لكنه سبحانه بفضله وجوده الواسعين وسع على الإنسان دائرة الانتفاع بالأعمال بحيث شمل الانتفاع بعد الموت بالأعمال التي تتحقق بعد الموت. وهي على نوعين: الأول: ما إذا قام الإنسان بعمل مباشرة في زمانه ومات ولكن بقي العمل يستفيد منه الناس كصدقة جارية أجراها، أو إذا ترك علما ينتفع به، ويقرب منه ما إذا ربى ولداصالحا يدعو له، فهو ينتفع بصدقاته وعلومه، لأنها أعمال مباشرة باقية بعد موته وليست كسائر أعماله المباشرية الفانية بفنائه الزائلة بموته، فالجسر الذي بناه، والنهر الذي أجراه، والمدرسة التي شيدها والطريق الذي عبده، إنما تحقق بسعيه، فهو ينتفع به.
وقد وردت في هذا المجال روايات كثيرة، قام بنقل بعضها ابن القيم في المسألة السادسة في كتاب له باسم الروح قال: وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شيء البتة لا بدعاء ولا غيره، ثم قال: والدليل على انتفاعه بما تسبب إليه في حياته ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث:صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدصالح يدعو له فاستثناء هذه الثلاث من عمله يدل على أنها منه فإنه هو الذي تسبب إليها.
وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، أو ولداصالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أوصدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته. وفي صحيح مسلم أيضا من حديث جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء .
وهذا المعنى روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عدة وجوه صحاح وحسان. وفي المسند عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمسك القوم، ثم إن رجلا أعطاه فأعطى القوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من سن خيرا فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، ومن سن شرا فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا .
وقد دل على هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل فإذا كان هذا في العذاب والعقاب ففي الفضل والثواب أولى وأحرى (1). ويؤيده ما ورد في شأن صلاة الجماعة حيث تفضل بسبع وعشرين درجة أو خمس وعشرين درجة على صلاة بغير جماعة (2).
فكيف ينتفع المصلون بعضهم ببعض وكلما زاد المصلون ازدادوا انتفاعا. الثاني: فيما إذا لم يكن للميت في العمل سعي ولا تثويب فهل يصل ثواب عمل الغير إليه؟ الظاهر من الكتاب والسنة هو أنه سبحانه بعميم فضله وواسع جوده يوصل ثواب عمل الغير إلى الميت، فيما إذا قام الغير بعمل صالح نيابة عن الميت، وبعث ثوابه إليه، ويدل على ذلك لفيف من الآيات وطائفة كبيرة من الأحاديث والأخبار.
**************************************
(1) ابن القيم تلميذ ابن تيمية (م 750): كتاب الروح، المسألة السادسة عشرة، ونقلها برمتها محمد الفقي من علماء الأزهر في كتابه التوسل والزيارة: 226 - 227. (2) صحيح مسلم 2: 128، باب فضل صلاة الجماعة.
انتفاع الإنسان بعمله وبعمل غيره
- الزيارات: 250