• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

لا بدَّ من تحديد نظام الحكم عند الشيعة والسُّنَّة

 نعم هنا أمر يحسن التنبيه له، وهو أنَّ المقارنة بين مذهب الشيعة في الإمامة ومذهب السُّنَّة فيها لا ينبغي أن تعرض علىٰ أساس المقارنة في استحقاق الإمامة بين شخصين أو أشخاص محدودين، كالإمام علي عليه السلام وأبي بكر، أو أهل البيت صلوات الله عليهم في جانب، والصحابة أو المهاجرين أو قريش عموماً في جانب.
لأنَّ الإسلام هو الدين الخاتم للأديان والباقي في الأرض ما بقيت الدنيا، والمفروض أن يكون هو الحاكم في الأرض ما بقي وبقيت، فلا بدَّ في تشريع الإسلام لنظام الحكم من أن يكون النظام الذي شرعه صالحاً لحكم الأرض باستمرار، ولا يختصّ بأفراد أو جماعة مخصوصين، وينتهي بانتهائهم.
وعلىٰ ذلك لا بدَّ من عرض المقارنة بين مذهب الشيعة في الإمامة ومذهب السُّنَّة فيها علىٰ أساس المقارنة بين نظامين صالحين لتنفيذ التشريع الإسلامي في الأرض باستمرار، ما دام فيها إنسان يريد الله تعالىٰ منه أن يكون مسلماً.
وبعد تعيين نظام الحكم في الإسلام، وإقامة الأدلَّة الشرعية عليه، يكتسب الحاكم علىٰ أساسه شرعية الحكم والإمامة، ويفقد الخارج عنه الشرعية مهما كان شأنه، وإلىٰ ذلك يرجع قول أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: (اعرف الحقّ تعرف أهله).(١٦٠)
أمَّا مع عدم تعيين نظام الحكم المشرع في الإسلام فلا معنىٰ للحديث عن شرعية حكم الحاكم وإمامته، وعدم شرعية غيره، مهما كان شأنهما.
وبعد ذلك نقول: نظام الحكم في الإسلام عند الشيعة يبتني علىٰ أنَّ تعيين الإمام إنَّما يكون بجعل من الله تعالىٰ، من دون حاجة إلىٰ مشاورة أحد أو بيعته أو إقراره، وأنَّ الله جلَّ شأنه لا بدَّ أن يُعرِّف الناس بشخص الإمام الذي جعله بحجَّة كافية واضحة، من طريق نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الناطق عنه والمبلِّغ لشريعته، أو من طريق الإمام المنصوب من قِبَل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لأنَّ ذلك الإمام ينطق عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والنبيّ ينطق عن الله تعالىٰ.
وعلىٰ ذلك يذهب الشيعة إلىٰ أنَّ الأئمّة الذين جعلهم الله سبحانه وتعالىٰ بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتمَّ تبليغه بهم، هم اثنا عشر، وأنَّهم من أهل بيته، وأنَّ أوَّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، ثمّ الحسن السبط الزكي عليه السلام، ثمّ الحسين السبط الشهيد عليه السلام، ثمّ تسعة من ولد الحسين متعاقبين ولداً عن والد، تاسعهم قائمهم، وهو الإمام محمّد بن الحسن المهدي الغائب المنتظر عجَّل الله تعالىٰ فرجه، وهم وحدهم يملكون شرعية الإمامة والخلافة، دون غيرهم مهما بلغ شأنهم.
وللشيعة علىٰ ذلك أدلَّتهم التي عوَّلوا عليها، والتي يحتجّون بها، ويحاولون إقناع غيرهم بمؤدّاها.
أمَّا مذهب السُّنَّة في الإمامة فلا يخلو عن غموض، ولا يتيسر لنا تحديده، ليكون طرفاً في المقارنة مع مذهب الشيعة فيها، كما يشهد بذلك النظر إلىٰ واقع خلافتهم، وما فرضوه علىٰ أنفسهم من شرعية كلّ ما حصل. غير أنَّه ربَّما يحاول بعضهم دعوىٰ ابتناء نظام الخلافة عندهم علىٰ اختيار الأُمَّة، ولو تمَّ ذلك فهو لا يصلح لأن يكون نظاماً متكاملاً إلَّا بعد أن يُحدَّد فيه بصورة دقيقة:
أوَّلاً: من له حقّ الترشيح للإمامة والخلافة من حيثية النسب، والسنّ، والمقام الديني والاجتماعي، وغير ذلك.
