مرّةً اُخرى تطلّ علينا قصّة عقيل بن أبي طالب أخي عليّ (ع) ، لمَا لها من دلالات متعدّدة ، فعقيل يطلب من أخيه الإمام إعطاءه من بيت مال المسلمين فيأبى عليّ (ع) ، فيلحق عقيل بعدوّ أخيه معاوية فيغدق عليه من مال المسلمين , فمعاوية يُعطي عقيلاً بغير حقّ ولغير حقّ ، يستنقص به فئة عليّ (ع) ويطمع فيه غير عقيل ممّن يُغريهم المال حين تُذاع هذه الفعلة بينهم ، فيحتالون على المبدأ أو يتبجّحون بالباطل على علمهم بالحقّ ، كما قال عقيل : إنّي أردت عليّاً (ع) على دينه فاختار دينه ، وإنّي أردت معاوية على دينه ، فاختارني على دينه .
كثيراً ما تقرأ عن اتّصاف معاوية بالدهاء ، ويعزون إلى ذلك غبه على الحكم ، وكأنّهم بذلك يقرّون بمزيّة لمعاوية , ولكن الدهاء على الجور شيء والاستواء على الحقّ شيء آخر , إقرأ قول عليّ (ع) تقف على الفارق : (( أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ ؟ وَ اللَّهِ، لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَ مَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً ، لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ ، فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ ؟ )) .
فقد حاول معاوية رشوة قيس بن سعد عامل عليّ (ع) على مصر ؛ ليخون إمامه ويتابع معاوية ، فبعث إليه بكتاب يقول فيه(1) : تابعنا على أمرنا ، ولك سلطان العراقينِ إذا ظهرت ما بقيت ، ولمَن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز مادام لي سلطان ، وسلني غير هذا ممّا تُحبّ ، فإنّك لا تسألني شيئاً إلاّ أُوتيته .
إلاّ أنّ قيساً يأبى الخيانة ويرفض الرشوة ويترفّع على الإغراء مستمسكاً بدينه ، فيكتب إلى معاوية(2) : فإنّ العجب من اغترارك بي ، وطمعك فيّ ، واستسقاطك رأيي ، أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة ، وأقولهم للحقّ ، وأهداهم سبيلاً ، وأقربهم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وسيلةً ، وتأمرني بالدخول في طاعتك ، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقولهم للزور ، وأضلّهم سبيلاً ، وأبعدهم من الله عزّ وجلّ ورسوله (صلّى الله عليه وآله) وسيلةً ، ولد ضآلين مضلّين ، طاغوت من طواغيت إبليس .
وموقف ثالث : لا يكلّ فيه معاوية عن استعمال سلاح الرشوة ، وخاصّة في المواقف الشديدة التي تُغري بالسلامة في مواقع الخطر . فقد حدث في موقعة صفّين وحينما حمي الوطيس وبلغت القلوب الحنابر ، أنْ بعث معاوية إلى أمير خيّالة عليّ (ع) قائلاً له : اتّبعني على ما أنت عليه ، ولك إمرة العراق(3) . وهذه المرّة تعمل الرّشوة عملها ، فيطمع فيها أمير الخيّالة خالد بن المعتمر ، ويخون إمامه عليّاً (ع) .
وموقف رابع : فعندما التقى بعد صفّين الحكمان عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري ، حاول عمرو ـ سيرة صاحبه معاوية ـ رشوة أبي موسى ، كيْما يتابعه على تولّية معاوية الخلافة ، فقال عمرو : إنّ ولّي أكرمك كرامةً لمْ يكرمْها خليفة . فيردّ أبو موسى : يا عمرو ، اتّق الله عزّ وجلّ ، وأمّا تعريضك لي بالسلطان ، فو الله ، لو خرج لي من سلطانه كلّه ما ولّيته(4) .
ــــــــــــــ
(1) الطبري ، مرجع سابق 4 / 550 .
(2) المصدر السابق / 551 .
(3) ابن كثير ، البداية والنهاية ، مرجع سابق 7 / 276 .
(4) الطبري ، مرجع سابق 5 / 68 .
1 ـ استغواء واستهراء النفوس
- الزيارات: 950