• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

حسبنا كتاب الله

فاتّضح إذن أنّ الاجتهاد قِبالَ النصّ قد مُورِسَ في عهد النبىّ (صلى الله عليه وآله) ـ رغم نهيه عنه ـ والعصر الإسلامىّ الأوّل، وفي نفس الظرف أُطلِقَ القول ب (حسبُنا كتاب الله) و(بيننا وبينكم كتاب الله)، مع وقوفنا على نهي رسول الله عنه!!
لكنّ بين الصحابة من كان لا يرتضي تلك النبرة الغريبة الُمحْدَثة، منهم: علىّ بن أبي طالب، الذي أوصى ابن عبّاس عندما أراد حِجاج الخوارج بقوله: لا تُخاصِمْهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاجِجْهم بالسنّة; فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً(1).
أوصاه بهذا لأنّ المعروف عن الخوارج تمسّكهم الأعمى بظواهر نصوص الكتاب، وقد جرّ أُسلوبهم هذا الويلاتِ على المسلمين، فكان من العقل والتدبير أن يحتجّ عليهم بسيرة النبىّ وأفعاله التي لا يختلف فيها اثنان دون ما يُختلف فيه لئلاّ يقعوا في نفس مشكلة فهمهم الخاطىِ للكتاب، فاحتجّ عليهم بعمل النبىّ (صلى الله عليه وآله) حينما أوعز بمحو وصفه ب (رسول الله) في كتاب صلح الحديبيّة، فلم يبق مجال لاعتراض الخوارج على محو علىّ بن أبي طالب وصفَه ب (أمير المؤمنين) في كتاب الصلح مع معاوية(2)، وهذا الأسلوب هو الأنجح والأنسب في التعامل مع الخوارج.
نعم، إنّ القرآن والسنّة يكمل أحدهما الآخر، فلا يمكن الاكتفاء بالقرآن دون السنّة، وكذا العكس. وليس هناك أدنى تعارض بين هذين الأصلين، وإنَّ الذهاب إلى أحدهما دون الآخر ليس بصحيح.
قال ابن حزم في الإحكام: لا تعارض بين شي من نصوص القرآن ونصوص كلام النبىّ (صلى الله عليه وآله) وما نُقل من أفعاله، فقال سبحانه مُخبراً عن رسوله:
{ وما يَنْطقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى }(3) وقوله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكْمْ فِي رَسُول اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(4) وقوله: { وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غيرِ اللهِ لَوَجدُوا فيهِ اختلافاً كثيراً}(5)، فأخبر عزّ وجلّ أنّ كلام نبيّه وحي من عنده، كالقرآن في أنّه وحي(6).
والخليفة أبو بكر لمّا قال ـ بعد وفاة رسول الله ـ كما في مرسلة ابن أبي مليكة المارّة الذكر: (بيننا وبينكم كتاب الله) أراد بقوله الاكتفاء بالقرآن، وقد سبقه إلى هذا الرأي عمر بن الخطّاب عند مرض الرسول عندما قال (حسبنا كتاب الله). وقد احتجّت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ابي بكر بالقرآن وحده في نزاعها معه في فدك إلزاماً له بما ألزم به نفسه حين قال: (حسبنا كتاب الله) فاستدلّت على أحقّيّتها بعموم آيات الإرث والآيات الدالّة على أنّ الأنبياء يورِّثُون ويُورثون، فاستدلّ هو بقوله (صلى الله عليه وآله): (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)، فاستدلّ بالسنّة المُدَّعاة بعد أن قال حسبنا كتاب الله، وهذا تهافت واضح.