وثانياً: متىٰ تسقط أهلية الشخص المنتخب للخلافة؟ والأسباب التي تقضي بانعزاله منها، كالجور في الحكم، أو مطلق الفسق، والخَرَفِ أو المرض، والعجز المطلق أو الضعف، وغير ذلك. مع تحديد ذلك بدقَّة رافعة للاختلاف، تجنّباً عن مثل ما حصل في أمر عثمان، حيث طلب الذين ثاروا عليه أن يتخلّىٰ عن الخلافة، لعدم أهليته، وامتنع هو من ذلك، لدعوىٰ أنَّه لا ينزع عنه لباساً ألبسه الله تعالىٰ إيّاه. وكما وقع بعد ذلك في العهد الأُموي والعبّاسي والعثماني.
وثالثاً: من له حقّ الاختيار والانتخاب، من حيثية النسب، والسنّ، والمقام الديني والاجتماعي، والذكورة والأُنوثة، وغير ذلك.
ورابعاً: كيف نحرز الأُمور المذكورة؟ وهي تحقّق شروط الترشيح في الشخص، وتحقّق شروط الانتخاب فيمن يتصدّىٰ له، وبقاء أهلية الخليفة أو سقوطه عنها. وعلىٰ أيّ طريق نعتمد في إثبات هذه الأُمور؟
وخامساً: صلاحيات الإمام والخليفة، إذ بعد أن خالف السُّنَّة الشيعة، فذهبوا إلىٰ عدم عصمة الخليفة، وأنَّه يعمل باجتهاده، لا بعهد من الله تعالىٰ ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بدَّ من تحديد صلاحياته، فإنَّ الواقع العملي للخلفاء عند السُّنَّة في غاية الاختلاف والاضطراب.
ففي الوقت الذي يصر فيه السُّنَّة علىٰ أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يعهد بالخلافة لشخص خاصّ، وأنَّه ترك المسلمين يختارون لأنفسهم، نرىٰ أبا بكر قد عهد بالخلافة لعمر، ثمّ عهد عمر بضوابط اختيار الخليفة بعد أن قصر المرشَّحين لها علىٰ نفر خاصّ، ثمّ بويع أمير المؤمنين عليه السلام بعد عثمان باختيار وجوه المهاجرين والأنصار واندفاع عامّة المسلمين من دون عهد من عثمان، ثمّ بويع الإمام الحسن عليه السلام بنصّ أمير المؤمنين عليه السلام عليه، أو باختيار الناس _ علىٰ الخلاف _ واستغلَّ معاوية خديعة عمرو بن العاص لأبي موسىٰ الأشعري في واقعة التحكيم، ليعلن أنَّه الخليفة الشرعي.
وبعد ذلك كان الغالب ثبوت الخلافة للاحق بنصّ السابق، إلَّا أن تتدخَّل القوَّة، فتفرز خليفة لا نصّ عليه. وربَّما نصَّ السابق علىٰ أكثر من واحد ممَّن بعده علىٰ التعاقب، كما فعله مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان، وغيرهما في جميع دول الإسلام.
كما ربَّما خُلِعَ الخليفة، أو وليّ العهد، وعُيِّنَ غيره بالقوَّة، في تفاصيل يطول شرحها، ذكرها المؤرّخون.
