من النقاط الجديرة بالتوقُّف والمناقشة دعوى أنَّ هذه الرواية عاصمة من الضلال أبداً بنصِّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ يقول صاحب الدعوى: (فلا تشكّوا بأنَّه عاصم لكم من الانحراف والضلال عند ساعة القيامة الصغرى)، وقال أيضاً: (وكتاب رسول الله عند الاحتضار أمر عظيم أعظم من الصوم والصلاة فرضه الله على الرسول بقوله تعالى: ﴿كُتِبَ﴾ و﴿حَقًّا عَلَى﴾ (البقرة: ١٨٠) ووصفه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنَّه يعصم الأُمَّة من الضلال إلى يوم القيامة...).
وإنّا إذ نسمع هذا أوَّلاً نتعجَّب من الجرأة على الله بالافتراء على نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ ليس في الرواية أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال عن هذا الأمر: إنَّه عاصم من الضلال.
وثانياً: أنَّ العاصم للأُمَّة من الضلال إنَّما يُتصوَّر في أمر يبقى ما بقي الليل والنهار كما ورد في الكتاب والعترة في حديث الثقلين: «ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً»(٦٢) الذي يرجع إلى العصمة من الضلال بشرط التمسُّك، وبشرط أن يكون بهما معاً، أي بشرط الجمع.
وبما أنَّ الكتاب والعترة باقيان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فنتعقَّل فيهما ذلك، ثمّ نُصدِّقه، إذ نطق بذلك من لا ينطق عن الهوى إن هو إلَّا وحي يوحى.
وأمَّا أن يقال عن كلام ليس بعنوان وصيَّة للأُمَّة، بل وصيَّة للإمام الثاني عشر (عليه السلام) بأن يُسلِّمها إلى ابنه، بأنَّها وصيَّة عاصمة من الضلال فلا وجه لقوله، فهل منعت بيعة الغدير أمام عشرات الآلاف من المهاجرين والأنصار من الانحراف والزيغ؟ فحبرها لم يجف بعد والقوم قد انقلبوا عليه حتَّى إنَّه لم يثبت معه إلَّا أربعة وبعض منهم حاص حيصة.
أم يُراد أنَّ ذات الوصيَّة عاصمة؟ فيرد عليه مع ملاحظة قوله: إنَّه يعصم الأُمَّة من الضلال إلى يوم القيامة، أنَّ هذا غير معقول، إذ أثر الوصيَّة بزعم مدَّعيها إنَّما يكون في مقطع زماني لا يُشكِّل شيئاً أمام امتداد عمود الزمان من رحلة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى جوار ربِّه إلى يوم القيامة.
وثالثاً: لا بدَّ أن يثبت في رتبة سابقة صدور الوصيَّة منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ودون ذلك خرط القتاد، فالطريق في غاية السقوط، وقد بيَّنّا ذلك في محلِّه.
ورابعاً: إنَّ ما أراده من التفريع على وصفها بأنَّها عاصمة من الضلال - وهو استحالة أن يدَّعيها أحد من المبطلين، لأنَّ ذلك يلزم منه اتِّهام الله تعالى بالكذب أو العجز عن حفظ كتاب وُصِفَ بأنَّه عاصم من الضلال - أوهن من بيت العنكبوت.
فهل كان هذا الكتاب أهمّ من التوراة والإنجيل وقد نصَّت الآيات على أنَّ أهل الكتاب يُحرِّفون الكلم عن مواضعه، مع أنَّ التوراة والإنجيل كتابا هداية لنبيَّين عظيمين من أُولي العزم من الرسل؟ وهل أنَّ هذا الكتاب أهمّ من القرآن، وقد نصَّت آية فيه على أنَّه محفوظ من الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ (الحجر: ٩)؟
مع أنَّه في كتابه العجل يقول: (وردت روايات كثيرة عن أهل بيت النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دالّة على التحريف، كما وردت روايات عن صحابة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن طريق السُّنَّة في كتبهم دالّة على وقوع التحريف)، وهذا وفق قاعدة الإلزام، وهل عجز الله تعالى عن حفظ كتبه السماوية أو أنَّ رواية الوصيَّة كانت أهمّ من تلك الكتب السماوية، خصوصاً مع نصِّه في القرآن على وصفه بأنَّه: ﴿لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ (فُصِّلت: ٤٢)؟
وأقول هذا وأنا ملتفت أنَّ كلامي المتقدِّم كان في حفظ النصِّ لا منع الادِّعاء، ولكنَّه نصَّ هو على أنَّه (لا بدَّ أن يحفظ العالم القادر الصادق الحكيم المطلق سبحانه النصَّ الذي وصفه بأنَّه عاصم من الضلال لمن تمسَّك به - من المبطلين له حتَّى يدَّعيه صاحبه ويتحقَّق الغرض منه).
وأمَّا على ما تقدَّم أنَّ هذا الوصف لهذا الكتاب أو الوصيَّة المزعومة لو كانت قد صدرت من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهذا اللفظ - و(لو) حرف امتناع لامتناع -، فإنَّ من المستحيل أن يكون المقصود منع أحد تكويناً من ادِّعائها إلى أن يأتي صاحبها، مع ملاحظة أنَّ هذا المنع لو كان فهو بطريق الإعجاز لا بالأسباب الطبيعية، وهذا له مقام آخر تعرَّضنا له بما يناسبه في طيّات هذا البحث، فلا حاجة إلى التكرار.
***************
(٦٢) راجع: بصائر الدرجات: ٤٣٢/ الجزء ٨/ باب في قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي».
7 - عاصمية رواية الوصيَّة من الضلال
- الزيارات: 156