• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

منع الاستدلال بالحكمة في التشريع لا يستدعي المنع في التكوين

 لا شكَّ أنَّ الله تعالى ذكره يُوصَف بالحكمة، والحكمة من الله معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام على ما ذكره الراغب في مفرداته. وهي تُشكِّل إطاراً عامّاً لكلِّ الأفعال الإلهية في عالم التشريع وفي عالم التكوين. أمَّا في عالم التشريع فحكمته تتمثَّل في المصالح التي تتوفَّر عليها متعلِّقات الأحكام، وقد ورد الكثير من ذلك في الكتاب والسُّنَّة.
﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: ٤٥).
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: ١٨٣).
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ﴾ (البقرة: ١٧٩).
وليس من الضروري وجود مصلحة واحدة في متعلَّق الحكم الشرعي، فعالم الطبيعة ومنه أفعالنا عالم التزاحم. كما ليس من الضروري أن يكون المورد الواحد ذا مصلحة أو مصالح خالصة، بل قد يكون فيه ما يزاحم تلك المصلحة أو المصالح من المفسدة أو المفاسد، فينظر المشرِّع بنظرة الحاصل النهائي بعد إعمال الموازنة ليرى أيَّ كفَّة ترجح، فيحكم على أساس ذلك التفاوت، فإن كان التفاوت كبيراً لا يقبل بفواته حَكَمَ بالإلزام وجوباً أو حرمةً، وإن كان يرغب بعدم فواته وإن قبل بالفوات حَكَمَ بالاستحباب أو الكراهة.
ولمَّا لم تكن صنوف الأفعال ذات مستوى واحد في مصالحها ومفاسدها نظر المولى إلى الحالة الغالبة فيها من حيث الحاصل النهائي، فإن كانت غالبية موارد الصنف الواحد من الأفعال ترجَّح فيها المصلحة بنحو الإلزام حَكَمَ على الجميع بالوجوب، كالصيام مثلاً، وهو يعلم أنَّ بعض الناس لا يُقرِّبهم صيامهم من التقوى أو لا يتسبَّب في تقواهم، كما يعلم أنَّ بعض الأفعال الأُخرى غير الصيام تُقرِّب للتقوى، لكنَّه لا يحكم بشمولها بهذا الوجوب. ومن هنا قيل: إنَّ الحكمة لا تُعمِّم، ولا تُخصِّص. ففي مثالنا توفُّر الحكمة الداعية إلى تشريع الصيام في غير الصيام لم تستدع شمول الوجوب المشرَّع للصيام له، وانتفاء الحكمة عن بعض أفراده لم تمنع من شمول الوجوب له. فالحكمة لم تُعمِّم الحُكم بالوجوب في الأوَّل، ولم تُخصِّصه في خصوص أفراد الصوم التي توفَّرت على الحكمة في الثاني.
نعم لا يبعد اعتبار كون تحقُّق الحكمة غالبياً في الأفراد.
فإن قيل: إنّا نجد في القرآن أنَّ الحكمة في تشريع وجوب الصلاة هي رادعيتها عن الفحشاء والمنكر، ونحن نجد أنَّ غالبية المصلّين لم تردعهم صلاتهم عن فحشاء أو منكر. وكذا الصيام، فالآية التي وردت في آيات تشريعه علَّلته بحكمة التقوى، وأكثر الناس وإن صاموا لا يتَّقون. وكذلك الأحكام الأُخرى.
قلنا:
١ - إنَّ الحكمة الداعية إلى التشريع لا تنحصر بما ذُكِرَ، والذي يرجع إلى الروايات يجد فيها حِكَم أُخرى لكلٍّ من الصلاة والصيام.
٢ - إنَّ حكمة التشريع ليست نفس ترك الفحشاء والمنكر في الصلاة، وليست نفس التقوى في الصوم، بل نفس داعوية ممارسة هذا الطقس العبادي ودفعه باتِّجاه ما ذُكِرَ، وهو متوفِّر في كلٍّ منهما.