بل ربَّما زاد الأمر علىٰ ذلك، فلم يكتفِ الخليفة بالنصّ علىٰ من بعده، وإنَّما تعدّاه لجعل نصيب في الحكم لفئة من الناس، فقد حاول أبو بكر أن يضعِّف جانب أمير المؤمنين عليه السلام، ويجعل العبّاس بن عبد المطَّلب لجانبه، فعرض عليه أن يجعل له ولولده في الخلافة نصيباً. إلَّا أنَّ العبّاس رفض ذلك، فقال: (وأمَّا ما بذلت لنا فإن يكن حقّك أعطيتناه فأمسكه عليك، وإن يكن حقّ المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه، وإن يكن حقّنا لم نرضَ لك ببعضه دون بعض…).(١٦١)
هذا كلّه في أمر الخلافة، وأمَّا بقيّة أُمور الدين والتشريع فقد تدخَّل الخلفاء فيها، حيث حجر علىٰ السُّنَّة النبوية في عهد أبي بكر وعمر، ومنع الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلَّا في حدود ضيّقة(١٦٢)، وكذلك الحال في عهد معاوية حيث قال: (يا ناس، أقلّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كنتم تتحدَّثون فتحدَّثوا بما كان يتحدَّث به في عهد عمر…).(١٦٣)
وفرض عمر آراءه في الدين علىٰ المسلمين، كتحريم المتعتين: متعة الحجّ ومتعة النساء،(١٦٤) وإمضاء الطلاق الثلاث(١٦٥)، وغير ذلك ممَّا هو مسطور مشهور.(١٦٦)
وكان لاتّجاهات الحكّام الأثر المهمّ في توجيه وجهة الجمهور في الحديث والعقائد والفقه، وقد عرض المنصور العبّاسي علىٰ مالك بن أنس أن يكتب في الفقه كتاباً يحمل الناس عليه.(١٦٧)
وأراد المأمون أن يعلن عن تحليل المتعة لولا أنَّه خاف هياج العامّة، وقد حمل الناس علىٰ القول بخلق القرآن ونفىٰ رؤية الله عز وجل في الآخرة، وروَّج آراء المعتزلة.(١٦٨)
وبقي الأمر علىٰ ذلك، حتَّىٰ غيَّره المتوكّل، وأمر بنشر أحاديث الرؤية، وظهر القول بعدم خلق القرآن، ونشط الاتّجاه المضادّ للمعتزلة.(١٦٩)
وفي سنة أربعمائة وثمان للهجرة استتاب القادر الحنفية والمعتزلة والشيعة وغيرهم من ذوي المقالات المخالفة لمذهبه من مذاهبهم، ونهىٰ عن المناظرة في شيء منها.(١٧٠)
ثمّ انتهىٰ الأمر إلىٰ أن حصر الظاهر بَيْبَرْس(١٧١) القضاء بالمذاهب الأربعة التي عليها مدار فقه السُّنَّة حتَّىٰ اليوم.(١٧٢)
ثمّ جعل العثمانيون المذهب الحنفي هو المذهب الرسمي في الدولة...(١٧٣).
إلىٰ غير ذلك ممَّا لا ضابط له، وكانت المواقف المتناقضة دينياً _ نتيجة ذلك _ تتعاقب علىٰ الجمهور.
ومن المعلوم عدم شرعية ذلك وأنَّ الدين لا يتبدَّل بتبدّل السلطة.
وإنَّما حصل ذلك بسبب عدم تحديد صلاحيات الخليفة، ولا يكمل نظام الخلافة إلَّا بتحديدها، وتحديد ما سبق، كما هو ظاهر.
وحيث لا يتيسر لنا فعلاً معرفة مذهب السُّنَّة في ذلك، فلا بدَّ من إيكاله إليهم.
فإذا تمَّ لهم تحديد ذلك كلّه، وأقاموا عليه الأدلَّة الشرعية حسب قناعاتهم، بحيث يكون هو المعيار عندهم في شرعية ما وقع ويقع من دعوىٰ الإمامة والخلافة، أمكن المقارنة بين نظام الحكم عند الشيعة ونظام الحكم عند السُّنَّة، والموازنة بينهما بلحاظ أدلَّتهما، والنظر في الترجيح بين أدلَّة الشيعة علىٰ النظام الذي يذهبون إليه، وأدلَّة السُّنَّة علىٰ النظام الذي يذهبون إليه، ثمّ الأخذ بالأقوىٰ من الدليلين، والذي يصلح أن يكون حجَّة بين يدي الله تعالىٰ يوم يعرضون عليه (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (النحل: ١١١).
