومين ان امحل الناس، و لم يجدبوا فليس هناك من يعطف عليهم سوى أهل البيت عليهم السلام.
 ۵ -انهم ولاة الأمور للناس ان التبست عليهم الأمور أو طرقتهم الازمات و الأحداث، فليس هناك من يستطيع التغلب عليها سواهم، فهم الذين يملكون العقول النيرة، و الافكار الصائبة التي يحلون بها مشاكل الناس و ازماتهم.
 ۶ -انهم الحكماء الماهرون في معالجة أمراض النفوس، و ازالة ما فيها من جراثيم الزيغ و الانحراف، فقد درسوا واقع هذا الانسان، و سبروا اعماق نفسه، و دخائل ذاته، و وقفوا على اندفعاته نحو الحرص و الطمع و الجشع و ايثاره للهوى على الحق، فوضعوا العلاج الحاسم لجميع أمراضه و آفاته، و تجد في كلماتهم روائع الحكم و المواعظ الهادفة الى اصلاح الناس و تهذيبهم.
 ٧ -انهم الروايا الذين يحملون الحكمة و الحياة الى الناس، فاليهم يلجأ الضامئ و من ساحل كرمهم و جودهم ينتهل كل من يريد الحياة.
 ٨ -انهم البحور الذين يرتوي منهم كل من اشرف على الهلاك، فهم مصدر السعادة و الخير لهذا الانسان.
 ٩ -انهم اطيب الناس برا و صدقا، و كرما، و أصبح الناس وجوها، و اكرمهم جدودا، و اعلاهم شأنا، و نسبا.
 ١٠ -انهم ارجح الناس وزنا، و اكملهم في العدل بين الناس، و أخبرهم بالامور العظام.
 ١١ -انهم فاقوا الناس في جميع مراحل التاريخ فاقوهم في صدق حديثهم و اصالة فكرهم، و خصب رأيهم.
و يسترسل الكميت بعد هذه الأبيات في ذكر مآثر ساداته بني هاشم و فضائلهم التي هام بها فيقول:
مستفيدين متلفين مواهي‍ ب مطاعيم غير ما ابرام
مسعفين مفضلين مسامي‍ ح مراجيح في الخميس اللهام
و مداريك للذحول متاري‍ ك و ان احفظوا لعور الكلام
لا حباهم تحل للمنطق الشغ‍ ب و لا للطام يوم اللطام
ابطحيين اريحيين كالانج‍ م ذات الرجوم و الاعلام
غالبيين هاشميين في العل‍ م ربوا من عطية العلام
و مصفين في المناصب محضي‍ ن خضمين كالقروم السوام
و اذا الحرب أو مضت بسنا الحر ب و سار الهمام نحو الهمام
فهم الأسد في الوغى لا اللواتي بين خيس العرين و الآجام
أسد حرب غيوث جدب بهالي‍ ل مقاويل غير ما اقدام
لامها ذير في الندى مكاثي‍ ر و لا مصمتين بالافحام
سادة ذادة عن الخرد البي‍ ض اذا اليوم صار كالأيام
و مغايير عندهن مغاو ير مساعير ليلة الألجام
لا معازيل في الحروب تنا بيل و لا رائمين بو اهتضام
و هم الآخذون من ثقة الأ مر بتقواهم عرى لا انفصام
 و المصيبون و المجيبون للد عوة و المحرزون خصل الترامي
و محلون محرمون مقرو ن لحل قراره و حرام
و عرض الكميت في هذه الأبيات الى الصفات الرفيعة الماثلة في أهل البيت (ع) و هي:
 ١ -ان الأموال التي تردهم يبذلونها بسخاء و طيب نفس الى ذوي الحاجة لا يبغون جزاء و لا شكورا.
 ٢ -انهم اذا و تروا فهم غير قاصرين و لا عاجزين من الأخذ بثأرهم، و لكنهم تركوا ذلك إيثارا لما عند اللّه، و ان نالهم من اعدائهم قبيح الكلام.
 ٣ -و وصف الكميت بقوله: «لا حباهم تحل للمنطق الشغب» سعة حلمهم و انهم لا تطيش احلامهم عند المشاغبة فلا يحلون حباهم و لا يتحركون.
 ۴ -و عرض بقوله: «ابطحيين اريحيين» الى انهم اشراف قريش بما اتصفوا به من الأريحية فهم كالنجوم و الاعلام التي يهتدي بها الضال.
 ۵ -و أراد بقوله: «غالبيين هاشميين في العلم» انهم ينتمون الى سيد العرب غالب بن فهر، ثم الى هاشم، و انهم نالوا من العلم ما لم ينله أحد، فقد منحهم بذلك اللّه تعالى الذي بيده الخير.
 ۶ -و عرض بقوله: و مصفين في المناصب الخ» إلى انهم في مناصبهم و مكانتهم قد خلصوا من الدنس، و نزهوا من كل عيب فرفعوا رءوسهم اعتزازا لأنهم لم يحيدوا عن الحق، و لم يقترفوا أي باطل أو أثم،
 ٧ -و عرض بقوله: «و إذا الحرب أو مضت بسنا الحرب» و بالبيتين اللذين بعده الى شجاعة العلويين، و ان الحرب اذا استعرت، و اشتد اوارها، فانهم يخوضون غمارها ببسالة و صمود و قوة بأس لا يعرفون الفزع و لا الخوف و انما يستقبلون الموت بثغورهم الباسمة.
 ٨ -و أراد بقوله: «لا مهاذير في الندى» انهم إذا ضمهم النادي فلا يبتذلون بكثرة الكلام، و إنما يصمتون في مواضع الصمت من غير افحام.
 ٩ -و اعرب بقوله: «سادة ذادة عن الخرد» الى انهم الحماة الذين يحمون اهلهم عن الضيم في احلك الايام المشهورة بالحروب و الوقائع.
 ١٠ -و عرض بقوله: «و مغاير عندهن مغايير» و بالبيت الذي بعده الى انهم اسد الحروب الذين يوقدون نارها و يسعرون لهبها، و يقذفون بنفوسهم فيها، و ليسوا بمعازيل و لا بتنابيل، و انما هم الاعلام، و القادة و الرءوس.
