في الوقت نفسه الذي كان فيه رسول الله يركز تركيزا مكثفا وخاصا على حقيقة وطبيعة المكانة الخاصة المميزة التي اختارها الله تعالى لأهل بيت النبوة ، كان النبي يسلط أضواء ربانية كاشفة عن الرجال الأعلام من أهل بيت النبوة ، فكأنه يقول للمسلمين إن الله يعلم حيث يضع رسالته .
ففي غدير خم على سبيل المثال ففي الخطبة نفسها التي أعلن الرسول فيها حديث الثقلين الشهير أعلن فيه أن علي بن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة ، وأنه ولي كل مؤمن ومؤمنة ، وأنه الولي من بعد النبي في الوقت نفسه الذي أكد فيه الرسول بأن الإسلام في حقيقته يقوم على ركنين ، ويستند إلى ثقلين أحدهما كتاب الله وبيان النبي لهذا الكتاب ، والآخر عترة النبي أهل بيته ، أبرز تباعا علي بن أبي طالب ، وقدمه كمولى للمؤمنين ، والمؤمنات ، وكمولى لهم ، وعندما حث النبي على حب أهل بيت النبوة وحذر من بغضهم خص الإمام علي بن أبي طالب كما وضحنا سابقا .
مداخل لفهم التعميم والتخصيص معا المدخل الأول : قال حذيفة بن أسيد الغفاري إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم غدير خم : " إن الله مولاي ، وأنا مولاي المؤمنين وأنا أولى منهم على أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . . . ثم قال " إني سائلكم عن الثقلين " ( 1 ) .
المدخل الثاني : " قال زيد بن أرقم إن الرسول قد قال : " . . . وإني قد تركت فيكم الثقلين . . . ثم قال إن الله عز وجل مولاي وأنا مولى المؤمنين ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : من كنت مولاه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " ( 2 ) .
المدخل الثالث : قال البراء بن عازب : إن الرسول قد صلى الظهر في غدير خم وأخذ بيد علي فقال للمسلمين : ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى ، فقال الرسول : " من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " ( 3 ) .
المدخل الرابع : قال سعد بن أبي وقاص " . . . إن رسول الله قد قال أيها الناس إني وليكم ؟ قالوا : نعم ، ثم رفع يد علي بن أبي طالب فقال هذا وليي ويؤدي عني ديني ، وأنا موال من والاه ومعاد من عاداه " ( 4 ) .
المدخل الخامس : قال سعد بن أبي وقاص ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما بلغ غدير خم . . . ثم قال " أيها الناس من وليكم ؟ قالوا الله ورسوله ثم أخذ بيد على فأقامه ثم قال " من كان الله ورسوله وليه ، فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " ( 5 ) .
الصحابة الكرام فهموا المقصود فهم المسلمون مغزى كلام النبي ، استوعبوا تلخيصه للموقف ، فتقدم كبار المسلمين وقدموا التهاني لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وكان من جملة المهنئين عمر بن الخطاب ، فقال لعلي بن أبي طالب " هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة " ( 6 ) .
المعروف بالبداهة أهل بيت النبوة يعرفهم المسلمون قاطبة ، والمسلمون يعرفون أيضا بأن علي بن أبي طالب هو عميد أهل البيت النبوة بلا منازع ، وهو رجلهم المقدم الذي لا يتقدم عليه أحد ، ولا ينازعه بالعمادة أحد ، فأنت تلاحظ أن النبي قد أعلن عميد أهل بيت النبوة في الوقت نفسه الذي أعلن فيه حديث الثقلين .
سبب تقطيع النصوص وبترها كافة النصوص المتعلقة بحديث الثقلين والتي سقناها قبل قليل وحديث من كنت مولاه فهذا علي مولاه مقاطع من خطبة الرسول في غديرخم ، وقد ألقيت الخطبة في مكان واحد وزمان واحد ، لكن الجانب الذي يتعلق بموالاة علي سبق وحده في أكثر الروايات ، والجانب المتعلق بحديث الثقلين سيق وحده ، ولم يثر الموضوع بعد وفاة الرسول الأعظم ، وظل ساكنا ، لأنه كان مناقضا للواقع السياسي الذي كان سائدا آنذاك ، وإثارته فيها حرج كبير . لكن فيما بعد أثير الجانب المتعلق بالإمام علي أثناء فترة العداء لعلي بن أبي طالب التي قادها معاوية والخلفاء الأمويون ، ففرضوا على الناس مسبة الإمام علي ( 7 ) .