**************************************
 (١٦٠) أمالي الطوسي: ٦٢٦/ ضمن الحديث (١٢٩٢/٥).
(١٦١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١: ٢٢١؛ الإمامة والسياسة ١: ٢١.
(١٦٢) ويبدو أنَّ محاولة التحجير علىٰ السُّنَّة الشريفة وإخفائها وتشييعها بدأت في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حين كثر المعتنقون للإسلام من قريش رغبة أو رهبة، وحين رأوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم باتّجاه لا يخدم مصالحهم الشخصية وأنانيتهم. ولاسيّما مع ما تحمله صدورهم من أحقاد وضغائن، عليه وعلىٰ أهل بيته، وعلىٰ الخلَّص من أصحابه، الذين يتَّبعونه في معايير الحبّ والبغض، والولاء والمباينة.
ففي حديث عبد الله بن عمرو: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أُريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنَّك تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلَّم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أُكتب، فوَالذي نفسي بيده ما خرج منّى إلَّا حقّ). (مسند أحمد ٢: ١٦٢).
وربَّما يكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد عرَّض بهذه المحاولة حينما قال فيما روي عنه: (لا ألفين أحدكم متَّكئاً علىٰ أريكته يأتيه الأمر ممَّا أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى، ما وجدنا في كتاب الله اتَّبعناه). (سنن البيهقي ٧: ٧٦).
وقويت هذه المحاولة حينما نشط الحزب القرشي في مرض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فمُنِعَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كتابة الكتاب الذي أراد أن يعصم به أُمَّته من الضلال، وقال عمر: (حسبنا كتاب الله).
وبدأ التنفيذ العملي لذلك حينما فاز الحزب القرشي بالاستيلاء علىٰ الحكم بعد التحاق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلىٰ.
فقد أحرق أبو بكر خمسمائة حديث كان قد كتبها عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. (تذكرة الحفّاظ ١: ٥). وقد خطب بمنع الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (إنَّكم تحدِّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيه، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً. فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه). (تذكرة الحفّاظ ١: ٢ و٣).
كما أنَّ عمر طلب من الصحابة أن يأتوه بما كانوا قد كتبوه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فظنّوا أنَّه يريد جمع حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن اجتمع عنده ما اجتمع في مدَّة شهر أحرق ذلك كلّه. (طبقات ابن سعد ٥: ١٨٨).
وقد شيَّع عمر قرظة ومن معه لمَّا أرادوا الخروج إلىٰ العراق، فقال لهم: أتدرون لِمَ مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشيت معنا، قال: إنَّكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تبدونهم بالأحاديث، فيشغلونكم، جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وامضوا وأنا شريككم. فلمَّا قدم قرظة قالوا: حدّثنا. قال: نهانا ابن الخطّاب. (مستدرك الحاكم ١: ١٠٢).
وقد حبس بعض الصحابة من أجل أنَّهم أكثروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منهم أبو ذرّ، وعبد الله بن مسعود. (تذكرة الحفّاظ ١: ٧).
وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: (والله ما مات عمر بن الخطّاب حتَّىٰ بعث إلىٰ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم من الآفاق: عبد الله وحذيفة وأبي الدرداء وأبي ذر وعقبة بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق؟ فقالوا: أتنهانا؟ قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن أعلم ما نأخذ ونرد عليكم...). (تاريخ مدينة دمشق ٤٠: ٥٠٠).
وجرى عثمان في ذلك علىٰ سيرة سلفه، فعن محمود بن لبيد، قال: (سمعت عثمان بن عفّان علىٰ منبر يقول: لا يحلُّ لأحد يروي حديثاً لم يُسمَع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر...). (طبقات ابن سعد ٢: ٣٣٦).
فمن القريب أن يكون السبب في التحجير علىٰ السُّنَّة النبوية من قِبَل الأوَّلين، وفي منع عمر كثيراً من أعيان الصحابة عن الخروج من المدينة، هو الحذر من روايتهم النصّ على أمير المؤمنين والأئمّة من ولده (صلوات الله عليهم)، ونشر فضائلهم ومناقبهم في البلاد، وتنبيه المسلمين في أقطار الأرض له، خوفاً من ردود الفعل السيّئة علىٰ السلطة القائمة، وسلب الثقة بشرعيته.
