لقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يمرَّ الإنسان في نشأته الدنيوية بمخاض يمتدُّ على مجموع مساحة حياته، إذ المخاض طريق التكامل أوَّلاً، وطريق ظهور المستوى الحقِّ من التلبُّس بالكمال.
﴿إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الكهف: ٧).
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ﴾ (محمّد: ٣١).
ومن أهمّ مفردات الابتلاء وأعظمها وقعاً على النفس خفاء بعض الأحداث المهمَّة في حياة الإنسان عنه. وأوضحها في ذلك مسألة قيامة الساعة.
﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: ١٨٧).
فالآية أتت بأداة الحصر أوَّلاً ﴿إِنَّما﴾، وذكرت حصراً آخر من خلال الجمع بين النهي والاستثناء ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ﴾، وذكرت ثالثاً من خلال حصر ثالث بنفي واستثناء أنَّهالا تأتي إلَّا بغتة، ولا يُباغَت الإنسان إلَّا بما لا يعلم به، وكرَّرت رابعاً بـ ﴿إِنَّما﴾ لإفادة اختصاص علمها بالله تعالى.
كلُّ تلك العناية بهذا المعنى لإفادة أهمّية أن تكون خافية على الناس، وأنَّ ذلك هو مقتضى الحكمة، ومن هنا يصرُّ القرآن في موارد متعدِّدة على انقطاع سبيل الوصول إلى العلم بها.
﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها * إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها * إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها﴾ (النازعات: ٤٢ - ٤٥).
فالآيات تقول: إنَّك لا تعلم بوقتها، ودورك هو التخويف والإنذار منها، وأمرها وعلمها إلى الله تعالى، على ما ذكره بعض المفسِّرين.
﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرحامِ﴾ (لقمان: ٣٤).
﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ (فُصِّلت: ٤٧).
﴿وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (الزخرف: ٨٥).
ومن تلك المسائل ساعة انتقاله إلى الدار الآخرة.
﴿وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (لقمان: ٣٤).
ومع قطعنا بحتمية تلك اللحظة إلَّا أنَّنا نوعاً لا نعلم بوقتها، فكلُّ نفس لا بدَّ ﴿ذائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران: ١٨٥)، إذ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ * وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأَكْرامِ﴾ (الرحمن: ٢٦ و٢٧).
بل يثقل جدّاً على النفس أن تجهل الوقت بدقَّة وإن علمت به في مساحة ضيِّقة من الزمن.
لكن لصعوبة الظرف فإنَّ الدقائق في التشخيص لها أثرها الكبير على النفس كما حصل للمسلمين في واقعة حُنين حيث لخَّص القرآن ما مرَّ به المسلمون بقوله: ﴿وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرضُ بِما رَحُبَتْ﴾ (التوبة: ٢٥).
ومع وعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم بالنصر وفق رواية عليِّ بن إبراهيم(٦٧) إلَّا أنَّه ثقل عليهم جدّاً حتَّى أدبروا عن حرب أعدائهم لا يلوون على شيء، ونُقِلَ مثل ذلك في واقعة الأحزاب(٦٨).
ومسألة قيام دولة الحقِّ من المسائل المهمَّة عند من اعتقد بها، والحكمة كما اقتضت في سابقاتها الإخفاء عن عامَّة الناس، فهي بعينها تقتضي أن تختفي هذه المسألة عن عامَّة الناس، وقد شبَّهتها بعض الروايات بمسألة الساعة، لكن هذه الحكمة ليست وحدها وجهاً ملزماً، بل لا بدَّ من ضميمة، إذ غاية ما توصلنا إليه أنَّ هناك مصلحة دعت إلى إخفاء ساعة ظهوره (عليه السلام) وقيام دولة الحقِّ، ولكن هل هي مصلحة بالنسبة لكلِّ الناس؟ وهل توجد مصلحة معارضة لها بالنسبة لبعض الأفراد، بل لكلِّ الأفراد؟ هذا ما لا يمكن إتمامه ببيان مثل المتقدِّم.
لكنَّه يمكن أن ينفعنا في توجيه دليل شرعي ورد في عدم إمكان تشخيص ساعة ظهوره وجهة تشبيهه بالساعة.
وكيف كان، فهو وجه مستقلٌّ في تأييد ما أردنا إثباته من عدم إمكان تعيين زمان ظهوره (عليه السلام) بحيث تصل إليه عامَّة الناس.
***************
(٦٧) راجع: تفسير القمّي ١: ٢٨٦.
(٦٨) بل قد يقال: إنَّ الآيات ظاهرة في ذلك، إذ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾ (الأحزاب: ١٠ - ١٢)، والمقطع الأخير يُثبِت أنَّه كان ثَمَّة وعد بالنصر.
جهة اشتراك الساعة والقيام في الخفاء
- الزيارات: 133