• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

تشريع الحدود والتعزيرات يُعاكس في الأثر طول الأمد

 إنَّ ما يقتضيه العدل الإلهي ليس أكثر من إتمام الحجَّة على الناس، وهو الذي يحصل بإرسال الرُّسُل، ﴿وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (الإسراء: ١٥)، ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ﴾ (النساء: ١٦٥).
لكن العدل لا يُمثِّل الإطار الوحيد في التعاطي الإلهي مع الخلق، فاللطف إطار آخر لازم الإعمال، فالله لطيف بعباده، ولطفه يقتضي أن يُعمِل كلَّ ما من شأنه أن يُقرِّب من الطاعة ويُبعِّد عن المعصية.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق: ١٦)، يعلم أنَّ تأخير ظهور آثار الأعمال حتَّى مع الحتمية لترتُّبها غير كافٍ لأكثر الناس، ومن هنا قدَّمت بعض تلك الآثار التي تأخذ طابعاً جزائياً لتكون في الدنيا، وإلَّا فإنَّ العدل لا يقتضي أكثر من أن يكون للأعمال السيِّئة جزاء في الآخرة وتُعلَم به الناس ولو إجمالاً، لكن ذلك سيعني أنَّ دائرة الاستقامة ستكون ضيِّقة جدّاً، فقضت الضرورة بأن تُزَحَّف بعض العقوبات إلى الدنيا، وهي على أنواع:
١ - القصاص: ويشهد لما قلناه قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ﴾ (البقرة: ١٧٩).
٢ - الحدود.
٣ - التعزيرات.
٤ - الآثار التكوينية للأعمال.
٥ - فرض بعض القيود على مساحة التحرُّك، كعدم قبول الشهادة، وعدم جواز الائتمام، وعدم جواز التقليد.
٦ - الاستفادة من الضاغط الاجتماعي من خلال تشريع واجب غاية في الأهمّية، وهو النهي عن المنكر.
وكلُّ هذه اقتضاها اللطف الإلهي - وإلَّا فالعدل لا يستوجب شيئاً منها -، إذ بدونها تبتعد الناس عن الاستجابة لدعوات الأنبياء (عليهم السلام).
ومن هنا صارت إقامة العدل غاية لبعثة الأنبياء (عليهم السلام)، وهذا يعني أنَّها غاية للخلقة، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: ٢٥).
إنَّ إقامة العدل ليست هدفاً للخلقة، وإنَّما هي رفع مانع عن وصول الناس إلى غاية خلقتهم المتمثِّلة بالارتقاء المعرفي، فلولا إقامة العدل لانتشر الظلم، ولانشغل الناس في دفع الحيف عن أنفسهم وحفظ مصالحهم، وفي ذلك كلُّ البعد عن غاية خلقتهم. وتُشكِّل القوانين الجزائية التي يكون ظرف إجرائها في الدنيا محوراً أساسياً في العدل إن لم يكن المحور الأساسي.
والسرُّ الأساسي هو الحاجة إليه في الدنيا، إذ لا يكفي لأكثر الناس أن يكون ظهور آثار أعمالهم في الآخرة.
فطول الأمد أو العهد كما تُعبِّر آية أُخرى(١٠٨) مدعاة لتنصُّل الأفراد عن أداء تكاليفهم وتحمُّل مسؤولياتهم.
٤ - توقُّع الظهور يُرسِّخ المعتَقد ويُفعِّل تأثيره:
إنَّ المشروع الإسلامي يُمثِّل مشروع حياة يُحدِّد أُطراً عامَّة وحدوداً تفصيلية تمتدُّ على جزئيات حياة الفرد والمجتمع، واهتمامه بالجانب الاجتماعي ذو أبعاد كبيرة، فإنَّ النزعة الاجتماعية لبني النوع الإنساني جعلته يتأثَّر بأبناء نوعه. مضافاً إلى أنَّ بعض أهمّ الأغراض الشرعية تترتَّب على السمة المجتمعية لا الجانب الفردي للسلوك. ولمَّا كان المشروع الإسلامي مشروع حياة فإنَّه لا بدَّ أن لا يترك الاهتمام بإدارة المجتمع، وقد تجلّى هذا الاهتمام من خلال منظومة أحكام يفترض بالحكومات أن تضبط سلوكها على إيقاع تلك المنظومة، وتحديد من له الحقَّ في تسنُّم تلك المناصب، وتشريع عقوبات مشدَّدة ومجازاة حسنة مضاعفة لمن تصدّى لتلك المناصب، وبعض تكاليف للرعيَّة بالردِّ على المسيء منهم ومؤازرة من عمل بالحقِّ فيهم.
ولمَّا كانت النزعة الفرعونية في النفوس في أعلى تجلّياتها لمن ملك فإنَّ من ملك استأثر، وصرخة ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى﴾ (النازعات: ٢٤)، لها صداها في نفس من ملك، فإنَّ مشروع الحقِّ يُشكِّل تهديداً كبيراً عليهم، إذ أقلّ آثاره أنَّه يسلب الشرعية عنهم، كان الإيقاع بأنصار المشروع الإلهي غرضاً دائماً للحُكّام الظلمة، فسيوفهم لم تجف من دماء دعاة الحقِّ وأنصاره، وطواميرهم طالما غصَّت بأخيارهم، ومن نجا من هذه وتلك كان نصيبه من الحياة غصصاً ورزقه نصباً، وهذا ما لا يسهل على النفس تجرُّعه.
وحين تُسَدُّ أبواب الطرق الطبيعية للنجاة تدور دفَّة التشبُّث نحو الغيب، وحين تجد في الموروث أنَّ الغيب أعدَّ راية حقٍّ تُزهِق كلَّ باطل وتُبطِل كلَّ ظلم تتعلَّق به النفوس، وتتعامل معه وكأنَّه من كفل رحمة اليوم لا رزق ربَّما أُعِدَّ لغدٍ، فتبتعد تلك النفوس عن اليأس وتتخلَّص من الإحباط.
ومن هنا قضت الضرورة أن يُبيَّن للناس أنَّ ما طمحوا إليه وراموا تحصيله ليس بعيد المنال، ولا إدراكه ضرب من المحال. ومن وقع في التوقيت كان بين محذورين غير الخروج عن الموضوعية، إذ لا يوجد ما يمكن الاستناد إليه في تحديد الوقت.
أوَّلهما: أن يكون وقته قريباً، فإذا انكشف الخلاف أورث ذلك يأساً وإحباطاً، وإذا حدَّد آخر وقتاً أمكن أن يصل إلى نفس ما وصل إليه الإخبار الأوَّل، وهكذا فتتَّسع دائرة الإحباط وتعمُّ بقعة اليأس، ممَّا قد يُهدِّد المشروع كلَّه بأن لا يبقى له ناصر ومعين.
وثانيهما: أن يكون الوقت المحدَّد بعيداً، ومثل هذا الخبر يظهر أثره السيِّئ مباشرةً عند تصديقه، لأنَّه سيسدُّ باب الأمل، وسدُّ باب الأمل مفتاح باب التقاعس والتثاقل، بل باب ترك المعتقد.
ومن هنا لم يكتفَ من الروايات بعدم التعرُّض لما يمكن معه معرفة الوقت، بل تكثَّرت الروايات في وصفهم بالكذب، بل أمرتنا بتكذيبهم، لأنَّ نتيجة التوقيت أحد محذورين كبيرين للأُمَّة.
فنِعْمَ المعين على تحمُّل المحن واجتياز أمواج بحر الفتن الأمل بتحقُّق المرجو في قادم أيّام حياة الفرد.
ويضاف إلى ذلك أنَّ الغيبة لم تكن في زمن قريب من عصر صدر الرسالة، والمشاريع الإصلاحية بما في ذلك الشرائع السماوية عادةً ما يخفت بريقها في النفوس بعد مضيِّ زمن التأسيس، ومن هنا كان للروّاد والمؤسِّسين شأن آخر. فلننظر كيف تحدَّث أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الروّاد.
قال (عليه السلام): «لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً، وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ، وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ الأَلَمِ، وَجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَه كَأْسَ المَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَه وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَه، وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَلَا اخْضَرَّ لِلإِيمَانِ عُودٌ»(١٠٩).
وقال (عليه السلام) أيضاً: «لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ، لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً، وَقَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَقِيَاماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَخُدُودِهِمْ، وَيَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ، كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ، إِذَا ذُكِرَ اللهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ، وَمَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ وَرَجَاءً لِلثَّوَابِ»(١١٠).
لكن حديثه حين تناول مرحلة متأخِّرة انصبَّ على أسماء خاصَّة ممَّن لم يتأثَّروا بطول الأمد:
«أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ وَمَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى المَنِيَّةِ، وَأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ»، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِه عَلَى لِحْيَتِه الشَّرِيفَةِ الْكَرِيمَةِ، فَأَطَالَ الْبُكَاءَ، ثُمَّ قَالَ: «أَوِّه عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوه، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوه، أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوه»(١١١).
ومن مثل عمّار وهو القائل لأمير المؤمنين (عليه السلام): (والله لو ضربونا بأسيافهم حتَّى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على حقٍّ وهم على باطل)(١١٢).
وإنَّما كان عمّار كذلك لثقل إيمانه، كيف لا وقد قال فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنَّ عمّار مُلِئَ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمانُ بلحمه ودمه»(١١٣).
وفي حديث آخر: «أبشر يا أبا اليقظان فإنَّك أخو عليٍّ في ديانته، ومن أفاضل أهل ولايته، ومن المقتولين في محبَّته»(١١٤).
ومن عظم وقع استشهاده على نفس أمير المؤمنين (عليه السلام) أنشأ عندما وجده بين الشهداء:

ألَا أيُّها الموت الذي ليس تاركي * * * أرحني فقد أفنيت كلَّ خليل
أراك بصيراً بالذين أُحِبُّهم * * * كأنَّك تمضي نحوهم بدليل(١١٥)

بل قول عمرو بن العاص وهو عدوّه حين تنازع أبو العادية الذي قتل عمّاراً وابن جوى السكسكي الذي حزَّ رأسه، وكان كلٌّ يقول: أنا قتلته، فقال عمرو: (والله إن يختصمان إلَّا في النار)(١١٦).
ومن مثل عمّار كي لا يتأثَّر بكون النصر قريباً أو بعيداً؟
***************
(١٠٨) وقد تقدَّمت الآيتان.
(١٠٩) نهج البلاغة: ٩١ و٩٢/ ح ٥٦.
(١١٠) نهج البلاغة: ١٤٣/ الخطبة ٩٧.
(١١١) نهج البلاغة: ٢٦٤/ الخطبة ١٨٢.
(١١٢) بحار الأنوار ٣٢: ٤٩٢/ ح ٤٢٤؛ وقعة صفّين للمنقري: ٣٢٢.
(١١٣) عوالي اللئالي ٢: ١٠٤/ ح ٢٨٥؛ تفسير الثعلبي ٦: ٤٥.
(١١٤) بحار الأنوار ٢٢: ٣٣٤/ ح ٤٨، عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ٨٥.
(١١٥) بحار الأنوار ٧٥: ٨٨.
(١١٦) بحار الأنوار ٣٣: ١٥؛ مستدرك الحاكم ٣: ٣٨٦.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page