• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

موقف أهل البيت من المدّ الاجتهاديّ

 هذه النصوص تؤكد ـ من جهة أُخرى ـ على أنّ مصطلح الرأي والتأويل راح يأخذ مجاله بين أقوال الصحابة وأفعالهم. ولذلك كان الإمام علىّ (عليه السلام) أيّامَ خلافته يحاول معالجة وسدّ هذه الثغرة التي فُتحت على الفقه والتاريخ والدين الإسلامىّ، ويبيّن سبب ذلك، ويصنّف الناس المختلفين في الأحكام، ويبرهن على بطلان منهجهم ودعاواهم المطلقة العنان، وإليك بعض النصوص عنه (عليه السلام) في ذمّ الرأي، لتتّضح المسألة بمزيد من الجلاء. قال (عليه السلام) ـ من كلام له في ذمّ اختلاف العلماء في الفُتيا ـ:
(تَرِد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام، فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترِد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً، وإلـههم واحد! ونبيّهم واحد! وكتابهم واحد!
أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف، فأطاعوه؟!
أم نهاهم عنه فعصَوه؟!
أم أنزل الله دِيناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟!
أم كانوا شركاءه فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟!
أم أنزل الله سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول (صلى الله عليه وآله) عن تبليغه وأدائه؟! والله سبحانه يقول: {مَا فرّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْ }(1) وقال: {تِبْياناً لكلِّ شي}(2)، وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضُه بعضاً، وأنّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: {ولَو كانَ مِن عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فيهِ اختلافاً كثيراً}(3) وإنّ القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تُكشف الظلمات إلاّ(4) به.
ومن كلام له(عليه السلام) في صفة من يتصدّى لحكم الأمّة وهو ليس له بأهل: (...ورجلٌ قَمَشَ جَهْلاً، مُوضِعٌ في جُهَّالِ الأمَّةِ، عَاد في أغْبَاشِ الفِتْنَةِ، عَم بِمَا في عَقْدِ الهُدْنَةِ، قَدْ سَمَّاهُ أشْبَاهُ النَّاسِ عَالماً وَلَيْسَ بِهِ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْع، ما قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمّا كَثُرَ، حَتَّى إذا ارْتَوَى مِنْ آجِن واكْتَنَزَ مِن غَيْرِ طَائِل جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلى غَيْرِهِ، فَإنْ نَزَلَتْ بِهِ إحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأ لَهَا حَشْواً رَثّاً من رَأْيِهِ، ثُمَ قَطَعَ بِهِ، فَهُو مِنْ لَبْسِ الشبُهَاتِ في مِثْلِ نَسْجِ العَنْكَبوتِ: لا يَدْري أصَابَ أمْ أخْطأ; فَإنْ أصَابَ خَافَ أنْ يَكونَ أخْطأ; وإنْ أخْطأ رَجَا أنْ يَكُونَ قَدْ أصَابَ. جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالات، عَاش رَكَّابُ عَشَوَات، لَمْ يَعَضَّ عَلى العِلْمِ بِضِرْس قَاطِع، يذري الرِّوَايَاتِ إذراء الرِّيحِ الهَشِيمَ، لا مَلِيٌّ واللهِ بإصدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، ولا أهْلٌ لِمَا فوضَ إليه، لا يَحَْسبُ العِلْمَ في شَي ممّا أنْكَرَهُ، ولا يَرَى أنَّ مِنْ وَراءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ، وإنْ أظْلَمَ عليه أمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ، وَتَعَجُّ مِنْهُ المَواريثُ. إلى الله أشْكُو مِنْ مَعْشَر يَعيشُونَ جُهَّالاً، وَيَمُوتُونَ ضُلاّلاً)(5).
وقوله: (إنّما بَدْءُ وقوعِ الفِتَنِ أهواءٌ تُتَّبع، وأحْكامٌ تُبْتَدَع، يُخالَفُ فيها كتاب الله، وَيَتولّى عليها رجالٌ رِجالاً على غَيْرِ دينِ اللهِ. فَلَو أنَّ الباطِلَ خَلَصَ مَنْ مِزاجِ الحَقِّ
لَمْ يَخْفَ على المُرْتادِينَ، وَلو أنَّ الحَقَّ خَلَصَ من لَبْسِ الباطِلِ لانْقَطَعَتْ عنه ألْسُنُ المُعانِدين; ولكنْ يؤخَذُ مِن هذا ضِغْثٌ ومِنْ هذا ضِغْث فَيُمْزَجان! فَهُنالِكَ يَسْتَولي الشَّيْطانُ على أوْلِيائِهِ، ويَنْجو الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الحُسْنى)(6).
نعم، إنّ الرأي والتأويل ـ أي تأوّل فأخطأ ـ كانا المفردتين الأوليين اللتين دخلتا في الشريعة وقد حدث الخلط بينهما، فعنَوا بالرأي: التأويل، وبهما (الرأي والتأويل): الاجتهاد. أمّا مصطلح القياس والاستحسان والمصالح وغيرها فإنّما هي مصطلحات حادثة لم يرد ذكرها إلاّ في نادر من العبارات، ولم تستعمل بوسعتها الاصطلاحيّة اليوم، وإن كانت بذورها موجودة عمليّاً وتطبيقيّاً في ذلك العصر.