 ١١ -و اعطى الكميت بقوله: «و هم الآخذون من ثقة الأمر» صورة عن تكامل شخصية أهل البيت (ع) بأنهم يأخذون بأوثق الأمور، و اشدها صلة بالحق، و لا يأخذون بما التبس عليهم أو شكوا في مشروعيته، و ذلك لشدة تقواهم و ورعهم، و عرض في البيت الذي يليه الى انهم أول من اجاب دعوة الحق التي اعلنها الرسول الاعظم (ص) فقد كان الامام أمير المؤمنين (ع) سيد العترة الطاهرة هو أول من سبق الى الاسلام كما كان المدافع الاول عن النبي (ص) و المحامي عن دعوته.
و عرض الكميت بعد هذا المدح للعلويين الى هجاء خصومهم الأمويين يقول:
ساسة لا كمن يرعي النا س سواء و رعية الانعام
لا كعبد المليك أو كوليد أو كسليمان بعد أو كهشام
رأيه فيهم كرأي ذوي الثل‍ ة في الثائجات جنح الظلام
جز ذي الصوف و انتقاء لذي المخ‍ ة نعقا و دعدعا بالبهام
 من يمت لا يمت فقيدا و إن يح‍ ي فلا ذو إلّ و لا ذو ذمام
لا أكاد أعرف هجاء امض، و لا اصدق من هذا الهجاء، فقد كشف النقاب عن سوء السياسة الأموية، التي ساست الناس سياسة لم يألفوها، فقد نظرت إليهم كالانعام، و لم تؤمن بأي حق من حقوقهم، فصبت عليهم وابلا من العذاب الأليم، و عرض الى من مات من ملوك الامويين، و انه لا ذكر لهم، لأنهم لم يقيموا حقا، و لم يؤسسوا عدلا فلذا لا يذكرهم الناس بخير، و إنما يعددون ظلمهم، و يذكرون جورهم و بطشهم.
و يواصل الكميت مدحه لبني هاشم فيقول:
فهم الأقربون من كل خير و هم الأبعدون من كل ذام
و هم الأوفون بالناس في الرأ فة و الأحلمون في الاحلام
بسطوا أيدي النوال و كفوا أيدي البغي عنهم و العرام
أخذوا القصد فاستقاموا عليه حين مالت زوامل الآثام
عيرات الفعال و الحسب العو د إليهم محطوطة الاعكام
أسرة الصادق الحديث أبي القا سم فرع القدامس القدام
و صورت هذه الأبيات المثل العليا التي اتصف بها أهل البيت (ع) من قربهم الى الخير، و بعدهم عن كل ما يوجب الذم، و وفائهم بكل عهد، و رأفتهم بالناس و سعة حلمهم، و غير ذلك من الصفات التي جعلتهم مهوى الأفئدة، و موضع تقديس الناس و اكبارهم.
و يأخذ الكميت في رائعته بمدح النبي العظيم (ص) فيقول:
خير حي و ميت من بني آ دم طرا مأمومهم و الامام
كان ميتا جنازة خير ميت غيبته مقابر الاقوام
و جنينا و مرضعا ساكن المه‍ د و بعد الرضاع عند الفطام
 خير مسترضع و خير فطيم و جنين أقر في الارحام
و غلاما و ناشئا ثم كهلا خير كهل و ناشئ و غلام
انقذ اللّه شلونا من شفى النا ر به نعمة من المنعام
لوفدى الحي ميتا قلت نفسي و بني الفدا لتلك العظام
طيب الاصل طيب العود في البن‍ ية و الفرع يثربي تهامي
ابطحي بمكة استثقب الل‍ ه ضياء العما به و الظلام
و الى يثرب التحول عنها لمقام من غير دار مقام
هجرة حولت الى الأوس و الخز رج اهل الفسيل و الآطام
غير دنيا محالفا و اسم صدق باقيا مجده بقاء السلام
و بعد هذا الثناء العاطر على النبي (ص) أخذ في مدح الشهيد العظيم جعفر الطيار ابن عم النبي (ص) و مدح عم النبي (ص) الشهيد الخالد حمزة، يقول:
ذو الجناحين و ابن هالة منهم أسد اللّه و الكمي المحامي
لا ابن عم يرى كهذا و لا ع‍ م كهذاك سيد الاعمام
و يعرض الكميت بعد هذا الى مدح سيد الاوصياء، و باب مدينة علم النبي (ص) الامام أمير المؤمنين (ع) يقول:
و الوصي الذي أمال التجوبى به عرش أمة لانهدام
كان أهل العفاف و المجد و الخي‍ ر و نقض الامور و الابرام
و الوصي الولي و الفارس المع‍ لم تحت العجاج غير الكهام
كم له ثم كم له من قتيل و صريع تحت السنابك دام
و خميس يلفه بخميس و فئام حواه بعد فئام
و عميد متوج حل عنه عق‍ د التاج بالصنيع الحسام
 قتلوا يوم ذاك إذ قتلوه حكما لا كغابر الحكام
راعيا كان مسجحا ففقدنا ه و فقد المسيم هلك السوام
و اشتت بنا مصادر شتى بعد نهج السبيل ذي الآرام
جرد السيف تارتين من الده‍ ر على حين درة من صرام
في مريدين مخطئين هدى الل‍ ه و مستقسمين بالازلام
و انبرى الى ذكر الامام الحسن سيد شباب أهل الجنة و ريحانة رسول اللّه (ص) قال:
و وصي الوصي ذي الخطة الفض‍ ل و مردي الخصوم يوم الخصام
و عرج بعد ذلك الى ذكر مأساة الامام الحسين (ع) تلك المأساة المروعة التي تركت اعظم اللوعة و الاسى في النفوس قال:
و قتيل بالطف غودر منه بين غوغاء أمة و طغام
و حينما سمع الامام أبو جعفر (ع) هذا البيت تناثرت دموعه، و بكى، و قال له: -كما قال رسول اللّه (ص) لحسان بن ثابت-لا زلت مؤيدا بروح القدس ما ذببت عنا أهل البيت  18 .
