أجرى الله تعالى نظامه الكوني على قانون السببية، ولكن هناك بعض الحالات التي تقتضي فيها الحكمة، وربَّما تدعو الضرورة إلى أن تخرق فيها القوانين المألوفة بنحو من الإعجاز، أو ما يكون قريباً منه، ممَّا يُشكِّل خرقاً للنُّظُم المألوفة التي تجري عليها جزئيات هذا الكون، ولكن الأصل هو أن توجد الأشياء بأسبابها المألوفة.
حين يُبعَث نبيٌّ من الأنبياء لا يُكتفى بمجرَّد قول الحقِّ منه، فقول الحقِّ بمجرَّده لا يكفي لإثبات نبوَّته وسفارته عن السماء، وما من سبيل للتحقُّق من ذلك إلَّا أن يأتي بما لا يمكن أن يأتي به بشر بما هو بشر، ولا يكفي أن يأتي بما يعجز عنه الآخرون، فالأبطال الخارقون وأصحاب الأرقام القياسية في مختلف مجالات الرياضة، والمكتشفون الأعاظم لا يكفي لهم ذلك لإثبات أنَّهم أنبياء لو ادَّعوا ذلك، ولا بدَّ من قطع الشكِّ باليقين لتتمَّ الحجَّة على العباد، والدور الحاسم هنا للمعجزة، وقد يسبقها تمهيد من نبيٍّ سابق ثبتت نبوَّته بطريق قطعي، ولكن لا يُستغنى أبداً عن المعجزة وخرق القوانين المعروفة للطبيعة، فإتمام الحجَّة على العباد يتوقَّف عليها في حالات. وفي أُخرى لطف الله تعالى يستدعيها، لأنَّها تُقرِّب الناس من الطاعة والاستجابة لدعوات الأنبياء، ومن هنا لم يقتصر نبيٌّ على معجزة واحدة.
فحين يُوضَع إبراهيم (عليه السلام) في المنجنيق ليُرمى في نار لعظمها لا يتمكَّنون من الاقتراب منها، وكلُّ الأسباب الطبيعية تشير إلى طيِّ صفحة وجود نبيٍّ عظيم، لكن الله ﴿بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ (الطلاق: ٣)، فتتحوَّل أداة الإحراق إلى آلة برد وسلام عليه.
وحين اقتضت الحكمة أن يبعث الله تعالى موسى (عليه السلام) نبيّاً في وقت سُدَّت فيه الطرق الطبيعية لولادته، حيث كان جلاوزة فرعون يُفتِّشون نساء بني إسرائيل عن أيِّ علامة حمل جديد فتُبقَر بطون الأُمَّهات، تدخَّلت يد الغيب في التكوين لتتجاوز النواميس الطبيعية وتُعطِّل القوانين المعروفة منها، فيتوقَّف جسمه عن النموِّ إلى آخر ليلة في بطن أُمِّه، ثمّ يكبر في ساعة، فتلده دون أن يعرف بذلك جلاوزة فرعون، كما نصَّ على ذلك الطبرسي في تفسيره(٥٢).
حين يستدعي فرعون قومه لينال من موسى وقومه وهم شرذمة قليلون، وكانوا له غائظين، تجتمع الآلاف لصيد سهل سمين، وينادي أصحاب موسى (عليه السلام): ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ (الشعراء: ٦١)، حين استندوا في رؤيتهم إلى الأسباب الطبيعية، فيقول موسى (عليه السلام) الذي اعتقد بالغيب واطمأنَّت به نفسه: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء: ٦٢)، تُضرَب القوانين الطبيعية أيضاً، فينفلق الماء حتَّى أصبح كلُّ فرق كالطود العظيم، ليعبر موسى وقومه بسلام، ثمّ تطبق الموجات العظيمة على جيش فرعون، وهو في لحظات إحساسه بأنَّه أقرب ما يكون من التخلُّص من هذا النبيّ العبراني.
حين تقتضي الحكمة أن يُخلَق عيسى (عليه السلام) من غير أبٍ، وتتوقَّف قوانين الطبيعة عن أن تقنع الناس بذلك، ويتوقَّف قبول نبوَّته على دفع التهمة عن أُمِّه، تتدخَّل يد الغيب مرَّة أُخرى لتقطع ألسنة المشكِّكين، فينطق الصبي في يومه الأوَّل: ﴿فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ (مريم: ٢٩ - ٣٣).
