هو محمد بن عبد الله المنصور العباسي ، وهو أول من مشي بين يديه بالسيوف المصلتة والقسي والنشاب والعمد ، وأول من لعب بالصوالجة في الإسلام.
وروي ما يدل على تقصيره وعدم استحقاقه للخلافة ، قال عمرو بن عبيد إمام المعتزلة للمنصور وهو يشير إلى ابنه المهدي : ومن هذا ؟ فقال : هذا ابني محمد ، ولي العهد من بعدي. فقال عمرو : إنك سميته اسماً لم يستحقّه لعمله ، وألبسته لبوساً ما هو لبوس الأبرار ، ولقد مهّدت له أمراً أمتع ما يكون به أشغل ما يكون عنه.
وقال المنصور يوماً لابنه المهدي : كم عندك من دابة ؟ فقال : لا أدري. فقال : هذا هو التقصير ، فأنت لأمر الخلافة أشدّ تضييعاً.
موقفه من الطالبيين :
أعلن المهدي العباسي في مستهل حكومته عفواً يكاد يكون عاماً عن سجناء الرأي المودَعين في سجون السلطة ، وتحدّث المؤرخون عن أنه أمر عند وفاة المنصور بإخراج من في المحابس من الطالبيين وغيرهم من سائر الناس فأطلقهم ، وأمر لهم بجوائز وصِلات وأرزاق (١).
وذلك العفو لا يعني الخروج عن النهج المألوف القاضي بقمع حركة الطالبيين الداعين إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستبداله بسياسة التسامح وسماع الرأي الآخر ، يتّضح ذلك من خلال موقف المهدي من قادة الطالبيين الخارجين في زمانه ، ومنهم أبو الحسن علي بن العباس بن الحسن ، وكان قدم بغداد ودعا إلى نفسه سراً ، فاستجاب له جماعة من الزيدية ، وبلغ المهدي خبره فأخذه ، فلم يزل في حبسه حتى قدم الحسين بن علي صاحب فخ فكلمه فيه واستوهبه منه فوهبه له ، فلما أراد إخراجه من حبسه دسّ إليه شربة سمّ فعملت فيه ، فلم يزل ينتقض عليه بمرور الأيام حتى قدم المدينة فتفسّخ لحمه وتباينت أعضاؤه ، فمات بعد دخوله المدينة بثلاثة أيام (٢).
وسخط المهدي على يعقوب بن داود بن طهمان وزيره الذي فوّض إليه جميع أمر الخلافة ، لأنه أمره بقتل الحسن بن ابراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ، فلم يمتثل لأمره وأطلقه ، فسجنه المهدي في بئر في المطبق وبنيت عليه قبّة ، ونبت شعره حتى صار مثل شعور الأنعام وعمي ، ومكث نحواً من خمس عشرة سنة في ذلك البئر لا يرى ضوءاً ولا يسمع صوتاً حتى مات سنة ( ١٨٢ ه ) في أيام الرشيد (3).
موقفه من الشيعة :
وممن تعرّض لسخط المهدي من أصحاب الإمام الكاظم عليهالسلام الثقات ، عمر ابن أذينة الكوفي ، فقد هرب من الكوفة إلى اليمن خوفاً من بطش المهدي العباسي ، ولم يزل يسكن اليمن حتى توفي بها نحو سنة ( ١٦٩ ه ) (4).
موقفه من الإمام الكاظم عليهالسلام :
لم تشهد الفترة الاُولى من حكم المهدي أي موقف مشهود تجاه الإمام الكاظم عليهالسلام ، لأن الإمام عليهالسلام كان قد تمسك بالسرية التامة وابتعد عن الأضواء ، وورد ما يدلّ على أن المهدي كان لا يتحرّج من استفتائه إذا اقتضت الضرورة ذلك ، وكان الإمام عليهالسلام يجيبه حيثما يتعلق الأمر بخدمة الدين الحنيف ، فحين أراد المهدي توسعة المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد ، فطلبها من صاحبها فامتنع ، فسأل عن ذلك الفقهاء ، فقالوا : « لا ينبغي أن يدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً ، فطلب علي بن يقطين من المهدي أن يكتب إلى موسى بن جعفر عليهماالسلام ليخبره بوجه الأمر في ذلك ، فكتب إلى والي المدينة ليسأل أبا الحسن عليهالسلام فقال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها ، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها ، فلما أتى الكتاب إلى المهدي ، أمر بهدم الدار ، فأتى أهل الدار أبا الحسن عليهالسلام فسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتاباً في ثمن دارهم ، فكتب إليه : أن أرضخ لهم (5) شيئاً ، فأرضاهم » (6).
ولم يكن الإمام الكاظم عليهالسلام بالذي يهاب المهدي من أن يواجهه بأخطر مسألة تعرض لها أهل البيت عليهمالسلام ، وهي قضية فدك التي تمثل عند الإمام الكاظم عليهالسلام رمزاً للحقّ المغتصب والخلافة المسلوبة بناءً على التحديد الذي ذكره ، فقد ورد الإمام الكاظم عليهالسلام مرة على المهدي فرآه يرد المظالم ، ولعل ذلك في موسم الحج ، فقال : « ما بال مظلمتنا لا تُرد ؟ ، فقال له : وما ذاك يا أبا الحسن ؟ قال : فدك ، قال المهدي : حدها لي ، فقال : حدّ منها جبل أحد ، وحدّ منها عريش مصر ، وحدّ منها سِيف البحر ، وحدّ منها دومة الجندل ، فقال له : كل هذا ؟ قال : نعم ، هذا كله مما لم يوجف أهله على رسول الله صلىاللهعليهوآله بخيل ولا ركاب ، فقال : هذا كثير وأنظر فيه » (7).