فقام سعد بن أبي وقاص اعتراضا منه على مسبة الإمام علي وذكر الجانب المتعلق بموالاة الإمام علي ، ولم يكن أمام طلاب الدنيا وقت لسماع بقية حديث الثقلين كله ، ولا رغبة لسماعه ، ولا مع سعد بن أبي وقاص في هكذا مناخ الوقت لإتمام حديث الثقلين ، لقد كان المجتمع المسلم مشعوطا يومئذ تماما وكأنه على كف عفريت ، لا يسمع وإذا سمع فإنه لا يريد أن يعقل ، وأي حيادي ، غير متأثر بالثقافة التاريخية يكتشف أن الأمور الثلاثة التي أعلنها النبي في غدير خم مترابطة تماما وتصب في ذات المغزي الذي عناه رسول الله ( 8 ) .
**************************
( 1 ) راجع على سبيل المثال تاريخ دمشق / ترجمة علي لابن عساكر ج 2 ص 45 ح 47 ، وكنز العمال ج 1 ص 168 ح 959 ، ونوادر الأصول للترمذي ص 259 ، وراجع الأحاديث الواردة وارجع الثقلين .
( 2 ) راجع على سبيل المثال الخصائص للنسائي ص 93 و 26 ، والمناقب للخوارزمي الحنفي ص 93 ، وكنز العمال ج 5 ص 91 .
( 3 ) راجع على سبيل المثال ذخائر العقبى للطبري ص 67 ، وفضائل الخمسة ج 1 ص 350 ، والفصول المهمة ص 24 ، والحاوي للفتاوي للسيوطي ج 1 ص 122 ، وأنساب الأشراف للبلاذري ج 2 ص 215 .
( 4 ) الخصائص للنسائي ص 102 ، والبداية والنهاية لابن كثير ج 5 ص 212 ، والمراجع السابقة .
( 5 ) راجع خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص 101 ، وفضائل الخمسة ج 1 ص 365 ، وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص 149 ، والرياض النضرة للطبري ج 2 ص 282 ، وملحق المراجعات وكتابنا نظرية عدالة الصحابة ص 252 .
( 6 ) راجع ذخائر العقبى للطبري ج 2 ص 23 ، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ، والرياض النضرة للطبري ج 2 ص 23 ، وفضائل الخمسة ص 350 ، والحاوي للفتاوي للسيوطي ج 1 ص 122 ، وكنز العمال ج 15 ، ص 117 ، وقريب من ترجمة علي من تاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 50 و 52 ، ح 550 و 551 ، وأنساب الأشراف للبلاذري ج 2 ص 15 ، والمناقب للخوارزمي الحنفي ص 94 ، والغدير للأميني ج 1 ص 18 و 20 .
( 7 ) راجع صحيح مسلم ج 2 ص 360 ، وصحيح الترمذي ج 5 ص 301 ح 3808 ، والمستدرك على الصحيحين للحاكم ج 3 ص 109 ، وترجمة علي في تاريخ دمشق لابن عساكر ج 1 ص 206 ح 271 و 272 ، وخصائص أمير المؤمنين للنسائي ص 28 ، ونظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص 107 ، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 84 ، والمناقب للخوارزمي الحنفي ص 59 ، وأسد الغابة لابن الأثير ج 1 ص 134 وج 4 ص 25 و 26 ، والإصابة لابن حجر العسقلاني ج 2 ص 509 ، والغدير للأميني ج 1 ص 257 وج 3 ص 200 ، والعقد الفريد لابن عبد ربه ج 4 ص 29 ، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 92 و 82 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد ج 1 ص 256 و 361 وج 3 ص 100 وج 4 ص 72 تحقيق أبو الفضل ، وتذكرة الخواص لابن الجوزي ص 62 .
( 8 ) راجع كتابنا المواجهة ص 450 وما فوق وكتابنا الهاشميون ص 171 - 183 .
التعميم والتخصيص معا التركيز على أهل بيت النبوة عامة ، وعلى أئمتهم الأعلام في الوقت نفسه
- الزيارات: 290