وكان حظّ حديث الغدير الأوفىٰ من ذلك، لأنَّه يمثّل الاتّجاه المعاكس للسلطة، ولطموح قريش، فقلَّما كان يُذكَر، وإذا ذُكِرَ ذُكِرَ عابراً، من دون توضيح وتفصيل يوفيه حقّه، فإنَّ السلطة كانت تدرك أنَّ هوىٰ كثير من الصحابة رضي الله عنهم مع أمير المؤمنين عليه السلام، وأنَّهم يؤمنون بالنصّ عليه، وبأحقّيته وأحقّية أهل البيت عليهم السلام بالأمر، وتعدّي غيرهم عليهم.
(١٦٣) كنز العمّال ١٠: ٢٩١/ ح ٢٩٤٧٣.
(١٦٤) عن مالك بن أنس وغيره، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال عمر: متعتان كانتا علىٰ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحجّ. (الاستذكار لابن عبد البرّ ٥: ٥٠٥).
(١٦٥) عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطّاب في الرجل يطلِّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها، قال: هي ثلاث لا تحلُّ له حتَّىٰ تنكح زوجاً غيره، وكان إذا أُتى به أوجعه. (سنن البيهقي ٧: ٣٣٤).
(١٦٦) منها: أنَّه أبدع صلاة التراويح، فعن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنَّه قال، خرجت مع عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلىٰ المسجد فإذا الناس أوزاع متفرّقون يصلُي الرجل لنفسه، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط.
فقال عمر: إنّي أرىٰ لو جمعت هؤلاء علىٰ قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرىٰ والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه. (صحيح البخاري ٢: ٢٥٢).
ومنها: أنَّه أبدع المسح علىٰ الخفّين، فعن محمّد بن عبيد، قال: حدَّثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن محمّد بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: أتينا عمر نريد أن نسأله عن المسح علىٰ الخفّين، فقام فبال ثمّ توضَّأ ومسح علىٰ خفّيه، فقلنا: إنَّما أتيناك لنسألك عن المسح علىٰ الخفّين، فقال: إنَّما صنعت هذا من أجلكم. (طبقات ابن سعد ٦: ١٢٢).
ومنها: أنَّه أبدع التكتّف وهو في الصلاة من فعل اليهود والنصارىٰ، وحذف البسملة منها، وزاد (آمين) فيها وهي كلمة سريانية يهودية. (الصراط المستقيم ٣: ٢١).
وغير ذلك من بدعه الكثيرة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمَّا بعد فإنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدىٰ هدىٰ محمّد، وشرّ الأُمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة). (صحيح مسلم ٣: ١١)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقبل الله لصاحب بدعة صوماً ولا صلاةً، ولا صدقةً، ولا حجَّاً ولا عمرةً، ولا جهاداً، ولا صرفاً ولا عدلاً، يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين). (سنن ابن ماجة ١: ١٩/ ح ٤٩).
(١٦٧) قال ابن قتيبة الدينوري: (إنَّ مالكاً حجَّ سنة ثلاث وستّين ومائة، ثمّ وافىٰ أبا جعفر بمنىٰ أيّام منىٰ، فذكروا أنَّ مطرفاً أخبرهم - وكان من كبار أصحاب مالك -، قال : قال لي مالك: لمَّا صرت بمنىٰ أتيت السرادقات، فأذنت بنفسي، فأذن لي، ثمّ خرج إليَّ الآذن من عنده فأدخلني.
فقلت للآذن: إذا انتهيت بي إلىٰ القبَّة التي يكون فيها أمير المؤمنين فأعلمني، فمرَّ بي من سرادق إلىٰ سرادق، ومن قبَّة إلىٰ أُخرىٰ، في كلّها أصناف من الرجال بأيديهم السيوف المشهورة، والأجزرة المرفوعة، حتَّىٰ قال لي الآذن: هو في تلك القبَّة.