فدُفِعَت التهمة بذلك عن أُمِّه، وأُقيمت الحجَّة القاطعة على نبوَّته.
حين يتسلَّل أربعون رجلاً لقتل النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ليضيع دمه بين القبائل، فلا تقدر هاشم أن تأخذ بثأره، وتُعلِن الأسباب الطبيعية عجزها عن أن تُهيِّئ سبيلاً للمراد الإلهي بحفظ النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإعلاء دينه، يقول الغيب كلمته، وتُعطَّل قوانين الطبيعة بقوانين الأمر الإلهي الذي إذا أراد شيئاً يقول له: كن فيكون، وتفعل حاكمية الله ما يلائم المراد الإلهي، فيمرُّ عليهم دون أن يشعروا به، وينثر على رؤوسهم التراب، فتبدأ الهجرة. وحين يكاد يُدركه القوم وهو في الغار بعد أن استعانوا بخبرة متتبِّعي الأثر في الصحراء، يتوقَّف إنجاؤه على خرق قوانين الطبيعة، فتُساق الحمامة لتصنع عشّاً، وتُقيَّض عنكبوت لتصنع بيتاً يسدُّ فوهة الغار، فينصرف عنه أعداؤه وقد كادوا أن يمسكوا به.
حين يحين وقت ولادة الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، والقوم قد جعلوا بيت والده تحت مراقبة شديدة ينتظرون قدومه ليفتكوا به فيقطعوا بذلك هواجس الخوف على ملكهم، وتعجز أسباب الطبيعة عن أن تجد مخرجاً لتلك المشكلة، يكشف الغيب عن مكنون قدرته، ويُعطِّل بعض قوانين الطبيعة بحاكميته عليها، فتنتفي آثار الحمل عن أُمِّه حتَّى على الخواصِّ.
فالسيِّدة حكيمة عمَّة أبيه، والتي أُرسل إليها لتشهد تشرُّف العالم بقدوم مصلحه وناشر راية الهدى ومحطِّم أعلام الضلال، تستغرب من الخبر، مع أنَّ الذي أخبرها إمام زمانها، إذ صدمها أنَّها في ليلة الولادة لا ترى آثار حمل فضلاً عن مقدَّمات ولادة عند أُمِّه.
ولمثل ذلك نقول: إنَّ خرق قوانين الطبيعة تُمثِّل حالة استثناء يُصار إليها عندما تُعلِن قوانين الطبيعة عجزها عن توفير وتحقيق المراد الإلهي، أو أنَّ المعجزة تكون ساندة للأسباب الطبيعية عندما يترتَّب على المعجزة الإلهية أثر لا يكاد يترتَّب بدونها، وأمَّا أن تُترَك المسألة كاملة للغيب دون أن تُحرِّك الأسباب الطبيعية ساكناً مع إمكان الاستفادة منها، فهذا من زخرف القول.
ألم يكن من الممكن أن يُخبَر عن الوصيَّة بخبر تامِّ السند تامِّ الدلالة وهي بهذا المستوى من الأهمّية بزعم مدَّعيها؟ بل ألم يكن متيسَّراً أن تأتي عشرات الروايات في ذلك، ثمّ لو احتاج الأمر إلى تدخُّل يد الغيب في صرف المفترين عن ادِّعائها لتمَّ اللجوء إليه؟
وله أن يقول: إنَّ صرف الناس الذي تحدَّثنا عنه واستعمال المعجزة ليس في إثبات أصل الوصيَّة ليرد ما تقدَّم، بل إنَّ الله قد صرف الناس عن ادِّعائها، وأين هذا من أصل ثبوتها؟
قلنا: الكلام هو الكلام، فهل سُدَّ الطريق عن أن تأتي روايات واضحة دلالة وقويَّة سنداً لتُحدِّد لنا سمات هذا الممهِّد الخلف! الذي يسبق الإمام (عليه السلام) بالتمهيد له ثمّ يخلفه في حكمه، فإذا لم يكن ذلك كافياً استعين بالمعجزة؟
ولكن إذا كان المقصود من الكلام سُذَّج الناس وبسطاءهم، فما الحاجة إلى المنطق والدقَّة العقلية خصوصاً والمنطق على خلاف ما يريده المتكلِّم؟
***************
(٥٢) راجع: تفسير مجمع البيان ٧: ٤١٦.
5 - المعجزة خيار الحالات الاستثنائية
- الزيارات: 152