فماذا كانوا يعنون بكلامهم هذا وهم أقرب المسلمين زمناً للتشريع؟
أكانوا يريدون ما أراده الخوارج لاحقاً من الاستعانة بالقرآن في فهم جميع الأمور والتشاغل به عن السنّة، أم كانوا يرجون غير ذلك؟
إنّ الدعوة إلى الأخذ بالقرآن ووضع السنّة جانباً ـ مع تصريح الرسول في حديث الأريكة بأنّ كلامه كلام الله، وهو المبيّن لأحكام الله ـ ثمّ إحلال اجتهاداتهم محل السنّة ما هو إلاّ قرار سياسىّ اتُّخذ لتصحيح ما يذهب إليه الشيخان، إذ لا يخفى على أبي بكر وعمر أنّ الأحكام بأسرها لا يمكن استقاؤها من القرآن وحده، وقد جاء في كلام عمران بن الحصين ـ مجيباً من قال: تحدّث بالقرآن واترك السنّةـ:
أرأيتَ لو ُوكلْتَ أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنتَ تجد فيه صلاة العصر أربعاً، وصلاة الظهر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والصبح تقرأ في اثنتين؟ وأكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بالصفا والمروة؟(7)
فلا يعقل إذن أن تخفى مثل هذه القضايا على أبي بكر وعمر، وإذا كانت غير خافية عليهما فَلِمَ يَدْعُوان إلى الاكتفاء بالقرآن ويقولان بـ(حسبنا كتاب الله)؟!
بهذا يتأكّد لنا أنَّ المحظور من الروايات هو ما لا يعرفه الخليفة، وما يُسبّب له مشاكل محرجة. وأمّا الأحاديث المعروفة التي تناقلها المسلمون وعرفوها والتي لا تخفى على الخليفة كما لا تخفى على غيره فلا تخوُّف منها ولا نهي عن تناقلها إن لم تمسّ أصل مشروعية الخلافة.
إنّ في كلام أبي بكر: (والناس بعدهم أشدّ اختلافاً) ما يكشف عن أنّ المسلمين ستختلف اتّجاهاتهم فيما بعد; لأخذِ كلّ واحد منهم برأي صحابىّ. ويعضد كلامَ أبي بكر ما جاء عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّ أُمّته مختلفة من بعده.
ولا ريب أنّ اختلاف نُقول هؤلاء الصحابة سيعارض اجتهادات الشيخين.
إنَّ تشريع سنّة الشيخين بإزاء سنّة رسول الله أو الارتقاء بها إلى سنّة رسول الله، ثمّ تعبّد الخلفاء بها من بعدهم جاعلين منها منهاج حياة ودستور دولة.. ما هو إلاّ تعبير عن المصلحة التي دعا إليها الخليفة، والمفتاح الذي يفتح به كلّ مشكل!
لأنّك قد عرفت أنّ الخليفة قد تخوّف من المحدِّثين، وحدّد نشاطهم ـ بالفعل ـ وأمرهم بالإقلال من الحديث. وقد حدّ من تحديثهم عن رسول الله، وعلّل حبسه لهم بقوله: (أكثرتُم الحديثَ عن رسول الله)، وقوله: (أفشيتم الحديث عن رسول الله).
فالإفشاء والإكثار كان يؤذي الخليفتين; لأنّه يؤدّي إلى تعارض ما نُقِل عنه (صلى الله عليه وآله) مع نُقول الشيخين واجتهاداتهما، فكان عليهما ـ والحالة هذه ـ أن يَدْعُوا للأخذ بالقرآن أوّلاً، لا اعتقاداً منهما بكونه كافياً في معرفة الأحكام; فهما ـ حينما أرجعا الناس إلى القرآن ـ كانا يعلمان حقّ العلم أن القرآن محتاج إلى السنّة وأنّ رسول الله مكلّف بتبيين الأحكام للناس في قوله تعالى {لتُبيِّن للناس ما نزل اليهم}(8)، لكنّ إبعادهما الناس عن السنّة المطهّرة والدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن إنّما يمكّن لهما رسم البديل الذي هو اجتهاداتهما وأن يُصار إلى الاعتقاد بأنّهما أعلم من غيرهم: يؤخَذُ منهما ويردّ عليهما!
لذا نجد بين الصحابة من لا يرتضي العمل باجتهادات الشيخين، لأنّه عرف أنّ الكتاب والسنّة هما الأصلان الرئيسيّان في التشريع لا الاجتهاد بالرأي. ولو كان قد ورد في اجتهاد الشيخين نصّ خاصّ لسمعوه وتلقّوه، ولَمَا قالوا: أسنّة عمر نتّبع أم سنّة رسول الله؟!(9)
أو قولهم: أراهم سيهلكون، أقول: قال رسول الله، ويقولون: نهى أبو بكر وعمر(10).