و يستمر الكميت في تلاوة رثائه للامام الحسين (ع) يقول:
تركب الطير كالمجاسد منه مع هاب من التراب هيام
و تطيل المرزآت المقالي‍ ت عليه القعود بعد القيام
يتعرفن حر وجه عليه عقبة السرو ظاهرا و الوسام
قتل الادعياء إذ قتلوه أكرم الشاربين صوب الغمام
و عرض بعد ذلك الى محمد بن الحنفية قال:
و سمي النبي بالشعب ذي الخي‍ ف طريد المحل بالاحرام
يشير بذلك الى ما تعرض إليه محمد من التنكيل من قبل ابن الزبير لانه امتنع من بيعته، فحصره بالخيف، و هدده و من معه بالحرق ان لم يبايعوه، و ذكر بعد ذلك الشهيد العظيم أبا الفضل العباس بن الامام امير المؤمنين (ع) الذي استشهد دفاعا عن أخيه سيد الاحرار الامام الحسين (ع) يقول:
و أبو الفضل إن ذكرهم الحل‍ و بني الشفاء للاسقام  19
و يعرض بعد ذلك الى مدى ولائه العميق لأهل البيت (ع) يقول:
فبهم كنت للبعدين عما و اتهمت القريب أي اتهام
صدق الناس في حنين بضرب شاب منه مفارق القمقام
و تناولت من تناول بالغي‍ بة أعراضهم و قل اكتتام
و رأيت الشريف في اعين الن‍ اس وضيعا و قل منه احتشامي
معلنا للمعالنين مسرا للمسرين غير دحض المقام
مبديا صفحتي على المرقب المع‍ لم باللّه عزتي و اعتصامي
ما أبالي اذا حفظت أبا القا سم فيهم ملامة اللوام
لا أبالي و لن أبالي فيهم أبدا رغم ساخطين رغام
فهم شيعتي و قسمي من الا مة حسبي من سائر الاقسام
إن أمت لا أمت و نفسي نفسا ن من الشك في عمى أو تعامي
 عادلا غيرهم من الناس طرا بهم لاهمام بي لاهمام
لم ابع ديني المساوم بالوك‍ س و لا مغليا من السوام
و عبر بهذه الابيات عن اصدق الولاء لبني هاشم، فقد اخلص للبعيد الذي يخلص لهم و عادى القريب الذي يعاديهم، و كان ذلك منتهى الايمان، و لما بلغ الكميت الى قوله:
اخلص اللّه لي هواي فما اغ‍ رق نزعا و لا تطيش سهامي  20 
قال له الامام: قل: «فقد أغرق نزعا و لا تطيش سهامي» التفت الكميت الى النكتة في ذلك، فقال للإمام: أنت أشعر مني في هذا المعنى، و لما فرغ الكميت من انشاد رائعته توجه الامام نحو الكعبة، و اخذ يدعو له قائلا:
«اللهم ارحم الكميت، و اغفر له.»
و كرر الدعاء بالمغفرة له ثلاث مرات، ثم قال له: يا كميت هذه مائة الف قد جمعتها لك من أهل بيتي، فابى الكميت من قبولها، و اعتذر بأنه يطلب المكافأة من اللّه تعالى، و طلب من الامام (ع) أن يتكرم عليه بقميص من قمصه، فاعطاه ذلك  21 .
و خرج الكميت من الامام فقصد عبد اللّه بن الحسن فانشده رائعته فاعجب بها عبد اللّه و قال له:
«يا أبا المستهل ان لي ضيعة أعطيت فيها اربعة آلاف دينار، و هذا كتابها، و قد اشهدت بذلك شهودا. .»
و ناوله الكتاب، فانبرى الكميت قائلا:
«بأبي أنت و أمي اني كنت أقول: الشعر في غيركم أريد به الدنيا، و لا و اللّه ما قلت: فيكم إلا للّه، و ما كنت لأخذ على شيء جعلته للّه مالا و لا ثمنا. .»
فالح عليه عبد اللّه، فأخذ الكميت الكتاب، و مضى أياما، ثم قصد عبد اللّه فقال له:
«إن لي حاجة»
«ما هي؟ كل حاجة لك مقضية»
«كائنة ما كانت؟» «نعم»
«هذا الكتاب تقبله، و ترجع الضيعة. .»
و ناوله الكتاب فقبله عبد اللّه، و نهض عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه ابن جعفر فاخذ جلدا و دفعه الى اربعة من غلمانه، و جعل يدخل دور بني هاشم و هو يرفع عقيرته قائلا:
«يا بني هاشم، هذا الكميت قال: فيكم الشعر حين صمت الناس عن فضلكم، و عرض دمه لبني أمية فاثيبوه بما قدرتم. .»
و اخذ العلويون يطرحون في الجلد ما يقدرون عليه من الدنانير و الدراهم، و علمت السيدات من العلويات فكن يبعثن إليه ما يتمكّن عليه حتى كانت العلوية تخلع الحلي من جسدها، و تدفعه، و اجتمع عنده من المال ما قيمته مائة الف درهم، فجاء بها الى الكميت، و قال له:
«يا أبا المستهل اتيناك بجهد المقل، و نحن في دولة عدونا، و قد جمعنا هذا المال، و فيه حلي النساء، فاستعن به على دهرك. .»
و أبى الكميت من قبوله قائلا:
«بأبي أنتم و أمي قد اكثرتم، و اطيبتم، و ما أردت بمدحي اياكم إلا اللّه و رسوله، و لم اك لآخذ ثمنا من الدنيا، فاردده الى اهله. .»
و جهد عبد اللّه ان يقبل الكميت تلك الاموال فأبى و امتنع  22 .
اللامية من هاشمياته:
و انشد الكميت اللامية من هاشمياته أمام الامام أبي جعفر (ع) و قد أخذت منه مأخذا عظيما، فقد تركت في نفسه اعظم الاثر، فقد عرض فيها الى الاحداث السياسية المؤلمة في ذلك العصر، و ما حل بأهل البيت (ع) من صنوف التنكيل و الارهاق يقول في أولها:
ألا هل عم في رأيه متأمل و هل مدبر بعد الاساءة مقبل
و هل أمة مستيقظون لرشدهم فيكشف عنه النعسة المتزمل
فقد طال هذا النوم و استخرج الكرى
مساويهم لو كان ذا الميل يعدل
و دعا الكميت بهذه الابيات المسلمين الى اليقظة من سباتهم، و اهاب بهم من الجمود و الخمول، و قد حفزهم على الثورة للتخلص من ظلم الامويين و جورهم فقد جهدوا على الاستبداد بشئون الناس و ارغامهم على ما يكرهون، و يقول الكميت في هذه الرائعة:
و عطلت الاحكام حتى كأننا على ملة غير التي نتنحل
كلام النبيين الهداة كلامنا و أفعال أهل الجاهلية نفعل
 رضينا بدنيا لا نريد فراقها على أننا فيها نموت و نقتل
و نحن بها مستمسكون كأنها لنا جنة مما نخاف و نعقل
و عرض في البيت الاول الى تعطيل الامويين للاحكام الدينية، و تجميدهم لمبادئ الاسلام حتى صار المسلمون بشكل مؤسف كأنهم قد انتحلوا دينا غير دين الاسلام.
