أسباب المصاهرة
وذكر الرواة والمؤرّخون عدّة أسباب لإقدام المأمون على هذه المصاهرة وهذه بعضها:
1 - ما أدلى به نفس المأمون حينما عزم على أن يزوّج الإمام من ابنته فقال: (أحببت أن أكون جدّاً لامرأة ولده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ).
وفيما اعتقد أنّ هذا ليس هو السبب الحقيقي في هذه المصاهرة، فإنّ المأمون لم يؤمن بقرارة نفسه في هذه الجهة، ولو كان صادقاً فيما يقول لما اغتال الإمام الرضا (عليه السلام) وما أوعز إلى جهاز حكومته بمطاردة العلويّين وقتلهم.
2 - إنّ الذي دعا المأمون إلى ذلك إعجابه بمواهب الإمام الجواد (عليه السلام) وعبقرياته التي أصبحت حديث الأندية والمجالس، وهذا الرأي لم يحظ بأي تأييد علمي.
3 - إنّه أراد التمويه على الرأي العام بإظهار براءته من اغتياله للإمام الرضا (عليه السلام) فإنّه لو كان قاتلاً له لما زوّج ابنه من ابنته.
4 - إنّه حاول الوقوف على نشاط الإمام الجواد (عليه السلام) والإحاطة باتّجاهاته السياسية، ومعرفة العناصر الموالية له، والقائلة بإمامته، وذلك من طريق ابنته التي ستكون زوجة له.
5 - لعلّ من أهم الأسباب، وأكثرها خطورة هو أنّ المأمون قد حاول من هذه المصاهرة جرّ الإمام إلى ميادين اللهو واللعب ليهدم بذلك صرح الإمامة الذي تدين به الشيعة، والذي كان من أهمّ بنوده عصمة الإمام وامتناعه من اقتراف أي ذنب عمداً كان أو سهواً، وكان من الطبيعي أن يفشل في ذلك فإنّ الإمام (عليه السلام) لم يتجاوب معه بأيّ شكل من الأشكال، ولو كان في ذلك إزهاق نفسه، أمّا ما يدلّ على ذلك كلّه فهو ما رواه ثقة الإسلام الكليني قال ما نصّه: (احتال المأمون على أبي جعفر (عليه السلام) بكلّ حيلة[1] فلم يمكّنه فيه شيء، فلمّا اعتلّ وأراد أن يبني عليه ابنته[2] دفع إلى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون إلى كلّ واحدة منهنّ جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر إذا قعد في موضع الأخيار، فلم يلتفت إليهنّ، وكان هناك رجل يقال له مخارق، صاحب صوت وعود، وضرب، طويل اللحية فدعاه المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين إن كان شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره، فقعد بين يدي أبي جعفر (عليه السلام) فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار، وجعل يضرب بعوده، ويغنّي، فلمّا فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه يميناً ولا شمالاً، ثمّ رفع إليه رأسه، وقال: اتّق الله يا ذا العثنون[3] قال: فسقط المضراب من يده والعود، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات، فسأله المأمون عن حاله قال: لمّا صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أُفيق منها أبداً[4].
وكشفت هذه الرواية عن محاولات المأمون لجرّ الإمام (عليه السلام) إلى ميادين اللهو، فقد عرض له جميع ألوان المغريات، وكان الإمام آنذاك في ريعان الشباب، فاعتصم (عليه السلام) بطاقاته الروحية الهائلة، وامتنع عمّا حرّمه الله عليه، وقد أفسد (عليه السلام) بذلك مخطّطات المأمون الرامية إلى إبطال ما تذهب إليه الشيعة من عصمة أئمتهم، وكانت هذه الجهة - فيما نحسب - هي السبب في إضفاء لقب التقي عليه لأنّه اتّقى الله في أشدّ الأدوار، وأكثرها صعوبة، فوقاه الله شرّ المأمون[5].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أراد أن ينادمه الإمام، ويدخل معه - والعياذ بالله - في ميادين الدعارة.
[2] يبني عليه ابنته: أي يزفّها إليه.
[3] العثنون: اللحية، أو ما فضل منها بعد العارضين أو طولها.
[4] أصول الكافي: ج 1 ص 494 - 495.
[5] البحار وغيره.