وعلى هذا فإنّ الفتاوى الصادرة عن أبي بكر وعمر لا تنحصر بما قاله ابن قيّم الجوزيّة، من أنّها لا تخرج عن ستّة أوجه:
(أحدها: أن يكون سَمِعها من النبىّ (صلى الله عليه وآله).
الثاني: أن يكون سمعها ممّن سمعها منه (صلى الله عليه وآله).
الثالث: أن يكون فَهِمَها من آية من كتاب الله فهماً خَفِيَ علينا.
الرابع: أن يكون قد اتّفق عليها ملؤهم(1)، ولم ينقل إلينا إلاّ قول المفتي بها وحده.
الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة، ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنّا، أو لقرائن حاليّة اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أُمور فهموها على طول الزمان من رؤية النبىّ (صلى الله عليه وآله) ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته، وسماع كلامه والعلم بمقاصده وشهود تنزيل الوحي، ومشاهدة تأويله الفعل، فيكون فَهِم ما لا نفهمه نحن. وعلى التقادير الخمسة تكون فتواه حجّة يجب اتّباعها.
السادس: أن يكون فَهِمَ ما لم يُرِده الرسـول وأخطأ في فهمه، والمراد غير ما فهمه، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجّة. ومعلوم قطعاً أنّ وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظنّ من وقوع احتمال واحد معيّن، هذا ممّا لا يشكّ فيه عاقل...)(2).
والواقع أنّ الأمر ليس على ما ظنّ ابن القيّم بل هو أبعد منه، لأنَّك قد وقفت على فتاواهم ومخالفة بعضها لصريح الكتاب والسنّة، مع علم صاحبها بقيام النصّ في غيره ووضوح ظهوره فيه، ولولا الحمل على الصحّة والتماس العذر لمن سلف، لكانت أقرب إلى التحدِّي منها إلى الاجتهاد!
وبعضها الآخر ـ أي من اجتهادات الشيخين ـ صريح المخالفة للنصوص أيضاً، لكنّها تختلف عن سابقتها، بأنّها صدرت لعدم علم صاحبها بتلكم النصوص الصادرة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وعودته إليها بعد تنبّهه، ومثل هذا القسم ـ عادةً ـ أهون مؤونةً وأقلّ مؤاخذة.
فالاجتهاد لو كان جارياً على وفق ما تقرّر لدى الأعلام من القواعد، للزم أن يكون صاحبه قد أكمل عدّته وانتهى من الفحص عن الدليل الأوّلي، وعاد يائساً من العثور عليه، فأفتى أو حَكَم بعد اليأس.
غير أنّ هذه الفتاوى والمواقف والأحكام لم تكن جارية ـ في نهج الخليفة وكثير من السلف الأوّل ـ على هذا النمط من الاستنباط الدقيق المأمون، بسبب التسرّع في الإفتاء والحكم قبل بذل الجهد للفحص الكافي، أو بسبب التقصير في استيعاب ما ينبغي استيعابه في الموضوع بإهمالهم سؤال العالمِين بالقرآن والتشريع ممّن كانوا بين ظهرانيهم، فإذا شَجَر ما يوجب الفحص والسؤال ولم يبادروا إلى الرجوع إلى هؤلاء العالمِين.. فإنّ هذا يعني، ولا ريب المؤاخذة والتقصير; لقيام الحجّة عليهم بهؤلاء العالمِين كما قال ابن حزم في النصّ الذي أوردناه مِن قبل.
وعلى هذا ففتاوى الأصحاب الصادرة عنهم لا تنحصر فيما حصره ابن القيّم من الصور الستّ، بل هناك احتمالات أُخرى ينبغي أن تضاف إلى احتمالات ابن القيّم، وهي:
الأوّل: أن يكون إفتاؤهما مخالفاً لكلام رسول الله، وقد ذكّرهما الصحابة بهذا فرجعا عمّا أفتيا به، فمن الطبيعىّ أن لا نرى ـ غالباً ـ امتداداً لرأي الخليفة في مثل هذه المسائل قبال سنّة رسول الله في العصور اللاحقة لرجوع الخليفة عمّا كان قد ذهب إليه وتنصَّل عنه.
الثاني: أن يتخالف إفتاؤهما مع حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو الآية القرآنيّة، والصحابة ذكّروهما بذلك لكنهما لم يتراجعا عمّا أفتيا به، ومن هنا نرى وجود أحكام كهذه في الفقه الإسلامىّ، مع ترجيح الفقهاء لرأي الخليفة، والقول بأنّ آراء أُولئك الصحابة كان اجتهاداً منهم لا يمكن نقضه; لحجّيّة اجتهادات الصحابة في الصدر الإسلامىّ الأوّل!
الثالث: أن يفتي الخليفة في مسألة بما هو مخالف لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذِّكر الحكيم مع عدم حضور الصحابة في تلك الواقعة ليوقفوه على ما سمعوه من رسول الله أو ما جاء به الوحي في تلك المسألة. فترى امتداد خطّ الخليفة أقوى ممّا عند الصحابة من مرويّات في هذه المسائل!
الرابع: أن يفتي الخليفة بما يخالف الآية القرآنيّة وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولكنّ الصحابة لم يذكّروه خوفاً من درّته أو مهابةً له، أو لاكتساح هذا الرأي عموم المسلمين وتبنّي أغلبهم له، فنهج الخليفة في مثل هذا القسم هو أقوى ممّا سبقه; لعمل المسلمين به وقد يحدُث أن نقف بين الحين والآخر على نصوص من الصحابة أو التابعين تخالف رأي الخليفة، لكنّها أضعف ممّا سبقها!
الخامس: أن يكون ما أفتى به اجتهاداً منه، صدر عن مصلحة ارتضاها بمفرده، أو للرأي العامّ! لأنّه فيما يقول أعرف بها من سائر الصحابة. مع أنّه لم تكن تلك المصلحة بالمنزلة التي تَصوّرها الخليفة فيكون الحكم خاطئاً تبعاً للخطأ في تشخيص المصلحة، إلاّ أنّ أحداً لم ينتبه أو ينبّه على ذلك فسرى الحكم عامّاً شاملاً في كلّ العصور!
وهذه الاحتمالات التي نساها أو تناساها ابن القيم لها شواهد تاريخية كثيرة قد عرضنا لك بعضها فيما سبق.
**************************
1- أي جميعهم.
2- إعلام الموقعين 4: 148.
وقفة عند رأي ابن قيّم الجوزيّة
- الزيارات: 215