ثمّ تركني الآذن وتأخَّر عنّي، فمشيت حتَّىٰ انتهيت إلىٰ القبَّة التي هو فيها فإذا هو قد نزل عن مجلسه الذي يكون فيه إلىٰ البساط الذي دونه، وإذا هو قد لبس ثياباً قصدة، لا تشبه ثياب مثله تواضعاً لدخولي عليه، وليس معه في القبَّة إلَّا قائم علىٰ رأسه بسيف صليت، فلمَّا دنوت منه، رحَّب بي وقرَّب.
ثمّ قال: هاهنا إليَّ، فأوميت للجلوس. فقال: هاهنا، فلم يزل يدنيني حتَّىٰ أجلسني إليه، ولصقت ركبتي بركبتيه. ثمّ كان أوَّل ما تكلَّم به أن قال: والله الذي لا إله إلَّا هو يا أبا عبد الله ما أمرت بالذي كان، ولا علمته قبل أن يكون، ولا رضيته إذ بلغني (يعني الضرب).
قال مالك: فحمدت الله تعالى علىٰ كلّ حال، وصلّيت على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ نزَّهته عن الأمر بذلك، والرضا به. ثمّ قال: يا أبا عبد الله، لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، وإنّي إخالك أماناً لهم من عذاب الله وسطوته، ولقد دفع الله بك عنهم وقعة عظيمة، فإنَّهم ما علمت أسرع الناس إلىٰ الفتن، وأضعفهم عنها، قاتلهم الله أنّىٰ يؤفكون، وقد أمرت أن يؤتىٰ بعدوّ الله من المدينة علىٰ قتب، وأمرت بضيق مجلسه، والمبالغة في امتهانه، ولا بدَّ أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه. فقلت له: عافىٰ الله أمير المؤمنين، وأكرم مثواه، قد عفوت عنه، لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ منك. قال أبو جعفر: وأنت فعفىٰ الله عنك ووصلك.
قال مالك: ثمّ فاتحني فيمن مضىٰ من السلف والعلماء، فوجدته أعلم الناس بالناس. ثمّ فاتحني في العلم والفقه، فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه، وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظاً لما روىٰ، واعياً لما سمع، ثمّ قال لي: يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودوّنه، ودوّن منه كتباً، وتجنَّب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عبّاس، وشواذّ ابن مسعود، واقصد إلىٰ أواسط الأُمور، وما اجتمع عليه الأئمّة والصحابة رضي الله عنهم، لنحمل الناس إن شاء الله علىٰ علمك وكتبك، ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها، ولا يقضوا بسواها.
فقلت له: أصلح الله الأمير، إنَّ أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في عملهم رأينا.
فقال أبو جعفر: يُحمَلون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طيّ ظهورهم بالسياط، فتعجَّل بذلك وضعها، فسيأتيك محمّد المهدي ابني العام القابل إن شاء الله إلىٰ المدينة ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله...). (الإمامة والسياسة ٢: ١٤٩ و١٥٠).
(١٦٨) قال السيّد شرف الدين رحمه الله (وأمر المأمون أيّام خلافته فنودي بتحليل المتعة، فدخل عليه محمّد بن منصور وأبو العيناء فوجداه يستاك ويقول وهو متغيّظ: متعتان كانتا علىٰ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلىٰ عهد أبي بكر وأنا أنهي عنهما، ومن أنت يا جعل حتَّىٰ تنهىٰ عمَّا فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر. فأراد محمّد بن منصور أن يكلّمه فأومأ إليه أبو العيناء وقال: رجل يقول في عمر بن الخطّاب ما يقول نكلّمه نحن؟ فلم يكلّماه، ودخل عليه يحيىٰ بن أكثم فخوَّفه من الفتنة وذكر له أنَّ الناس يرونه قد أحدث في الإسلام بسبب هذا النداء حدثاً عظيماً، لا ترتضيه الخاصّة ولا تصبر عليه العامّة، إذ لا فرق عندهم بين النداء بإباحة المتعة والنداء بإباحة الزنىٰ، ولم يزل به حتَّىٰ صرف عزيمته احتياطاً علىٰ ملكه وإشفاقاً علىٰ نفسه). (الفصول المهمّة: ٨١). وراجع: وفيات الأعيان ٦: ١٥١.