اما البيت الثاني فقد قدح فيه ولاة الحكم الاموي، و انهم يقولون:
كلام الهداة المصلحين إلا ان اعمالهم تتجافى مع اقوالهم، فهم يعملون أعمال اهل الجاهلية الاولى اما البيتان الاخيران فانه يعزو فيهما الحالة الراهنة التي منى بها المسلمون الى حبهم للحياة و ايثارهم للعافية، و تمسكهم بالدنيا، فلم يهبوا للجهاد و الثورة على الحكم الاموي و يقول الكميت:
فتلك أمور الناس أضحت كأنها امور مضيع آثر النوم بهّل
فباساسة هاتوا لنا من حديثكم ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أ أهل كتاب نحن فيه و انتم على الحق نقضي بالكتاب و نعدل
و يعرض في البيت الاول الى اهمال احكام الامويين لشؤون الرعية حتى غدت كأنها الابل المهملة تسرح و لا راعي لها يحفظها من الضياع، و يسأل في البيتين الاخيرين اولئك الساسة القابضين على زمام الحكم، هل انهم اهل كتاب يقضون بالحق، و على ضوئه يسوسون شئون رعيتهم؟ و اذا كانوا كذلك فما بالهم قد شذوا في سياستهم عن الدين، و ابتعدوا عن تعاليمه.
و يستمر الكميت في محاسبة الامويين، و تحميلهم المسئولية عما اصاب الامة من الظلم و الجور، و يعدد مثالبهم، و يدعو المسلمين الى الانتفاضة على حكمهم، و بعد ذلك عرج على رثاء أبي الاحرار الامام الحسين عليه السلام قائلا:
 كأن حسينا و البهاليل حوله لاسيافهم ما يختلي المتبقل
يخضن به من آل احمد في الوغى و ما ظل منهم كالبهيم المحجل
و غاب نبي اللّه عنهم و فقده على الناس رزء ما هناك مجلل
لقد كان الكميت صادق اللهجة و العاطفة في رثائه للحسين (ع) ، و قد تركت ابياته اعظم الاثر في نفس الامام أبي جعفر (ع) و لما انتهى الكميت الى هذا البيت:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم فيا آخرا أسدى له الغي أول
و قد اراد الكميت بهذا البيت ان جميع ما حل بأهل البيت (ع) من الرزايا و الخطوب فانه يستند الى الصدر الاول فانهم هم الذين سمحوا للأمويين أن يقفزوا الى الحكم، و مكنوهم من رقاب المسلمين، و لما سمع الامام (ع) هذا البيت بلغ به الحزن اقصاه، و رفع يده الى السماء.
و جعل يدعو للكميت قائلا: «اللهم اغفر للكميت»  23 .
الى هنا ينتهي بنا الحديث عن لامية الكميت، و قد جاء فيها أنه قد رثا الامام ابا جعفر (ع) حيث يقول:
أ موتا على حق كمن مات منهم ابو جعفر دون الذي كنت تأمل
و من المؤكد انه نظم هذا البيت و ما بعده بعد وفاة الامام أبي جعفر عليه السلام و الحق ذلك بلاميته.
العينية من هاشمياته:
و هذه رائعة أخرى من هاشمياته، و قد وفد على الامام أبي جعفر (ع) ليتلوها عليه فقال له: إني قد قلت شعرا ان اظهرته خفت القتل، و ان كتمته خفت اللّه تعالى، ثم انشد الامام (ع) هذه الرائعة:
 نفى عن عينك الارق الهجوعا و هم يمتري منها الدموعا
دخيل في الفؤاد يهيج سقما و حزنا كان من جذل منوعا
لفقدان الخضارم من قريش و خير الشافعين معا شفيعا  24 
و وصف في هذه الابيات ما حل به من هم مقيم، و آلام عميقة جعلته دائما ارقا لا يألف إلا الحزن و الاسى، و ذلك لما حل باسياده العلويين من الرزايا و الخطوب، فقد كوت قلبه، و جعلته هائما في تيارات مذهلة من الاسى و الشجون.
و يقول الكميت في عينيته يصف سيده الامام أمير المؤمنين (ع) :
لدى الرحمن يصدع بالمثاني و كان له أبو حسن قريعا
حطوطا في مسرته و مولى الى مرضاة خالقه سريعا
و أصفاه النبي على اختيار بما أعيى الرفوض له المذيعا
و يوم الدوح دوح غدير خم أبان له الولاية لو اطيعا
و لكن الرجال تبايعوها فلم ار مثلها خطرا مبيعا  25 
فلم ابلغ بها لعنا و لكن أساء بذاك أولهم صنيعا
فصار بذاك أقربهم لعدل الى جور و احفظهم مضيعا
اضاعوا أمر قائدهم فضلوا و اقومهم لدى الحدثان ريعا
تناسوا حقه و بغوا عليه بلا ترة و كان لهم قريعا  26 
و عرض الكميت في هذه القطعة من قصيدته الى الامام امير المؤمنين عليه السلام فذكر مناصرته للنبي (ص) حينما فجر دعوته المشرقة،
فقد كان الامام الى جانبه يحميه و يذب عنه، و يرد عنه كيد المعتدين و الظالمين، و كان الامام (ع) في جهاده و دفاعه لا يبتغي إلا وجه اللّه، و لا يلتمس إلا الدار الآخرة، و نظرا لما يتمتع به الامام (ع) من الطاقات الروحية الهائلة فقد اصطفاه النبي (ص) و جعله وزيرا و خليفة من بعده، اعلن ذلك في مؤتمره العام الذي عقده في غدير خم، فقلده و سام الخلافة و الامامة، و قال فيه: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاده و انصر من نصره و اخذل من خذله»  27 و من المؤسف-حقا-ان هذه البيعة التي عقدها اللّه و رسوله للامام امير المؤمنين القائد الاول للمسيرة الاسلامية لم تتفق مع رغبات القوم و ميولهم فعقدوا مؤتمر السقيفة، و تجاهلوا بيعتهم للإمام و تناسوا مقامه، و قد حفلت مصادر التأريخ بذكر الحادث المؤلم، و تفصيل شئونه:
و مضى الكميت في رائعته يقول:
فقل لبني أمية حيث حلوا و إن خفت المهند و القطيعا
إلا اف لدهر كنت فيه هدانا طائعا لكم مطيعا  28 
اجاع اللّه من اشبعتموه و اشبع من بجوركم اجيعا
و يلعن فذ أمته جهارا اذا ساس البرية و الخليعا
بمرضي السياسة هاشمي يكون حيا لأمته مريعا
و ليثا في المشاهد غير نكس لتقويم البرية مستطيعا
 يقيم أمورها و يذب عنها و يترك جدبها أبدا مريعا  29 
و عرض الكميت في هذه الابيات لبني أمية فدعا بالجوع و الحرمان على عملائهم و اذنابهم الذين اتخمت بطونهم من أموال الامويين و هباتهم، كما دعا لمن حرمتهم السلطة الأموية من العطاء بالثراء و سعة العيش، كما عرض لبني هاشم، و انهم ساسة الأمة، و انها في ظلال حكمهم تجد الرفاهية، و العيش الرغيد.