٣ - إنَّ التقوى المترتِّبة على الصوم ذات مراتب، وكذا ترك الفحشاء والمنكر، وعدم ترتُّب المرتبة العالية لا يعني انتفاء الأثر عند أكثر الناس.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يجعل الله تعالى الأحكام مختصَّة بدائرة الحكمة وتدور مدارها؟
قلنا: إذا كان التطبيق للبشر فقدرة البشر على الإدراك التفصيلي لتحقُّق تلك الحِكَم غير متوفِّرة، فيتولّى المولى تحديد دائرة الأحكام بشكل كلّي وفق ما ذكرنا، إذ أنَّ الحُكم بالتفصيل الكبير لا تتحمَّله قدرة البشر على الاستيعاب، كما لا تتحمَّل تحقيق أنَّ هذا المورد ممَّا توفَّرت فيه الحكمة أم لا، أي لا يتيسَّر له إدراك الصغريات.
أمَّا في التكوين فإنَّ الأفعال تنقسم إلى قسمين:
الأوَّل: الأفعال الجزئية كحدوث هذا الطوفان، أو تلك الهزَّة الأرضية، أو بعثة النبيِّ الفلاني، أو إنامة أهل الكهف، أو إماتة عُزير النبيِّ (عليه السلام).
الثاني: القوانين الكونية أو السُّنن الكونية.
أمَّا الأول فالإنسان الحكيم لا يفعل ما لا مصلحة له فيه، فالصيّاد لا يلقي شباكه في محلٍّ يعلم أنَّه لا صيد فيه، والتاجر لا يدخل صفقة يعلم بخسارتها أو بُعد فائدتها. نعم الصيّاد يختار المهنة مع علمه بأنَّه في بعض الأحيان لا يُوفَّق للاصطياد، وكذا التاجر. فالخروج الواحد للصيد فعل جزئي، واختيار مهنة الصيد قضيَّة كلّية بالنسبة لخروجه في كلِّ مرَّة، وكذا الكلام في التاجر.
فإذا كان الإنسان الحكيم بهذا النحو، فكيف بخالقه الحكيم؟ فخرق السفينة وقتل الصبي وإقامة الجدار التي أمر الله بها، كان الملاحظ المصلحة في كلٍّ منها. ومن ذلك غيبة الإمام (عليه السلام) وسدِّ الطريق عن الاطِّلاع على زمان ظهوره كما هو شأن إخفاء الساعة.
وأمَّا القوانين الكلّية أو السُّنن الكونية فالملحوظ فيها المصلحة في نوع المفردات لا في كلِّ مفردة على حِدَة، فهي كالأحكام الشرعية.
فحين يُسئَل الإمام (عليه السلام) عن علَّة (والمقصود الحكمة) خلق آفات الحبوب، يُجيب (عليه السلام) بأنَّ في ذلك منعاً للاحتكار، لأنَّ الاحتكار يجعل طعامه عرضة للآفة، فيكون في معرض الخسارة، فيضطرُّ إلى بيعه، ولكن وجود تلك الآفة لا يشمل كلَّ طعام يُحتَكر، ولا يقتصر على الطعام الذي في معرض الاحتكار، فكم من فقير سُلِّطت هذه الآفة على طعامه فحرمته من الانتفاع به، وكم من محتكر لم تقربه تلك الآفة.
تلك مساهمة التكوين في حفظ مصالح العباد. وقد يتوصَّل الإنسان إلى حلٍّ لهذه المشكلة، كما حصل الآن، لكنَّه لا ينافي الحكمة، لتوفُّرها في غالبية الأزمنة السالفة، والملحوظ في الحكمة الأكثر في عمود الزمان بلحاظ المجتمعات المختلفة. كما لا منافاة بين حكمة التكوين ودفع البشر لها من خلال إعمال النظر والبحث، فالتكوين قد ساهم بما عليه، وليس من الضروري أن تكون مساهمة غير قابلة للدفع فيما لو كانت على خلاف مصلحة بعض بني النوع.
وبهذا نصل إلى أنَّ المنع من وقوف الناس على زمان ظهوره (عليه السلام) بالدقَّة للحكمة التي ذكرناها سابقاً لا يرد عليه أنَّ الحكمة لا يمكن أن يُستَند إليها في الاستدلال، إذ الأحكام لا تدور مدار الحكمة. فإنَّ ذلك إنَّما يتمُّ في الأحكام أوَّلاً، وفي السُّنن الكونية والأفعال النوعية لا الأفعال الجزئية الفردية.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page