وقال الذهبي: (وفيها - أي سنة اثنتي عشرة ومائتين - أظهر المأمون القول بخلق القرآن، مضافاً إلىٰ تفضيل علي على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فاشمأزت النفوس منه). (تاريخ الإسلام ١٥: ٨).
وقال القلقشندي: (وكانت مقاصد المأمون كلّها جميلة خلا ما نحا إليه من القول بخلق القرآن، والتشيّع، وبثّ علوم الفلاسفة بين المسلمين). (مآثر الإنافة ١: ٢١٣).
(١٦٩) قال الذهبي: (وفي سنة (٢٣٤) أظهر المتوكّل السُّنَّة، وزجر عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك إلىٰ الأمصار، واستقدم المحدِّثين إلىٰ سامراء، وأجزل صلاتهم، ورووا أحاديث الرؤية والصفات). (سير أعلام النبلاء ١٢: ٣٤).
(١٧٠) قال ابن الجوزي: (أخبرنا سعد الله بن علي البزّاز، أخبرنا أبو بكر الطريثيثي، أخبرنا هبة الله بن الحسن الطبري، قال: وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر بالله أمير المؤمنين فقهاء المعتزلة الحنفية، فأظهروا الرجوع، وتبرَّؤا من الاعتزال، ثمّ نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذ خطوطهم بذلك، وأنَّهم متىٰ خالفوه حلَّ بهم من النكال والعقوبة ما يتَّعظ به أمثالهم، وامتثل يمين الدولة وأمين الملَّة أبو القاسم محمود أمر أمير المؤمنين، واستنَّ بسننه في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبّهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم علىٰ منابر المسلمين، وإيعاد كلّ طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم، وصار ذلك سُنَّة في الإسلام). (المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك ١٥: ١٢٥ و١٢٦).
(١٧١) هو بَيْبَرْس العلائي البندقداري الصالحي، ركن الدين، الملك الظاهر، صاحب الفتوحات والأخبار والآثار، مولده بأرض القپچاق، وأُسر فبيع في سيواس، ثمّ نُقِلَ إلىٰ حلب، ومنها إلىٰ القاهرة، فاشتراه الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار، وبقي عنده، فلمَّا قبض عليه الملك الصالح نجم الدين أيّوب أخذ بَيْبَرْس فجعله في خاصّة خدمه، ثمّ أعتقه.
ولم تزل همَّته تصعد به حتَّىٰ كان أتابك العساكر بمصر في أيّام الملك المظفَّر قطز، وقاتل معه التتار في فلسطين، ثمّ اتَّفق مع أُمراء الجيش علىٰ قتل قطز، فقتلوه، وتولّىٰ بَيْبَرْس سلطنة مصر والشام سنة (٦٥٨هـ)، وتلقَّب بالملك القاهر أبي الفتوحات، ثمّ ترك هذا اللقب وتلقَّب بالملك الظاهر...، توفّي في دمشق، ومرقده فيها معروف، أُقيمت حوله المكتبة الظاهرية. (أُنظر: الأعلام ٢: ٧٩).
(١٧٢) قال المقريزي: (فلمَّا كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولّىٰ بمصر أربعة قضاة، وهم شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي، فاستمرَّ ذلك من سنة (٦٦٥) حتَّىٰ لم يبقَ في مجموع أمصار الإسلام مذهب يُعرَف من مذاهب الإسلام سوىٰ هذه المذاهب الأربعة. وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام. وعودي من تمذهب بغيرها، وأُنكر عليه ولم يولّ قاضٍ ولا قبلت شهادة أحد ولا قدّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلّداً لأحد هذه المذاهب، وأفتىٰ فقهاء الأمصار في طول هذه المدَّة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها). (أُنظر: وضوء النبيّ لعلي الشهرستاني ١: ٤٥٢، عن الخطط المقريزية ٣: ٢٣٢ - ٢٣٥).
(١٧٣) راجع: تاريخ المذاهب الإسلاميّة لأبي زهرة: ٤٤٩.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page