و يقول المؤرخون إن الامام أبا جعفر (ع) : لما سمع هذه القصيدة العصماء اخذ منه الاعجاب مأخذا عظيما، و انطلق يقول:
«اللهم اكف الكميت.»
و كرر الامام هذا الدعاء ثلاث مرات، و قد انجاه اللّه ببركة دعائه فتخلص من سجن الامويين  30 .
نضاله المرير:
و ناضل الكميت نضالا مريرا في الدفاع عن عقيدته، و الذب عن مبادئه، و قد انطلق كالمارد الجبار في احلك الظروف، و أشدها قسوة و محنة على أهل البيت (ع) فأخذ يذيع مآثرهم، و يشيد بفضائلهم، و يدعو الناس الى الالتفاف حولهم، و يدفعهم الى التمرد على الحكم الاموي، و التخلص من جوره و طغيانه.
لقد قام الكميت بدور ايجابي و فعال في زعزعة الكيان الأموي، و اسقاط هيبته، و كان من ابرز ما قام به في هذا المجال ما يلي:
 ١ -مدحه لأهل البيت:
و مدح الكميت أهل البيت (ع) مدحا عاطرا، و عدد مناقبهم و مآثرهم في هاشمياته التي هي من أثمن اللوحات الفنية في الأدب العربي، و قد لعبت دورا خطيرا في بلورة الوعي العربي و الاسلامي، و أوجدت شعورا عاما يتسم بالكراهية و البغض لبني أمية.
لقد مدح الكميت أهل البيت (ع) في وقت كانت الحكومة الأموية قد منعت منعا رسميا الاشادة بهم، و فرضت سبهم على المنابر و المآذن، و أوعزت الى معاهد التعليم القيام بتغذية النشىء ببغضهم، كما عهدت الى لجان الوضاعين بافتعال الحديث للحط من شأنهم، و فرضت أشد العقوبات و اكثرها صرامة على من يذكرهم بخير، فقيام الكميت بمدحهم يعتبر من ابرز الوان النضال الديني لأنه قد قاوم رغبات السلطة، و ناهض سياستها.
 ٢ -هجاء الأمويين:
و قام الكميت بدور خطير في مناهضة الأمويين، فقد هجا ملوكهم، و عدد مثالبهم و ابرزهم في شعره كأقذر مخلوق، و قد حفظ الناس ما قاله فيهم، فزهدوا في بني أمية، و نقموا على حكمهم و سلطانهم، و يعتبر هجاؤه لهم من الاسباب التي اطاحت بملكهم و من قوله فيهم:
فقل لبني أمية حيث حلوا و إن خفت المهند و القطيعا
اجاع اللّه من اشبعتموه و اشبع من بجوركم اجيعا
و قد قرأ هذه الابيات على الامام أبي جعفر (ع) فدعا له بالمغفرة و الرضوان  31 و هجا هشام بن عبد الملك بقوله:
 يصيب على الأعواد يوم ركوبها لما قال فيها مخطئ حين ينزل
كلام النبيين الهداة كلامنا و افعال أهل الجاهلية نفعل  32
و لم يقتصر الكميت في هجائه على الأمويين، و إنما هجا انصارهم و اعوانهم فقد هجا الحكيم بن عياش الكلبي، و قد اعتز الكميت في هجائه ببني أمية، و كان ذلك موضع دهشة و استغراب.
و قد خف إليه ولده المستهل فانكر عليه اعتزازه ببني أمية قائلا:
«يا ابة انك هجوت الكلبي، و غمزت عليه، ففخرت ببني أمية، و أنت تشهد عليهم بالكفر، فهلا فخرت بعلي و بني هاشم الذين تتولاهم؟ ! !»
فأجابه الكميت جواب العالم الخبير قائلا:
«يا بني أنت تعلم انقطاع الكلبي الى بني أمية، و هم اعداء علي، فلو ذكرت عليا لترك ذكري، و اقبل على هجائه فاكون قد عرضت عليا له، و لا أجد له ناصرا من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية و قلت: ان نقضها علىّ قتلوه، و إن امسك قتلته غما و غلبته. .»
و كان كما قال الكميت: فقد امسك الكلبي من جوابه إلا انه ترك الحزن و الأسى يحزان في نفسه  33 .
 ٣ -اثارة العصبية بين اليمنية و النزارية:
و قام الكميت بدور خطير في تحطيم الدولة الأموية فقد القى الخصومة و اجج نار الفتنة بين اليمانية و النزارية، و هما من أهم القبائل العربية عددا و نفوذا، و كانتا من اعظم المؤيدين للحكم الأموي، و قد هجا الكميت في شعره اليمانيين و عدد مثالبهم فلم يترك حيا من احيائهم إلا هجاه بأقسى ألوان الهجاء، اما سبب هجائه لهم فقد روى المسعودي أنه قصد عبد اللّه ابن الحسن فطلب منه أن ينشىء شعرا يثير به حفائظ النفوس بين العرب لعل فتنة تحدث فتكون سببا الى زوال دولة الامويين فاستجاب الكميت، و انطلق ينظم قصائد من الشعر الحماسي الرائع يمجد فيها اليمانيين، و يذكر مناقبهم، و يهجو القحطانيين، و مما قاله:
لنا قمر السماء و كل نجم تشير إليه أيدي المهتدينا
وجدت اللّه اذ سمى نزارا و اسكنهم بمكة قاطنينا
لنا جعل المكارم خالصات و للناس القفا و لنا الجبينا
و أثر شعره فى القلوب تأثيرا عظيما، حتى ثارت الحفائظ بين القبيلتين، و شاع البغض و العداء بينهما، و انتصر للقحطانيين شاعر أهل البيت دعبل الخزاعي، و اكبر الظن أنه كان بينهما اتفاق سري على ذلك، فانهما معا من شعراء أهل البيت (ع) و كل منهما قد ضرب الرقم القياسي في الولاء لهم، و مما قاله دعبل في الرد على الكميت:
افيقي من ملامك يا ظعينا كفاك اللوم مر الأربعينا
أ لم تحزنك أحداث الليالي يشيبن الذوائب و القرونا
أحي الغر من سروات قومي لقد حييت عنا يا مدينا
فان يك آل اسرائيل منكم و كنتم بالاعاجم فاخرينا
الى أن يقول:
و ما طلب الكميت طلاب وتر و لكنا لنصرتنا هجينا
لقد علمت نزار أن قومي الى نصر النبوة فاخرينا
و اخذت كل قبيلة تفتخر على الأخرى و تدلي بمناقبها و مكارمها، و تنتقص القبيلة الأخرى حتى اتسع العداء بينهما و شمل سكان القرى و البادية، و قد تخربت القلوب، و انفصمت عرى الوحدة بين الأسرتين، و نتج من ذلك ان مروان بن محمد الجعدي آخر ملوك بني أمية قد تعصب للنزاريين، مما سبب انحراف اليمانيين عن بني أمية، و انضمامهم الى الدعوة العباسية، و بذلك فقد انهارت الدولة الأموية  34 و يقول أحمد امين: «و قتلت بعده-اي بعد الكميت-الدولة الأموية بقليل»  35 .
