• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

السبب الخامس : ما ذهب إليه الخطيب البغدادىّ وابن عبد البرّ

قال الخطيب: إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة روايتهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتشديده عليهم في ذلك؟
قيل له: فعل ذلك عمر احتياطاً للدين، وحسن نظر للمسلمين، لأنّه خاف أن ينكلوا عن الأعمال، ويتّكلوا على ظاهر الأخبار. وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها ولا كلّ من سمعها عرف فقهها; فقد يَرد الحديث مجملاً ويستنبط معناه وتفسيره من غيره، فخشي عمر أن يُحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحُكم خلاف مأخذه، وفي تشديد عمر ـ أيضاً ـ على الصحابة في روايتهم حفظ حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وترهيب من لم يكن من الصحابة أن يدخل في السنن ما ليس منها(1).
قال الدكتور محمّد عجاج الخطيب، بعد نقله كلام الخطيب البغدادىّ: هذا ما رآه ابن عبد البرّ والخطيب البغدادىّ وغيرهما من أئمّة الحديث وإليه أذهب وبه أقول(2).
هذا كلام الخطيب في المسألة. وهو كلام تثار حوله عدّة أسئلة:
منها: أترى أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان أحرص من رسول الله (صلى الله عليه وآله) على دين الله؟ وما معنى خوفه واحتياطه ورسول الله يقول للسائل: (حدِّث عنّي ولا حرج)؟ ويقول في آخر (اكتبوا ولا حرج)؟
وكيف لا يحتاط أبو ذرّ الغفارىّ وهو الصحابىّ الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ)(3) وابن مسعود وغيرهم.
ثمّ إنّ ما فعله عمر بن الخطّاب من حظر التحديث والتدوين، وجمعُهُ للصحابة المحدِّثين في حوزته إلى آخر حياته ـ من أمثال أبي ذرّ وابن مسعود وأبي مسعود وغيرهم ـ ليشير بوضوح إلى افتعال ما نُسب لهؤلاء من روايتهم أحاديث منع التدوين والتحديث عن النبىّ (صلى الله عليه وآله) ، فقد ثبت من جهة أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب منع هؤلاء وفرض عليهم الإقامة الإجباريّة في المدينة، لتحديثهم عن رسول الله فلا يعقل في الجهة المقابلة أن يكون هؤلاء هم رواة أحاديث منع التدوين!! إذ لو كانوا كذلك لالتزموا بما سمعوا من منع النبىّ (صلى الله عليه وآله) ولما حدّثوا عنه (صلى الله عليه وآله) بشي.
بلى، لو صحّ أنّهم من مانعي الرواية والتحديث لما احتاج الخليفة إلى جمعهم ونهيهم عن التحديث، لأنّه تحصيل حاصل.
ثمّ ألم يكن في هذا القول ازدراء للصحابة؟ وتكذيب لما قاله ابن حجر عنهم: فنفى عنهم الكذب والخطأ والسهو والريب والفخر!
وإذا كان نقل الصحابة قد جاء تدريجيّاً واجتهاداً منهم، فهل يجوز لعمر نقض ما فعلوه؟
وإن لم يكن كذلك، فكيف يأمرهم أن يأتوه بمدوّناتهم؟
ألم يكن ذلك دليلاً على الجواز؟
وهل يعقل أن يمنع الرسول (صلى الله عليه وآله) من تناقل حديثه الذي فيه بلاغ للناس؟ وهو القائل (رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فبلغها عني)(4).
والعجيب أنّهم يدّعون أنّ في المنع احتياطاً للدين، ويفوت عليهم أنّ منع المنع هو الاحتياط للدين، لأنّ معنى المنع هو ضياع كثير من الأحكام وعدم وصولها للمسلمين وإخفاء حكم الله، وأمّا التحديث والتدوين فهو وإن كان عرضة للخطأ والتصحيف وو... لكنّه أعوَدُ على المسلمين من بقائهم في الجهل وعدم معرفة الأحكام.

