ومثل ذلك مثل رجل ملك عبداً مملوكاً ، لا يملك نفسه ، ولا يملك عرضاً من عرض الدنيا ، ويعلم مولاه ذلك منه ، فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ، ولم يملكه ثمن ما يأتيه به من حاجته ، وعلم المالك أن على الحاجة رقيباً لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن ، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور ، وأوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه على علم منه بالرقيب الذي على حاجته أنه سيمنعه ، وعلم أن المملوك لا يملك ثمنها ولم يملكه ذلك ، فلما صار العبد إلى السوق ، وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها ، وجد عليها مانعاً يمنع منها إلا بشراء ، وليس يملك العبد ثمنها ، فانصرف إلى مولاه خائباً بغير قضاء حاجته ، فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبه عليه ، أليس يجب في عدله وحكمه أن لا يعاقبه ، وهو يعلم أن عبده لا يملك عرضاً من عروض الدنيا ، ولم يملكه ثمن حاجته ، فإن عاقبه عاقبه ظالماً متعدياً عليه مبطلاً لما وصف من عدله وحكمته ونصفته ، وإن لم يعاقبه كذب نفسه في وعيده إياه حين أوعده بالكذب والظلم اللذين ينفيان العدل والحكمة ، تعالى عما يقولون علواً كبيراً.
فمن دان بالجبر أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلم الله ، ونسبه إلى الجور والعدوان ، إذ أوجب على من أجبره العقوبة ، ومن زعم أن الله أجبر العباد فقد أوجب على قياس قوله إن الله يدفع عنهم العقوبة ، ومن زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب ، فقد كذب الله في وعيده حيث يقول : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) (١) ، وقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ) (٢) ، وقوله : ( إن الذين كفروا بآياتنا سوف
نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً ) (3) مع آي كثيرة في هذا الفن ممن كذب وعيد الله. ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر ، وهو ممن قال الله : « أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون » (4).
بل نقول : إن الله جل وعز جازى العباد على أعمالهم ، ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملكهم إياها ، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق كتابه : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) (5) ، وقال جل ذكره ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه ) (6) ، وقال : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ) (7) فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به ، ومثلها في القرآن كثير ، اختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب ، وبالله التوفيق.
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٨١.
(٢) سورة النساء : ٤ / ١٠.
(3) سورة النساء : ٤ / ٥٦.
(4) سورة البقرة : ٢ / ٨٥.
(5) سورة الأنعام : ٦ / ١٦٠.
(6) سورة آل عمران : ٣ / ٣٠.
(7) سورة غافر : ٤٠ / ١٧.
مثال على الجبر :
- الزيارات: 779