اعتقاله:
و شاع هجاء الكميت لليمانيين، و صار أحدوثة الأندية و المجالس، و بلغ ذلك حاكم الكوفة خالد بن عبد اللّه القسري، و كان يتعصب لليمانيين، فقال: و اللّه لأقتلنه، و يقول المؤرخون: إنه اشترى جارية في نهاية الحسن، فرواها هاشميات الكميت، فلما حفظتها أهداها الى هشام ابن عبد الملك، و كتب إليه باخبار الكميت، و هجائه لبني أمية، و انفذ إليه قصيدته التي يقول فيها:
فيا رب هل إلا بك النصر يبتغى و يا رب هل إلا عليك المعول
و هي قصيدة طويلة يرثى فيها الشهيد العظيم زيد بن علي، و ابنه الشهيد الخالد الحسين بن زيد، كما يمدح فيها بني هاشم، و لما وصلت الى هشام، و قرئت عليه غضب كأشد ما يكون الغضب، فكتب الى خالد يأمره بقطع لسان الكميت و يده، و أوعز خالد القسري الى الشرطة باعتقاله، فألقت عليه القبض، و أودع في السجن، لينفذ فيه حكم الأعدام، و بقي في السجن حفنة من الأيام و هو يعاني قسوة السجن و مرارته  36 .
هربه من السجن،
و بقي الكميت في السجن و جلا مضطربا قد طافت به الهموم و الآلام فلا يدري متى ينفذ فيه حكم الاعدام؟ و يقول المؤرخون: انه كان له صديق حميم هو ابان بن الوليد العجلي، و كان عاملا على واسط من قبل الأمويين، فلما انتهت إليه انباء الكميت ارسل بالفور إليه غلامه، و أمره بالاسراع إليه، و حمله رسالة عرفه فيها بأن مصيره القتل، و إنه لاخلاص له منه إلا بأن يحتال فيرسل بأسرع وقت خلف زوجته الى السجن، و يلبس لباسها، و تكون مكانه في السجن من حيث لا يعلم السجانون، و يكون بذلك نجاته، و فعل الكميت ذلك، و هرب من السجن بعد أن لبس لباس زوجته و قد ظن السجان أنه زوجة الكميت فلم يفتشه، و قد نجا بذلك من القتل المحتم و أنشا الكميت بعد هروبه هذين البيتين:
خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل على الرغم من تلك النوائح و المشل
علي ثياب الغانيات و تحتها عزيمة امر أشبهت سلة النصل  37 
العفو عنه:
و بقى الكميت متواريا عن انظار السلطة متخفيا، و هي تمعن بالتفتيش عنه إلا انها لم تهتد الى معرفته، و قد عزم الكميت على مدح هشام و بني أمية لينجو مما هو فيه، و قبل أن ينظم فيهم أرسل وردا ابن أخيه زيد الى الامام أبي جعفر (ع) يستأذنه فيما عزم عليه، فاذن له الامام (ع) و قفل ورد الى عمه فعرفه برضاء الامام  38 و اتجه الكميت مع جماعة من بني أسد الى دمشق، فلما انتهوا إليها، قصدوا جماعة من أشراف قريش، و احاطوهم علما بالأمر، فاجابوهم، و خفوا جميعا سوى الكميت الى عنبسة بن سعيد بن العاص فقالوا له:
«يا أبا خالد هذه مكرمة أتاك اللّه بها، هذا الكميت بن زيد لسان مضر، و كان أمير المؤمنين قد كتب في قتله فنجا حتى تخلص إليك و إلينا. .»
و استجاب لهم عنبسة، و اتجه الى مسلمة بن هشام فقال له: يا أبا شاكر مكرمة أتيتك بها تبلغ بها الثريا، فقال له مسلمة: ما هي؟ فأخبره بالأمر، فأجاره مسلمة  3٩ و شاع ذلك فلما بلغ هشام دعا بولده مسلمة فصاح به:
«ا تجير على أمير المؤمنين بغير أمره؟»
«كلا و لكني انتظرت سكون غضبه. .»
«احضرنيه الساعة فانه لا جوار لك. .»
و قام مسلمة من مجلس أبيه، و مضى نحو الكميت، فقال له: يا أبا المستهل ان أمير المؤمنين قد أمرني باحضارك، فقال الكميت:
«أ تسلمني يا أبا شاكر؟ . .»
«كلا. .»
