• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

المطلب الثاني: المنقذ في الديانة النصرانية:

 لم تختلف الديانة النصرانية عن باقي الديانات السماوية الكبرى (اليهودية - الإسلامية) في اعتقادها بوجود المنقذ ومجيئه وظهوره وإنقاذه وتخليصه للمؤمنين من الهوان والجور، لكن الاختلاف في الديانة النصرانية عن باقي الديانات جاء في شخص المنقذ (المسيا أو المخلِّص)، فقد اعتقد النصارى أنَّ النبي عيسى (عليه السلام) هو المسيح المنتظر الذي سيخرج لإنقاذهم وتخليصهم من واقعهم المرير، كما جاء في العهد الجديد، مخالفاً لليهود الذين اعتبروا يسوع النبي (عليه السلام) كاذباً، لأنَّ وصف الماشيح المذكور في الكتاب المقدَّس لا ينطبق على عيسى (عليه السلام)، فالعهد القديم يحدِّد منقذاً آخر بصفات أخرى.
وحسب رأيي آمن اليهود بأنَّهم شعب الله المختار وشريعتهم آخر الشرائع، لذا أنكروا كل شريعة أو دين جاء بعد شريعتهم، وهذا هو جوهر نظرتهم تجاه النصرانية ولكن بعد محاولة تحرُّرهم من الإرث الديني المتعصِّب والتقارب الديني مع النصرانية من أجل كسب دعمهم لجانبهم وتحقيق آمالهم الموعودة، لذا اعتبر اليهود نبي الله عيسى بن مريم (عليهما السلام)، هو نبيٌ مرسلٌ لأجل إنقاذ المؤمنين به في مرحلة زمنية محدَّدة، ولكن ليس هو الماسيا والماسيح المنقذ الموعود والنبي المكمل لشريعة موسى (عليه السلام) والذي سيحكم الأرض إلى يوم الدينونة، لذا حاولوا بشتّى الطرق محاربة النصرانية من أجل إقصائها من الهيمنة الدينية وحرمانها من الإرث المشترك وهو كتاب العهد القديم.
أمّا نظرة النصرانية إلى المنقذ فتأتي ضمن النظرة التي ترجمت الإنقاذ والفداء وفق تصوراتها المنغلقة البحتة، حيث نرى ضمن هذه الديانة تصوراً آخر للفداء، فعلى عكس اليهودية التي تنتظر عودة المسايا لأداء دوره الأخير في إنقاذ الشعب اليهودي، نرى أن المسيح المنقذ النصراني إنْ صح القول قد أدّى دوره الإنقاذي عندما افتدى الخليقة بنفسه وجسده وهو على الصليب(٢٤٦). على رأي معتنقي الديانة النصرانية.
فعلى رأيهم - أتباع الديانة النصرانية - أنَّ عيسى (عليه السلام) افتدى الخليقة وطهَّرها من الخطيئة الكبيرة التي سرت في الأجساد وتناقلت إلى الأبناء والأحفاد، ألا وهي خطيئة آدم (عليه السلام) الذي تناول من طعام الشجرة التي قد تمَّ منعه منها، ولكنَّه تناول منها فتحمَّل وِزراً وحمل أولاده من بعده هذا الوِزر الكبير (الخطيئة)(٢٤٧).
ورغم عدم قناعتنا بالأفكار التي وردت في العقائد النصرانية لمخالفتها النصوص القرآنية الصريحة فإنَّ النصرانية تعتقد بأن القطيعة حصلت بين الله والعباد وانقطعت الجسور الممتدة من السماء إلى الأرض، فاحتاجت إلى منقذ يعيد الأواصر بين الرَّب وعباده ويقدِّم دمه على مذبح القرابين ليصلح ما بين الله وعباده ببركة دمه الطاهر. هذا هو ملخَّص نظرية التوبة التي استخلصها (انسيلم اكنتبري ١١٠٩م - ١٠٣٣م)، الذي تكوَّنت نظريته من تجلِّيات الفكرة القائلة بأنَّ خطيئة الإنسان الموجَّهة إلى الله قد ألحقت أفدح الأضرار بنظام العدل وألحقت أشد الآثام بالله(٢٤٨).
والفكرة التي سعت النصرانية لإثباتها تتلخَّص في أنَّ الإساءة (هي بمستوى ذاك الذي نسيء إليه، فمادام الله لا متناهي تغدو الإساءة التي توجِّهها البشرية إليه بالخطيئة ذات عبء غير متناه، فلابدّ إذن من استعادة الحق السليب، لأنَّ الله هو إله النظام والعدل وهو العدل بالذات، ولكن نظراً للإساءة اللامتناهية، بات من الضروري توافر تعويض لا متناهٍ)(٢٤٩).
لذلك هذه الإساءة غير المتناهية في الفكر النصراني تحتاج التوبة وإعادة النظام إلى نصابه واسترجاع الحق الإلهي وإعلان التوبة والرجاء، يحتاج إلى تضحية غير متناهية كعربون الاعتراف والتوبة، وبما أنَّ النصرانية تؤمن بالجانب الإلهي للسيد المسيح (عليه السلام) وأنَّ الله قد تجسَّد فيه وهو ابن الله، إذن هو الإنسان اللامتناهي، هو الإنسان الذي لا تحدُّه الجوانب، فهو المطلق بكل شيء، (لذا تحتَّم عليه أن يموت على الصليب ليمسح الإساءة اللامتناهية التي اقترفت، فيعيد النظام المفوض)(٢٥٠).