ولو تنزّلنا وقلنا بأنّ الخليفة الثاني منع من التدوين احتياطاً للدين، فإنّنا سنواجه مشكلة في سيرة الخليفة من كونه حادّاً سريعاً في اتّخاذ المواقف منذ الجاهلية(5) وصدر الإسلام، وهذا لا يتفق مع خوفه من (أن ينكلوا عن الأعمال ويتكلوا على ظاهر الاخبار) ـ كما قاله الخطيب ـ لأن عمر كان لا يتأنّى ولا يتمهّل، بل تراه يتسرّع في كثير من الأمور ثمّ يندم على ذلك، اذ نراه ندم على ما فعله سابقاً في صلح الحديبيّة(6) وحينما صلى النبي (صلى الله عليه وآله) على المنافق(7)، ومثل ذلك ما تعجّل به عندما جي بالحكم بن كيسان أسيراً للنبىّ (صلى الله عليه وآله) فجعل النبىّ يدعوه إلى الإسلام، فأطال، فقال عمر: علامَ تكلّم هذا يا رسول الله؟! والله لا يسلم هذا آخر الأبد، دعني أضرب عنقه ويقدم على أُمّه الهاوية.
فكان النبىّ (صلى الله عليه وآله) لا يقبل على عمر، حتّى أسلم الحكم.
قال عمر: فما هو إلاّ أن رأيته أسلم، حتّى أخذني ما تقدّم وما تأخّر، وقلت: كيف أردّ على النبىّ أمراً هو أعلم به منّي، ثمّ أقول: إنّما أردت بذلك النصيحة لله ولرسوله؟!
قال عمر: فأسلم، فحسن إسلامه، وجاهد في الله حتّى قُتِل شهيداً ببئر معونة ورسول الله راض عنه. ودخل الجنان(8).
وكانت له مثل هذه المواقف في خلافة أبي بكر، فقد جاء نفر من مؤلّفة المسلمين إلى أبي بكر يطلبون سهمهم، فكتب لهم به، فذهبوا إلى عمر ليعطيهم، وأروه كتاب أبي بكر، فأبى وبزق [ بصق ] فيه ثم ضرب به وجوههما... فرجعوا إلى أبي بكر، فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟! فقال: بل هو إن شاء(9).
وقد أكثر من سرعة البتّ في الأمور في فترة خلافته، فغرّب نصر بن حجّاج، لأنّ امرأةٌ هتفت به(10)، وشرّع الطلاق ثلاثاً(11)، وأراد أخذ ذهب البيت الحرام ثمّ
أعرض عن ذلك لمخالفة الصحابة إيّاه،(12) وو...
ومع هذا الذي نراه من سيرة الخليفة عمر بن الخطاب، لا نستطيع أن نؤمن بأنّه فعل ذلك احتياطاً، لأنّ التسرّع والاجتهاد يتنافى مع الحذر والاحتياط.
وماذا نقول عن فعل الصحابة؟!
وهل يعقل أنّ الصحابة كانوا لا يرون الاحتياط في الدين؟ أم أنّهم كانوا يرون الاحتياط هو الأخذ برؤية تخالف ما ذهب إليه الخليفة؟!
وكيف يصحّ أن يقال إنّ فعل الخليفة عمر كان للاحتياط، مع أنّا نرى الصحابة أشاروا عليه بتدوين السنّة، فانفرد برأيه وأحرق المدوّنات ومنع من التدوين، ترى كيف صار خلاف صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) احتياطاً؟!
إنّ الاحتياط في أن يوافق الخليفة رأي أكثر الصحابة لقوله تعالى { وأمرهم شورى بينهم }(13)، ولإيمانه هو بمبدأ الشورى، فمخالفة ما أشار به الصحابة يعدّ نقضاً للاحتياط وهدماً لمبدأ الشورى الذي اتّخذه عمر بن الخطّاب.
بعد كلّ هذا يتجلّى ضعف هذا الرأي، وعدم صموده أمام النقد والتمحيص فلذلك نرى أن ننتقل إلى سبب آخر عسى أن نقف على الحلّ فيه.
**************************
1- شرف أصحاب الحديث: 97 ـ 98.
2- السنّة قبل التدوين: 106.
3- مسند أحمد 2: 163، ح 6519، سنن ابن ماجة 1: 55، باب فضل ابي ذر، ح 156، سنن الترمذي 5: 669، باب مناقب أبي ذر 2، ح 3801، الاحاد والمثاني 2: 231، ح 986، الكنى للبخاري 1: 23، ح 181.
4- سنن الترمذي 5: 34، كتاب العلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، باب ما جاء في الحث على تبليغ السامع، ح 2658، المسند المستخرج على صحيح مسلم 1: 41، ح 12، سنن ابن ماجة 1: 84، باب من بلغ علماً، ح 230 و1: 85، ح 231 و1: 86، ح 236: مسند أحمد 4: 80، ح 16784 و4: 82، ح 16800.
5- انظر المنمّق: 130.
6- صحيح البخاري 2: 978، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ح 2581. و3: 1162، باب إثم من عاهد ثم غدر، ح 3011، و4: 1832، باب إذ يبايعونك تحت الشجرة، ح 1785 وصحيح مسلم 3: 1411 باب صلح الحديبيه ح 1785.
7- تاريخ المدينة لابن شبة 1: 372 بسنده عن الشعبي قال: إن عمر قال: لقد أصبت في الإسلام هفوة ما هفوت مثلها قط، ثم ذكر قضية صلاة النبي على عبد الله بن أبي وهو كان منافقاً فاعترض عمر على النبي (صلى الله عليه وآله) آخذاً بثوبه ليمنعه من الصلاة عليه. الدر المنثور 3: 264، كنز العمال 2: 419، ح 4393.
8- الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 137 ترجمة الحكم بن كيسان، وعنه في الخصائص الكبرى 2: 26، باب ما وقع في اسلام الحكم بن كيسان، والمنتظم لابن الجوزي 3: 209.
9- انظر فضائل الصحابة لابن حنبل 1: 292، روح المعاني 10: 123، الإكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء 3: 90، كنز العمال 3: 914، ح 9151 و12: 546، ح 35738، تاريخ دمشق 9: 196، ت 797 الأقرع بن حابس.
10- الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 285، باب ذكر استخلاف عمر، الاستيعاب 1: 326، ترجمة الحجاج بن علاط السلمي، الإصابة 6: 485، ت 8845، لنصر بن حجاج بن علاط السلمي المبسوط للسرخسي 9: 45، كتاب الحدود.
11- صحيح مسلم 2: 1099، باب طلاق الثلاث، ح 1472، المستدرك على الصحيحين 2: 214، كتاب الطلاق، ح 2792 ـ 2793، المسند المستخرج على صحيح مسلم 4: 153، باب في الرجل يطلق امرأته، ح 3472 و3473 و3474، مسند احمد 1: 314، ح 2877، السنن الكبرى للبيهقي 7: 336، باب من جعل الثلاث واحدة، ح 14749، 14750، 14751.
12- الاحكام لابن حزم 2: 152، 6: 249، فتح الباري 3: 456 ـ 458، سنن أبي داود 2: 215، باب في مال الكعبة، ح 2031، سنن ابن ماجة 2: 1040، باب مال الكعبة، ح 3116، السنن الكبرى للبيهقي 5: 159، باب ما جاء في مال الكعبة، ح 9511.
13- الشورى: 38.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page