و مهد مسلمة الطريق الى نجاته فقال له: ان معاوية بن هشام مات قريبا، و قد جزع عليه جزعا شديدا، فاذا كان من الليل فاضرب رواقك
على قبره، و أنا أبعث لك بنيه يكونون معك في الرواق، فاذا دعا بك تقدمت عليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك، و يقولون: هذا استجار بقبر ابينا، و نحن أحق باجارته، ثم تركه و انصرف، و اتجه الكميت في الليل نحو قبر معاوية فضرب رواقه عليه، و لما اصبح هشام تطلع من قصره إلى قبر ولده، فقال: ما هذا؟ فقالوا: له لعله مستجير بالقبر، فقال: يجار كل من كان إلا الكميت فانه لا جوار له، فقيل له: إنه الكميت، فأمر باحضاره، فاحضر و قد ربط صبيان معاوية ثيابهم بثيابه، فلما نظر إليهم هشام اغرق في البكاء، و قد رفعت الصبية أصواتهم قائلين له: يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا، و قد مات، و مات حظه من الدنيا، فاجعله هبة له و لنا، و لا تفضحنا فيمن استجار به، فبكى هشام، ثم اقبل على الكميت، فقال له: أنت القائل؟
و إلا فقولوا: غيرها تتعرفوا نواصيها تروى بنا و هي شزب
و اعتذر الكميت، فصاح به هشام فقال له:
-ايه يا كميت الست القائل: ؟ فيا موقدا نارا لغيرك ضوؤها و يا حاطبا في غير حبلك تحطب
-بل أنا القائل:
الى آل بيت أبي مالك مناخ هو الأرحب الأسهل
نمت بارحامنا الداخلا ت من حيث لا ينكر المدخل
بمرة و النضر و المالكين رهط هم الأنبل الأنبل
وجدنا قريشا قريش البطاح على ما بنى الأول الأول
-و أنت القائل:
لا كعبد المليك أو كوليد او سليمان بعد أو كهشام
 من يمت لا يمت فقيدا و من يح‍ ي فلا ذو إلّ و لا ذو ذمام
«ويلك يا كميت! ! جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن إلاّ و لا ذمة. .»
قال الكميت: بل أنا القائل:
فالآن صرت الى أمية و الأمور الى المصائر
و الآن صرت بها الى المصيب كمهتد بالأمس حائر
قال هشام: الست القائل: ؟
فقل لبني أمية حيث حلوا و إن خفت المهند و القطيعا
أجاع اللّه من اشبعتموه و اشبع من بجوركم اجيعا
بمرضي السياسة هاشمي يكون حيا لأمته ربيعا
قال الكميت: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تمحو عني قولي الكاذب؟ -بما ذا؟
-بقولي الصادق:
اورثته الحصان أم هشام حسبا ثاقبا و وجها نضيرا
و تعاطى به ابن عائشة البد ر فامسى له رقيبا نظيرا
و كساه ابو الخلايف مروا ن سناء المكارم المأثورا
لم تجهم له البطاح و لكن وجدتها له معانا و دورا
و غزت هذه الأبيات قلب هشام، و ازالت عنه الغيظ فاستوى جالسا و اخذ يبدي إعجابه بهذه الأبيات، قائلا:
«هكذا فليكن الشعر! ! قد رضيت عنك يا كميت.»
و شكره الكميت، و طلب منه أن لا يجعل لخالد بن عبد اللّه القسري امارة عليه فأجابه الى ذلك، و أمر له باربعين الف درهم، و ثلاثين ثوبا هشامية، و كتب الى خالد ان يخلي سبيل امرأته، و يعطيها عشرين الف درهم، و ثلاثين ثوبا، ففعل خالد  4٠ .
لقد استطاع الكميت أن يتغلب على الأحداث بلباقته، و قوة بيانه، و بليغ منطقه، و تماسك شخصيته، فلم ينهار أمام الطاغية هشام، و لم يراوده الخوف و الفزع، و إنما كان كالجبل في صلابة إرادته، و قوة عزيمته، و لم يكتف بما ظفر به من السلامة و النجاة، و إنما طلب من هشام أن لا يجعل لحاكم الكوفة عليه سلطانا و سبيلا، و يتركه و حريته فيما يقول و يعمل.
عتاب و اعتذار:
و وفد الكميت على الامام أبي جعفر (ع) فرحب به، و قرب مجلسه، و تبسم في وجهه و عاتبه عتابا رقيقا قال له:
يا كميت أنت القائل: ؟ فالآن صرت الى أمي‍ ة و الأمور الى المصائر
و اعتذر الكميت، و أجاب جواب العالم الفقيه قائلا:
«نعم قد قلت: ذلك، و لا و اللّه ما أردت به الا الدنيا، لقد عرفت فضلكم. .»
و منحه الامام الباقر الرضا و القبول، و قال له: اما ان قلت: ذلك تقية ان التقية لتحل  4١ و هذا إنما يتم بناء على عدم استئذانه من الامام في مدح الأمويين لقد كان الكميت صادق المودة و الولاء لأهل البيت عليه السلام و قد امتحن في سبيلهم كأعظم ما يكون الامتحان فتعرض لسخط الامويين و نقمتهم، و قضى شطرا من حياته في السجن، يلاحقه الفزع و الرعب،
و هو لم يبتغ بذلك إلا وجه اللّه و الدار الآخرة.
الى جنة المأوى:
و شاء اللّه لهذا العملاق العظيم الذي نافح عن حقوق أهل البيت (ع) أن يرزق الشهادة على يد شرار بريته، فقد دخل على والي العراق يوسف ابن عمر بعد عزل خالد القسري الذي نكل به، فانشده قصيدة يثني فيها عليه، و يعرّض بالقسرى جاء فيها:
خرجت لهم تمشي البراح و لم تكن كمن حصنه فيه الرتاج المضبب
و ما خالد يستطعم الماء فاغرا بعدلك و الداعي الى الموت ينعب
و كان الحرس الذين على رأس يوسف متعصبين لخالد، فوضعوا سيوفهم في بطنه و قالوا: أ تنشد الأمير، و لم تستأمره، فأخذه نزيف الدم  4٢ و أخرج و هو يجود بنفسه، و أغمي عليه، ثم أفاق و هو يقول:
«اللهم آل محمد، اللهم آل محمد. .»  4٣ 
ثم فاضت نفسه الزكية، و ارتفعت الى بارئها كما ترتفع أرواح الأولياء تحفها ملائكة اللّه و رضوانه.
و بهذا ينتهي بنا الحديث عن هذا العملاق العظيم الذي وهب مشاعره و عواطفه لآل النبي (ص) و صاغ فكره، و عقيدته فيهم على أساس العلم و المنطق فلم يندفع في ولائه لهم وراء العاطفة و انما استند في ذلك الى الأدلة الحاسمة من القرآن و السنة حسب ما أشار إليها في هاشمياته التي هي من أثمن الثروات الفكرية و العلمية في الأدب العربي و الاسلامي.
و قبل أن أطوي الصفحة الأخيرة من الحلقة الأولى من هذا الكتاب أرى من الحق علي أن أشيد بالملاحظات الفنية و العلمية، التي تكرم بها علي سماحة الحجة الأخ الشيخ هادي القرشي في هذا الكتاب سائلا من اللّه تعالى أن يجزيه عني خير ما يجزي أخا عن أخيه، و بهذا ينتهي بنا المطاف عن الجزء الأول من هذا الكتاب.
