بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على خير الأنام نبيِّ الإسلام محمّد وآله السادة العظام.
وبعد.. فقد خلق اللهُ الإنسانَ ونفسه مجبولة على طلب الأشياء والقدرة على تسخيرها والانتفاع منها، فآدم أبو البشر (عليه السلام) حين دلَّه إبليس على شجرة الخُلد وملك لا يَبلى تناول منها، مع أنَّ الله تعالى قد عهد إليه أن لا يقرب منها، ومخالفة ذلك العهد غير ممكنة له إذا لم يجد من نفسه منازعة لما وعدهم به إبليس اللعين وميلاً كبيراً نحوه، والحكمة في خلقة الإنسان مجبولاً على ذلك أنَّه سيكون سبباً للعمران والارتقاء والسعي للاستكشاف، والشارع المقدَّس لم يمنع من ذلك وإنَّما أراد تشذيبه، فوضع له مجموعة محدِّدات عامَّة لئلَّا يجعل البشر منشغلاً بمقتضيات ذلك عن الغاية الأصلية لخلقته، ولئلَّا يتوجَّه بنو النوع إلى الإجحاف بحقِّ الآخرين وإيقاع الظلم عليهم، فيكون سلوك الطريق الذي لا شائبة فيه مرتبطاً باختيار الإنسان وفق ما اقتضته حكمة الله البالغة في خلقه.
وتوالت الأجيال ترث بعضها ليثرى النوع الإنساني فكرياً في جانب النظر، ويتمكَّن من قدرة عالية على تحديد قواعد السلوك العملي. لكن النوازع الجبلّية في خلقته باقية على حالها، لأنَّها مقتضى إنسانيته، وعناصر التكوين في النوع معلولة لله تعالى لا دخالة لنا فيها في الإطار العامِّ.
ولكن هذه النزعات الجبلّية التي يمكن أن تصبح عناصر فاعلة في ارتقاء الفرد والمجتمع لم يستثمرها أكثر أبناء النوع.
﴿وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (يوسف: ١٠٣).
﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ (المؤمنون: ٧٠).
فوُجِّهت دفَّة مركب المسير الحياتي لأكثر الناس نحو ما يرون فيه مصالح ومرادات للنفوس، وحاولوا استثمار كلِّ ما من شأنه أن يوصلهم إلى ما يريدون، بالاحتيال مرَّة، والافتراء والدجل أُخرى، وبالقهر والقوَّة ثالثة، وبالمداراة رابعة، والمقايضة خامسة، وكلُّ شيء عند نسبة كبيرة من أبناء النوع قابل للمقايضة. والإسلام لم يمنع من ذلك، لكنَّه أرشد إلى الصفقات الرابحة وحذَّر من الخاسرة، فقَبِلَ أن يُعبِّر بالبيع والشراء في التعاطي معه وهو ربُّ الأرباب وخالق الناس من تراب، فقال عزَّ من قائل: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الصفّ: ١٠ و١١).
وعبَّر عن فعله بالشراء: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: ١١١).
وغير ذلك.
ووفقاً لذلك تكرَّر في التاريخ استعمال مختلف الطرق الملتوية للوصول إلى المراد، ومن أهمّ الأشياء التي تسعى لها النفوس أن تكون لها سِمة القداسة والرمزية، وسقف الدعاوى لا يمنعه إلَّا المحال الواضح عند الناس، فحين كان يقبل الناس أن يكون الإله بشراً نادى فرعون: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى﴾ (النازعات: ٢٤)، وحين تحرَّكت أطماع أُناس بادِّعاء النبوَّة ادَّعتها أعداد، وحين عظم في نفوس الناس محلَّ الأئمَّة ادَّعى أُناس هذه الحيثية والمنزلة.
وحين تاقت أنفس الناس إلى الإمام الثاني عشر (عليه السلام) ودولة الحقِّ التي ستنشأ على يديه تسارع طلّاب الدنيا في ادِّعاء الانتساب إلى الدائرة المقرَّبة منه، وإنَّما كثر ذلك لأنَّ مجتمعاتنا تولي اهتماماً كبيراً بفرج الله الأعظم ومشروعه الإصلاحي الكبير، وأعان على ذلك انتشار الجهل بالموروث الشرعي وتكالب الدنيا على أتباعه، فتاقت أنفسهم إلى الفرج، وأرادوا أن لا يُحرَموا من أن يُحسَبوا عليه.
وزماننا ليس بدعاً من مقاطع الزمان، ولا الناس فيه مختلفة عن بقيَّة الأزمنة، فحاول أُناس أن يحسبوا أنفسهم على سفن النجاة، بل أرادوا أن يكونوا ملّاحيها، ووجدوا في جهّال الأُمَّة طلبتهم، فدلَّسوا عليهم واستغلّوا ضعف إدراكهم وتوق أنفسهم، فنعقوا مع ناعقين طلبوا الباطل بظاهر الحقِّ، فكان ما كان.
وكلُّ هؤلاء المدَّعين يتعكَّزون على تدليسٍ في بعض الموروث الشرعي وحَرفٍ للكلام عن مواضعه.
ونحن ومن منطلق المسؤولية نحاول أن نقف على بعض ما استندوا إليه لإثبات صحَّة مدَّعياتهم ونقلب أفهامنا فيه، ونشير إلى نقاط الوهن والضعف والتدليس على الناس، ليتذكَّر متذكِّر ويزدجر مزدجر، والله من وراء القصد.
وقد رتَّبته على فصول انصبَّ البحث في الأوَّل منها على مناقشة الاستدلال برواية الوصيَّة على مدَّعي المهدويَّة. والفصل الثاني تناولت فيه بيان عدم إمكان تحديد وقت الظهور والردع الشرعي عن التوقيت. والفصل الثالث استعرضت بإيجاز شديد أمثلة على أدعياء الربوبية والنبوَّة والإمامة. وتعرَّضت في الفصل الرابع أسباب انقياد الأعداد الكبيرة للأدعياء وعدم دلالة كثرة الأتباع على سلامة المنهج وصحَّة المدَّعى. ثمّ ختمت الكتاب بخاتمة تناولت فيها ما ذُكِرَ من وجوه في توجيه روايات شمس غيَّبها السحاب.
ولا يفوتني أن أُقدِّم شكري الجزيل وامتناني للسيِّد محمّد القبانچي مدير مركز الدراسات التخصُّصية في الإمام المهدي (عليه السلام)، والذي سوَّدت هذه الوريقات استجابةً لطلب متكرِّر منه، أسأل الله له دوام التوفيق وحسن العاقبة.
أسأل الله أن يَحْلُلَ عقدة من لساني ليُفقَه قولي في أهمّ ما يستند إليه من ادَّعى أنَّه اليماني والمتمثِّل برواية الوصيَّة، إنَّه خير ناصر ومعين.
الشيخ كاظم القره غولّي
المقدّمة
- الزيارات: 128