حتّى بلغ الأمر بالتابعين أن يفسّروا لفظ التأويل بالتغيير، ولا يتحرّجون عمّا لهذه الكلمة من مفهوم ومعنى، حتّى صارت سائدة مقبولة، إلى حدّ أنّهم قد طلبوا من الإمام الحسين وألحّوا عليه لكي يُؤوِّل قضاء الله، وعنوا بكلامهم أن يغيّره بانصرافه عن الذهاب إلى العراق. فقد جاء عن عمر بن علىّ أنّه قال للحسين(عليه السلام): (فلولا تأوّلت وبايعت)؟!(7) أي تأوّلت قضاء الله بقتلك، ببيعتك ليزيد. فصار مصطلح الاجتهاد معادلاً للتأويل وهذا المفهوم أخذ يتغّير مفهومه يوماً بعد يوم حتّى وصل إلى أوسع دوائره في العهدين الأموىّ والعبّاسىّ.
ولم يكن ابن عوف فيما طرحه يوم الشورى من تقييد عثمان والمسلمين بسيرة الشيخين قادراً على إيقاف مدّ الرأي والتأويل الذي كان قد انتشر واتّسع بعد تأصيله من قبل الشيخين. ولم تكن محاولته حصر الاجتهاد فيما فعله الخليفتان وحظره على سواهما من الصحابة بالتي تلقى أُذناً صاغية; لأنّ باب الرأي والتأوّل كان قد انفتح على مصراعَيه وتعذّر على من يريد إغلاقه أن يغلقه.. وغدا كلّ يريد لرأيه واجتهاده أن يُقابَل بالقبول كما فعل الشيخان من قبل.
إنّ ابن عوف في اشتراطه هذا قد أراد أن يسلب عثمان حقّ التشريع والاجتهاد بالرأي على الرغم من سابقته في الإسلام وكونه صهر الرسول(صلى الله عليه وآله) وخليفة المسلمين القادم، فتراه يأخذ العهد منه أمام المسلمين على الالتزام بالكتاب والسنّة وسيرة الشيخين على السواء.
المهم هو: أن التخطيط السياسىّ الدينىّ الذي رسمه الشيخان في حصر دائرة الشرعيّة بهما دون سواهما قد أُريد له أن يجعل أقوالهما في عداد شرعيّة السنّة. بَيْدَ أنّ الواقع ما كان يرى وجهاً مقبولاً لهذا الحصر والتخصيص، وهذا هو الذي جعل الأمر على غير ما أُريد له أن يكون.
تأويلات وآراء ومن الذين كانوا يدركون سياسة الشيخين وابن عوف في الشريعة، ويعرفون ما كان يريد هؤلاء بفعلهم وتأكيدهم على الرأي ـ الذي يدور في إطار تصحيح ما أفتى به عمر وأبو بكر ـ.. هو الإمام علىّ بن أبي طالب الذي رفض تسلّم الخلافة بالشرط المذكور ـ لكي لا يصحّح بفعله اجتهاداتهما المخالفة في بعض الأحيان للكتاب والسنّة ـ ذلك أنّ قبول هذا الشرط يعني إضفاء الشرعيّة على هذه الفكرة المستحدثة وهو ما لا يريده علي بن ابي طالب ولا يرتضيه.
إنّ رفض علىّ للشرط المذكور، وامتناع ابن عوف تسليم الخلافة له، ليؤكّدان على مخالفة سيرة الشيخين واجتهادهما للكتاب والسنّة; لأنّ إيمان علىّ وفهمه وفقهه ممّا لا يرتاب فيه أحد، بعد أن تواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه أعلم الصحابة وأفقههم وأقضاهم(8) وأنّ الحقّ يدور معه حيثما دار(9). ويوضّح موقف الشورى هذا ارتسام معالم النهجين بوضوح، فأُولئك يدعون عليّاً أو الخليفة الجديد إلى الالتزام والتمسّك بنهج الاجتهاد والرأي، وعلىّ (عليه السلام) ومن سار بسيرته يدعو إلى التمسّك بالتعبّد المحض ـ بكتاب الله وسنّة النبىّ (صلى الله عليه وآله) ـ وإن أُبْعِدَ بسبب موقفه التعبدي عن تسلّم أُمور الخلافة الفعليّة للمسلمين.
**************************
1- الأنعام: 38.
2- النحل: 89.
3- النساء: 82.
4- نهج البلاغة 1: 55 خطبة 18، من كلام له(عليه السلام) في ذم اختلاف العلماء في الفتيا، وشرح النهج 1:288.
5- نهج البلاغة 1: 51 ـ 54، خطبة 17، من كلام له(عليه السلام) في صفة من يتصدى للحكم بين الامة وليس لذلك أهل، وانظر شرح النهج 1: 283.
6- نهج البلاغة 1: 99 ـ 100، خطبة 50 وشرح النهج 3: 240.
7- اللهوف في قتلى الطفوف: 19 ـ 20.
8- إعلام النبوّة للماوردي 1: 174، الإحكام للامدي 4: 244، تفسير القرطبي 15: 162، 164، طبقات الحنفية: 524، مقدمة ابن خلدون: 197، كشف الخفاء 1: 184.
9- انظر المعتمد لأبي الحسين البصري 2: 368، 369 وفيه قوله(صلى الله عليه وآله): اللهم أدر الحق مع علي حيث ما دار، المستصفى للغزالي: 170، المحصول للرازي 6: 181، الغرة المنيفة للغزنوي الحنفي: 51، مجمع الزوائد 7: 235. وقد جاء في تاريخ بغداد 14: 320، بسنده عن ام سلمة قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: علي مع الحق والحق مع علي ولن يفترقا حتى يردا علىَّ الحوض يوم القيامة.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page