أما الجزء الثاني فأود أن أبين أن من بين ما يعرض له البحث عن ملوك الأمويين الذين عاصرهم الامام أبو جعفر (ع) فقد بسطنا الحديث عنهم، و ذكرنا ما أثر عنهم من الاعمال التي لا تتفق مع قواعد هذا الدين و اصوله، و التي كان منها ما عاناه الناس من الظلم الهائل و عدم الاعتراف بأي حق من حقوقهم الفردية و الاجتماعية، فقد حولوا البلد الى مزرعة خاصة لهم يصيبون منها ما شاءوا فالسواد-على حد تعبير ابن العاص-بستان قريش، و قد اجحفوا في جباية الخراج، و ساموا الناس سوء العذاب.
و كان من الضروري جدا عرض ذلك لأنه بصور الحياة الاجتماعية و السياسية التي عاشها الامام، و قد اصبحت دراسة مثل هذه البحوث مما لا بد منها في الدراسات الحديثة.
كما عرضنا الى عصر الامام (ع) ذلك العصر الذي هو أكثر العصور الاسلامية حساسية، فقد نشأت فيه الفرق الاسلامية التي كانت من اخطر الظواهر الفكرية و الاجتماعية في ذلك العصر، كما تصاعدت فيه عمليات الصراع الفكري و العقائدي بين الاحزاب التي تصارعت بصورة مذهلة على الوصول الى الحكم، و كان من نتائج ذلك الصراع إيقاف المسيرة الاسلامية، و وضع السدود و الحواجز أمام الزحف الاسلامي، المقدس، هذا بعض ما سيجده القارئ في الحلقة الثانية من هذا الكتاب.
__________
 1 ) توجد ترجمة كثير في كل من الاغاني  ٨ / ٢۵ ، و شذرات الذهب  ١ / ١٣١ ، و سير اعلام النبلاء، و خزانة البغدادي  ٢ / ٣٨١ ، و معجم الشعراء للمرزباني (ص  ٣۵٠ ) و اخبار الشيعة ( ۶٢ ) و وفيات الاعيان  ٣ / ٢۶۵ - ٢٧٠ .
2 ) الاغاني  ١۵ / ١١۵ .
3 ) روضات الجنات  ۶ / ۵٩ .
4 ) الغدير  ٢ / ٢١١ .
5 ) خزانة الأدب  ١ / ٩٩ .
6 ) الاغاني  ١۵ / ١٢۴ .
7 ) التطور و التجديد (ص  ٢۴١ ) .
8 ) التطور و التجديد (ص  ٢۴٠ ) .
9 ) الهاشميات (ص  ۴١ - ۴٢ ) .
10 ) الهاشميات (ص  ۴٢ ) .
11 ) حياة الشعر في الكوفة (ص  ٧١٣ ) .
12 ) الهاشميات (ص  ۴٠ ) .
13 ) سورة الشورى: آية  ٢٣ .
14 ) سورة الأحزاب: آية  ٣٣ .
15 ) سورة الأسراء: آية  ٢۶ .
16 ) سورة الانفال: آية  ۴١ .
17 ) روضات الجنات  ۶ / ۵۶ .
18) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام (ص  ١٨٩ ) و في اعيان الشيعة ق  ١ / ۴ / ۵١۶  ان هذه الابيات قالها اخو الكميت الورد بن زيد الأسدي أمام الامام ابي جعفر، و ليست للكميت، و ذكر ذلك احمد بن محمد عياش في مقتضب الأثر (ص  ١٣٢ ) .
19 ) الايام البيض: يراد بها أيام الليالي البيض، و هي الثالث عشر و الرابع عشر، و الخامس عشر، و سميت لياليها بيضا لأن القمر يطلع فيها من أولها الى آخرها.
20 ) الغدير  ٢ / ٢٠٠ .
21 ) قصص العرب  ٢ / ٢۶٩ ، مروج الذهب  ٢ / ١٩۵ .
22 ) في مقاتل الطالبيين (ص  ٨۴ ) . و أبو الفضل ان ذكرهم الحلو شفاء النفوس من اسقام قتل الادعياء اذ قتلوه اكرم الشاربين صوب الغمام و ذكر شارح الهاشميات ان المراد بابي الفضل هو العباس عم النبي (ص) و هو اشتباه محض نشأ من قلة التتبع.
 23 ) النزع: جذب الوتر بالسهم، الاغراق في النزع: مثل يضرب للغلو و الافراط، فقوله: فما اغرق نزعا لا يناسب المقام لان معناه انه لا يبالغ في محبة أهل البيت (ع) مع أن المناسب المبالغة فيها فلهذا غير الامام الشعر من النفي الى الايجاب.
24 ) اعيان الشيعة  ١ / ۴ / ۵١۵ - ۵١۶ .
 25 ) مروج الذهب  ٢ / ١٩۵ .
 26 ) اخبار شعراء الشيعة للمرزباني (ص  ٧٢ ) .
 27 ) الخضارم: السادة الكرماء.
 28 ) في بعض النسخ (فلم ار مثلها حقا اضيعا) .
29 ) القريع: المختار يقال: اقترعه اي اختاره.
30 ) حديث الغدير متواتر اجمع المسلمون على روايته، و ذكرته الصحاح كافة.
31 ) الهدان: الجبان.
32 ) الهاشميات (ص  ٨١ - ٨٢ ) .
33 ) اخبار شعراء الشيعة (ص  ٧٢ - ٧٣ ) .
34 ) معجم الشعراء (ص  ٣۴٨ ) .
35 ) معجم الشعراء (ص  ٣۴٨ ) .
36 ) الاغاني  ١۵ / ١٢٩ .
37 ) حياة الامام موسى بن جعفر  ١ / ٣١۵ - ٣١۶  نقلا عن مروج الذهب.
38 ) ضحى الاسلام  ٣ / ٢٠۶ .
39 ) الاغاني  ١۵ / ١١۴ .
40 ) مقدمة الهاشميات (ص  ١٧ ) .
 41 ) مقدمة الهاشميات (ص  ١٧ ) .
42 ) الغدير  ٢ / ٢٠۶ .
43 ) الاغاني  ١۵ / ١١۵ - ١١٩ ، العقد الفريد  ١ / ١٨٩ .
44 ) الاغاني  ١۵ / ١٢۶ .
45 ) الاغاني  ١۵ / ١٢١ .
46 ) الاغاني  ١۵ / ١٣٠ .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page