ومن الطريف ونحن ندرس الحوادث أن نرى في سجلّ أصحاب الرأي والاجتهاد; ـ ذرّاً للرماد في العيون وخلطاً للحابل بالنابل ـ أسماءً لرجال أمثال ابن مسعود ومعاذ وابن عبّاس وغيرهم من أصحاب المدوّنات المتعبّدين نُسبت إليهم نصوص من البعيد أن تكون ممّا وقع فعلاً في التاريخ، بعد غضّ النظر عن سندها، لِما عرفنا من ملابسات الأمور وحاجة أنصار الخليفة إلى مثلها. ولو درسنا هذه القضايا بروح علميّة لوقفنا فيها على كثير من المؤاخذات والاضطرابات.
هذا وقد أكّد ابن حزم وغيره من أعلام العامّة أنّ حديث معاذ في الاجتهاد موضوع.
فقال ابن حزم ضمن كلامه: وبرهانُ وضعِ هذا الخبر وبطلانه هو أنّ من الباطل الممتنع أن يقول رسول اللهُ: فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنّة نبيّه، وهو يسمع قول ربّه {واتّبِعُوا أحسنَ ما أُنزل إليكُم مِن ربّكُم}(11)، وقوله: {اليوم أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(12) وقوله: {ومَن يَتَعدَّ حُدودَ اللهِ فقد ظَلَمَ نَفْسَه}(13) ـ مع الثابت عنه(صلى الله عليه وآله) من تحريم القول بالرأي في الدين(14).
إن دراسة مثل هذه القضايا في الشريعة ستحلّق بالباحث للنظر في أُمور الشريعة من أُفق أوسع وزاوية علميّة أجدر، مؤكّداً بأنَّ عليه لزوم التجرّد عمّا يحمله من عواطف وأحاسيس، وليكن حرّاً في تفكيره وعقله وأن يدرس النصوص مع ملابساتها كما هي، وأن لا تسيّره الأهواء والعواطف، ثمّ فلينظر أحقاً أنّ رسول الله قد جوّز القول بالرأي وهو بين ظَهراني الأمّة، أم أنَّ المراد هو سماحه العمل طبق النصوص الصحيحة الموجودة عند الصحابىّ من الكتاب والسنّة لا الاجتهاد وفق الظنّ والتخمين؟ وإلى غيرها من الأسئلة.
نماذج من امتداد النهجين
**************************
1- نهج البلاغة 3: 136، الخطبة 77، من وصية له(عليه السلام) لعبد الله بن عباس، شرح النهج 18: 71، مفتاح الجنّة 1: 59.
2- مصنف عبد الرزاق 10: 158، سنن النسائي 5: 166، ح 8575، المعجم الكبير 10: 257، ح 10598، المستدرك على الصحيحين 2: 164، ح 2656، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، حلية الاولياء 1: 319، الاحاديث المختارة 10: 414.
3- النجم: 3 ـ 4.
4- الأحزاب: 21.
5- النساء: 82.
6- الإحكام في أُصول الأحكام 2: 170.
7- الكفاية في علم الرواية 1: 15 وجاء في الكافي للكليني 1: 286 عن الإمام الصادق قوله: ان رسول الله نزلت عليه الصلاة ولم يُسم لهم ثلاثاً ولا اربعاً، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر لهم ذلك.
8- النحل: 44.
9- مسند أحمد 1: 420، ح 7500، مثله، وانظر سنن الترمذي 3: 185، ح 824، شرح معاني الاثار 2: 231، وفيه قول ام المؤمنين عائشة: فسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) أحق ان يؤخذ بها من سنة عمر، الفروع 3: 224، شرح سنن ابن ماجة: 214، ح 2978.
10- حجة الوداع: 353، ح 392، سير أعلام النبلاء 15: 243، تذكرة الحفاظ 3: 837، الاحاديث المختارة 10: 331، ح 357.
11- الزمر: 55.
12- المائدة: 3.
13- الطلاق: 1.
14- الإحكام في أصول الاحكام 6: 208، الباب (35) في الاستحسان والاستنباط بالرأي.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page