ولعل قرار سجن الإمام عليهالسلام كان هو الجواب الذي نظر فيه المهدي ، فلما اشتهر الإمام عليهالسلام وذاع صيته وتوسعت مرجعيته ، عمد المهدي إلى استدعائه إلى بغداد ، فحبسه ليكون محاصراً ومعزولاً عن شيعته في المدينة.
روى أبو خالد الزبالي خبر اشخاصه من المدينة إلى بغداد من قبل المهدي العباسي ، فقد رآه الإمام عليهالسلام منقبضاً تعلو وجهه سحابة قاتمة من الوجد لأنه لا يأمن عليه في مسيره إلى الطاغية ، فطمأنه الإمام عليهالسلام قائلاً : « يا أبا خالد ، ليس عليّ بأس » (8) ، وفعلاً أطلقه المهدي بعد أن مكث مدة في السجن ملياً.
ذكر كثير من المؤرخين أن المهدي لم يطلقه إلاّ بعد أن رأى برهان ربه ، رووا عن الفضل بن الربيع عن أبيه ، أنه لما حبس المهدي موسى بن جعفر رأى المهدي في النوم علي بن أبي طالب عليهالسلام وهو يقول : « يا محمد ، ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) (9) ، قال الربيع : فأرسل لي ليلاً فراعني ذلك ، فجئته فاذا هو يقرأ هذه الآية ، وقال : عليّ بموسى بن جعفر ، فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جانبه وقال : يا أبا الحسن ، اني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في النوم يقرأ علي كذا ، فتؤمنني أن تخرج علي أو على أحد من ولدي ؟ فقال : الله لا فعلت ذاك ، ولا هو من شأني ، قال : صدقت ، يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده إلى أهله إلى المدينة ، قال الربيع : فأحكمت أمره ليلاً ، فما أصبح إلاّ وهو في الطريق خوف العوائق » (10).
وكان المهدي يقصد قتله عليهالسلام لكن مشيئة الله سبحانه كانت تحول دون ذلك ، ذكر ابن شهر آشوب أنه في الليلة التي أمر باطلاق الإمام عليهالسلام كان قد أمر حميد بن قحطبة أن يقتله في السحر بغتة ، فرأى في تلك علياً عليهالسلام يشير إليه ويقرأ الآية فانتبه مذعوراً ، ونهى حميداً عما أمره ، وأكرم الكاظم عليهالسلام ووصله (11). وذكر ابن عنبة أن المهدي تنكر له بعد اطلاقه ، فهلك قبل أن يوصل إلى الكاظم عليهالسلام أذى (12).
وعاد الإمام عليهالسلام إلى المدينة مع حلول الظلام فالتقاه أبو خالد الزبالي ، فاذا هو على بغلة أمام القطار ، فسلم عليه وسرّ بمقدمه وهنأه بالسلامة ، فقال عليهالسلام : « يا أبا خالد ، ان لهم إليّ عودة لا أتخلص منها » (13). وستكون تلك العودة إلى أرض العراق في زمن الرشيد وبالتحديد سنة ( ١٧٩ ه ).
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٤.
(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٦٧.
(3) البداية والنهاية ١٠ : ١٣٧ و ١٥٧ و ١٩٥.
(4) خلاصة العلاّمة : ٢١١ / ٢ ، رجال ابن داود : ١٤٤ / ١١١١.
(5) أرضخ له : أعطاه عطاءً غير كثير ، أو قليلاً من كثير.
(6) تفسير العياشي ١ : ٣٢٣ / ٧٢٩.
(7) الكافي ١ : ٤٥٦ / ٥ ، التهذيب ٤ : ١٤٨ / ٤١٤.
(8) الكافي ١ : ٤٧٧ / ٣ ، اثبات الوصية : ١٦٥ ، الخرائج والجرائح ١ : ٣١٥ / ٨.
(9) سورة محمّد : ٤٧ / ٢٢.
(10) تاريخ بغداد ١٣ : ٣٢ ، البداية والنهاية ١٠ : ١٩٧ ، صفة الصفوة / ابن الجوزي ٢ : ١٨٤ ، تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٢٤٩ ، وفيات الأعيان / ابن خلكان ٥ : ٣٠٨ ، سير أعلام النبلاء / الذهبي ٦ : ٢٧٢ ، الفصول المهمة / ابن الصباغ : ٢٣٠ ، تاريخ الطبري ٦ : ٣٩٨ ، مرآة الجنان / اليافعي ١ : ٣٩٤ ، الصواعق المحرقة / الهيتمي : ١٢٣ ، مطالب السؤول / ابن طلحة : ٨٣ ، مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٥٣.
(11) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٤١٨.
(12) بحار الأنوار ٤٨ : ٢٤٧ / ٥٧.
(13) الكافي ١ : ٤٧٧ / ٣ ، اثبات الوصية : ١٦٥ ، الخرائج والجرائح ١ : ٣١٥ / ٨.
٢ ـ المهدي العباسي ( ١٥٨ ـ ١٦٩ ه ) :
- الزيارات: 676