إن مفهوم العبادة عند الوهابيَّة هو مطلق الخضوع والتذلّل وتكريم وتعظيم غير الله .
إذا سلّمنا مع الوهابية ... بصحّة هذا المفهوم فإننا لا يمكن أن نعاتبهم على النتائج التي يمكن الوصول إليها ، فعندما نرى مسلماً يتمسّح ويتبرّك بضريح فإن مفهوم العبادة الذي سلَّمنا به سوف ينطبق عليه ; لأنه بتذلّل لغير الله فيكون بذلك عابداً للضريح ، وبالتالي يكون مشركاً ، وهذا استنتاج منطقيٌّ صحيح وفقاً للقاعدة التي تقول :
( كل متذلّل لغير الله مشرك ، وهذا متذلّل ، إذن هذا مشرك ) .
ولكن الحقيقة والواقع أن الكبرى غير مسلَّم بها(1) ، فكل متذلّل لغير الله مشرك ، كاذب ، وهذه بديهة عقليّة وعقلائيّة ، ويمكن معرفة ذلك من الواقع الذي يعيشه أيُّ إنسان ، فإن من طبيعة البشر الاحترام ، بل من الأخلاق في بعض الأحيان التذلّل لبعضنا البعض ، كتذلّل التلميذ للمؤمن {أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ}(2) ، كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بتعظيم الوالدين والتذُّلل لهم : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}(3) ، وأكثر من ذلك أنّ الله أمر الملائكة بالسجود لآدم ، والسجود ـ كما تعلمون ـ أكمل مرتبة في الخضوع والتذلّل .
فإذا كان كما تدّعي الوهابيَّة فتكون كل الملائكة مشركة ، وإبليس هو الموحِّد الوحيد لأنه رفض السجود ..
إلى أن يقول : فإذن لا يمكن أن يكون أيُّ خضوع أو تذلّل عبادة ، ولابد أن يكون هناك ملاكٌ آخر أكثر دقّة ، وهو مسألة الاعتقاد ، فإنّ الخضوع إذا كان مقترناً بالاعتقاد بألوهيَّة المخضوع له ، فيكون هذا الخضوع عبادة ، بل إن أيَّ تصرُّف يكون بدافع الاعتقاد لغير الله فهو مصداقٌ للشرك ، فالخضوع والتذلّل بمعزله ليس شركاً ، والاعتقاد في غير الله شرك ، وإن كان من غير خضوع أو تذلّل .
فيتّضح من ذلك أنّ العبادة هي خضوع مقترن بالاعتقاد في غير الله تعالى ، أمَّا الخضوع والتذلّل من غير اعتقاد يمكن أن يناقش من جهة الحسن والقبح ، وهذا دائر مدار العناوين التي تطرأ على التذلُّل ، فمثلا يكون تذلُّل المؤمن لغير المؤمن قبيحاً ، ونفس هذا التذلُّل عندما يكون من المؤمن للمؤمنين يكون حسناً ، بل هو مستحب ، فإذن هو خارج تخصّصاً عن مبحث التوحيد والشرك ، وسحبه على هذا البحث يكون مقدِّمة فاسدة تؤدِّي إلى نتائج حتماً فاسدة .
_________
1- أي كبرى القياس ، فالقياس ينقسم إلى كبرى ، وصغرى ، ونتيجة ، فالكبرى هنا : كل متذلل .. والصغرى : هذا متذلل ، والنتيجة : هذا مشرك .
2- سورة المائدة ، الآية : 54 .
3- سورة الإسراء ، الآية : 24 .
حول الخضوع والتذلّل لغير الله تعالى
- الزيارات: 5631