ولأنَّ السيد المسيح قد اجتمع فيه الجانب الإنساني مع الجانب الإلهي أي الناسوت(٢٥١) مع اللاهوت(٢٥٢) فهو الإنسان المثالي، لكن هذا لا يجعل منه استثناءً، فكل أولاد آدم (عليه السلام) مشتركون بالخطيئة التي سبَّبها آدم (عليه السلام)، كما ورد في أصول الديانة النصرانية، فكان لابدَّ أن يدفع جزء من هذه الضريبة، (لكن يسوع ببركته ومحبَّته قرَّر أن يدفع الضريبة كلَّها مهما كلَّفه دمه، وبالتالي فقد فدى الناس جميعاً)(٢٥٣).
وبعد هذه التضحية انبعثت الخليقة بطهر جديد، انبعث البشرية الجديدة، كما انبعثت في السابق من آدم (عليه السلام)، لكن – في وقت المسيح - انبعثت من الآدم الجديد الذي فداها بجسده على الصليب الذي انشقَّ جنبه فخرج منه الدم والماء وذلك كناية رمزية عن هذا الاجتماع الغريب بين الطهر والرجس، وتعبيراً يشرح ضرورة التطهير لنيل الخلاص، وهذا ما قدَّمه المسيح النصراني من خلاص وطهر وفداء للبشرية. فالعقيدة المهيمنة على النصرانية الآن هي فكرة. تتلخَّص في أنَّ (رفق الله بالبشر ومحبَّته لهم، وهذا الرفق بهم هو ما حمله على إقالة عثارهم، فأرسل إليهم ابنه الوحيد ليفديهم على الصليب وينتقل بهم من عهد الناموس إلى عهد النعمة)(٢٥٤).
وفي هذا المجال فإن النصرانية تعتقد بأنَّ من أشاع سر الفداء هو (بولس الرسول)(٢٥٥) الذي بدأ حملاته التبشيرية بهذا السِّر، فاجتمع الناس حوله، (علم بولس الناس أنَّ عيسى لم يكن المسيح الموعود ولا زعيم اليهود الموعود فقط، بل إنَّ موته كان تضحية - مثل ممات الضحايا القديمة المقربة إلى الآلهة أيّام الحضارات البدائية - من أجل خلاص البشر)(٢٥٦).
هذا سر الفداء كما تعتقده النصرانية وقد أوردته بطريقة مشتملة على التلخيص والاختصار.
***************
(٢٤٦) جوزيف راتسنجر، مدخل إلى الإيمان المسيحي: ص١٦٨-١٧١.
(٢٤٧) المصدر السابق: ص١٦٩.
(٢٤٨) جوزيف راتسنجر، مدخل إلى الإيمان المسيحي: ص١٧٠.
(٢٤٩) عجيبة، أحمد علي، الخلاص المسيحي ونظرة الإسلام إليه، (القاهرة، ١٤٢٧هـ/ ٢٠٠٦م)، ص٥٦-٥٧.
(٢٥٠) جوزيف راتسنجر، مدخل إلى الإيمان المسيحي، ص١٧٢.
(٢٥١) الناسوت: هو كل ما يخص الإنسان. ينظر.
(٢٥٢) اللاهوت: هو كل ما يخص الذات الإلهية، أي كل ما يرتبط بالله.
(٢٥٣) عجيبة، الخلاص المسيحي ونظرة الإسلام إليه، ص٥٦.
(٢٥٤) جوزيف راتسنجر، مدخل إلى الإيمان المسيحي: ص١٩٦-١٩٩.
(٢٥٥) بولس: وهذا هو اسمه في النصرانية، أمّا في اليهودية فاسمه شاؤول، وقد ولد في تركيا في عائلة يهودية فريسيّة ثم انتقل إلى أورشليم لغرض الدراسة وطلب العلم، ولم يكن من التلاميذ الأوائل للمسيح (عليه السلام) بل كان من المعادين للنصرانية باعتبارها حركة هرطقة خارجة عن الإيمان اليهودي القويم، ولكن بعد أن رأى رؤيا للسيد المسيح بعد صلبه وصعوده إلى السماء، عندها بدأ بالإيمان بالسيد المسيح واعتناق النصرانية ديناً جديداً، وتم تنصيبه في المجمع المسيحي الأوَّل كرسول للأُمم، وسط ترحيب كبير من النصرانيين، وقد عرف في اليهودية بأنَّه مؤمن كبير ومخلِّص وتقي وعابد، ولبولس الدور الكبير في نشر النصرانية، ويعد في الكنائس قديساً نصرانياً بارعاً، وله رسائل لابد على كل مؤمن نصراني قراءتها وتعلمها لأنَّها تشرح الإيمان اللاهوتي النصراني والفلسفة الدينية، وقد تم قتله بحدِّ السيف بين عام (٦٤ و٦٧م) نتيجة لجهوده ونشاطه في نشر النصرانية وله يوم محدَّد للاحتفاء به في الكنائس جميعها. ينظر: المقدسي، الموجز في الأديان: ص١٩٦-١٩٨.
(٢٥٦) حليم، حسب الله عوض، عظمة المخلص وروعة الخلاص، (مصر، دار الأخوة للنشر، ١٤٣٠هـ/٢٠٠٨م)، ص٨١ - ٨٣.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page