لابدّ هنا من الإشارة إلى ما وصل إليه أمر الأمّة في العصور اللاحقة.
قالت الدكتورة نادية العمرىّ في كتابها الاجتهاد في الإسلام: (وممّا ثبت أنّ المتأخّرين من الفقهاء قد غيّروا كثيراً من الأحكام التي نُقلت عن أئمّتهم حين دعت الحاجة إلى التغيير، كما فعل الشافعىّ من قبل حينما انتقل إلى مصر وترك العراق والحجاز; فقد غيّر من مذهبه القديم إلى الجديد، وأملى كتابه الأمّ والرسالة، وكما فعل ابن القيّم الجوزيّة)(1).
وقال الدكتور تركي: (أمّا فيما يتعلّق بالاستحسان ـ الذي هو طريقة للهرب من القياس لأسباب من التقدير الشخصىّ ـ فقد ظهر في القرن الثالث للهجرة، على ما ذكره ابن حزم)(2).
وقال الوافي المهدي: (وفي هذا الدور (أي زمن تأسيس المذاهب) تأثّر التشريع الإسلامىّ بالعرف، فأصبح الكثير من الفقهاء يعتبرونه مخصِّصاً للنصّ. ومن ذلك
تخصيص البعض منهم منع بيع الإنسان ما ليس عنده الوارد فيه المنع بالاستصناع، وهو: أن يتفق شخص مع آخر على صنع شي يوضّحه بالوصف ويقدّر له الثمن، فقد أُجيز هذا العقد مع أنّه من قبيل بيع ما ليس عند الإنسان)(3).
وجاء عن الأستاذ رشيد رضا قوله: (من المجازفة في القياس والجرأة على الله القول بنسخ مئات الآيات، وإبطال اليقين بالظنّ وترجيح الاجتهاد على النصّ ـ ثمّ ذكر كلام الشافعىّ الذي ربّما قاله بنفسه ـ: (إنّ القياس لا يصار إليه إلاّ عند الضرورة كأكل الميتة).
وقال الباحث المصرىّ شفيق شحاته: (إنّ ترقية القياس إلى درجة أن يكون مصدراً للشريعة يجب أن تُعزى إلى أسباب تاريخيّة خالصة)(4).
ومن المؤسف أن اختم كلامي بنص لبعض المتطرفين وهو الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين إذ يقول: ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ولو وافق قولَ الصحابة، والحديث الصحيح، والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضالٌّ مضلٌّ، وربّما أدّاه ذلك للكفر، لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر(5).
وهذا يخالف قول روساء المذاهب الاربعة انفسهم الذين لم يجيزو الناس الاخذ باقوالهم لو خالفت الآية والحديث الصحيح، واعتبرو العمل باي مذهب من المذاهب متروك للناس.
كانت هذه خلاصة لتاريخ التشريع الإسلامىّ وملابسات الفقه، ذكرناها ليكون القارىُ على بصيرة من أمره، وليتعرّف على بعض الأصول التي أُوجِدت في الصدر الأوّل الإسلامىّ وجذور الاختلاف بين المسلمين، وكيف أصبحت شريعة الفقهاء من اهل الرأى تجوّز التعدّديّة في الرأي، مع علمنا أنّ الله واحد، ورسوله واحد، وكتابه واحد، وهو سبحانه يدعونا إلى الوحدة في الفقه والعقيدة، ويحذّرنا الاختلاف والفرقة، وقد أكّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونص على أنّ الفرقة الناجية من أُمّته هي واحدة، لا غير.
**************************
1- الاجتهاد في الإسلام: 104 ط 1 مؤسّسة الرسالة 1401هـ ـ بيروت.
2- مناظرات في الشريعة الإسلاميّة بين ابن حزم والباجي: 333.
3- الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: 208.
4- مناظرات في أُصول الشريعة بين ابن حزم والباجي: 330 عن، Logigue. P.23.
5- حاشية الصاوي على تفسير الجلالين 3: 10 ط دار احياء التراث العربي، وقد رد الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي القاضي الأول بالمحكمة الشرعية بدولة قطر على كلام الصاوي في كتاب أسماه (تنزيه السنة والقرآن عن كونهما مصدر الضلال والكفران) هذا ما قاله العلاّمة الخليلي مفتي سلطنة عمان في كتابه الحق الدامغ: 10.
تطوّرات وتغييرات
- الزيارات: 214