وَاَقَمْتُمُ الصَّلاةَ
ولقد عجبت من صبرهم ملائكة السماء ، كما في زيارة الناحية المقدّسة (1) .
وقد اعترف بعظيم صبرهم شيعتهم وغير شيعتهم كما تلاحظه في ما تقدّم من حديث ابن دأب (2) .
وفي نسخة الكفعمي بعد هذه الفقرة : « وصدعتم بأمره ، وتلوتم كتابه ، وحذّرتم بأسه ، وذكّرتم بأيّامه ، وأوفيتم بعهده » .
(1) ـ الصلاة هي العبادة القربيّة المعروفة التي هي معراج المؤمن ، وقربان كلّ تقيّ ، وقرّة عين الصالحين .
وإقامتها فُسّرت بمعان ثلاثة :
1 / بمعنى تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ وإنحراف في أفعالها ، أخذاً من أقام العُود يعني عود الخيمة : أي قوّمه .
2 / بمعنى المواظبة على الصلاة وترويجها ، أخذاً من قامت السوق : أي راجت .
3 / بمعنى التشمير والاستعداد لأدائها من غير فتور ولا توان ولا تهاون ، أخذاً من قام بالأمر : أي جدّ فيه ، وتجلّد ، ولم يتهاون (3) .
ولعلّ جامع المعاني في إقامة الصلاة هي المحافظة عليها ، تلك المحافظة التي أمر بها في قوله عزّ إسمه : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ
الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِِ قَانِتِينَ) (4) .
والتي هي من صفات المؤمنين المفلحين المبشَّرين بالجنّة في كتاب الله الكريم في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (5) .
وأهل البيت (عليهم السلام) هم الذين أقاموا الصلاة حقّ إقامتها بكلّ خضوع وخشوع ، وإخلاص وحضور قلب ، وجاؤوا بها تامّة الأجزاء والشرائط ، وحافظوا على أدائها بكلّ ما هو من شروط قبولها وكمالها ، وواظبوا على إتيانها بكلّ جدٍّ واجتهاد ، واستعدّوا لها أتمّ الإستعداد ، وعلّموها أحسن التعليم ، ومنحوها غاية التعظيم ، والتزموا بها في الشدّة والرخاء ، واعتنوا بها غاية الاعتناء .
كما تلاحظ ذلك بوضوح في سيرتهم وحياتهم ، وفي سفرهم وإقامتهم ، حتّى في حروبهم وسجونهم .
وغني عن البيان صلاة أمير المؤمنين (عليه السلام) (6) .
وصلاة الإمام السجّاد (عليه السلام) (7) .
وصلاة الإمام الكاظم (عليه السلام) (8) .
نقل أحمد بن عبدالله عن أبيه قال : دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لي : أشرفْ على هذا البيت وانظر ما ترى ؟
فقلت : ثوباً مطروحاً .
فقال : انظر حسناً .
فتأمّلت فقلت : رجل ساجد .
فقال لي : تعرفه ؟ هو موسى بن جعفر ، أتفقّده الليل والنهار ، فلم أجده في وقت من الأوقات إلاّ على هذه الحالة ، إنّه يصلّي الفجر فيعقّب إلى أن تطلع الشمس ، ثمّ يسجد سجدة ، فلا يزال ساجداً حتّى تزول الشمس ، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة ، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء ، وهو دأبه ، فإذا صلّى العتمة أفطر ، ثمّ يجدّد الوضوء ثمّ يسجد ، فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتّى يطلع الفجر .
وقال بعض عيونه : كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه : « اللهمّ إنّك تعلم أنّني كنت أسألك أن تفرّغني ... » (9) .
ولقد شهد بسموّ عباداتهم حتّى غير شيعتهم ، كما تقدّم عن أبي الحديد في شرحه حيث قال في صلاة أمير المؤمنين (عليه السلام) :
وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على وِرده أن يُبسط له نطعٌ بين الصفّين ليلة الهرير ، فيصلّي عليه ورْدَه ، والسهام تقع بين يديه وتمرّ على صِماخيه يميناً وشمالا ، فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته !
ثمّ قال : وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته ، والخشوع لعزّته والاستخذاء له ، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، وفهمت من أي قلب خرجت ، وعلى أي لسان جرت !
وقيل لعلي بن الحسين (عليه السلام) ـ وكان الغاية في العبادة : أين عبادتك من عبادة جدّك ؟
قال : « عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) » (10) .
فإقامة الصلاة وإتمام العبادات كانت بأهل بيت العصمة سلام الله عليهم كما في حديث الإمام الرضا (عليه السلام) :
« بالإمام تمام الصلاة والصيام والحجّ والجهاد ... » (11) .
وأهل البيت سلام الله عليهم قد أتمّوا الحجّة ، وأوضحوا المحجّة في بيان الحثّ على الصلوات ، والمحافظة عليها في جميع الأوقات ، والترغيب إليها في جميع المناسبات كما تشاهده في أحاديثهم الوافية (12) .
وقد بيّنوا حدود الصلاة وأبوابها وأحكامها بجميع سننها وآدابها .
وقد فسّر الشهيد الأوّل (قدس سره) حديث (إنّ للصلاة أربعة آلاف حدّ) بواجباتها ومندوبها ، فجعل أحكام الواجبات ألفاً وصنّف لها كتاب الألفية ، وجعل
مندوباتها ثلاثة آلاف وصنّف لها كتاب النفليّة (13) .
فأهل البيت (عليهم السلام) هم الذين أقاموا الصلاة حقّ إقامتها ، بل علّموا وهذّبوا وأمروا الخلق بالصلاة التامّة الكاملة التي يلزم مراعاتها .
ويحسن التدبّر لذلك في مفصّل حديث حمّاد في هذا الباب قال : قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) يوماً : « تحسن أن تصلّي ياحمّاد ؟ قال :
قلت : ياسيّدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة .
قال : فقال (عليه السلام) : لا عليك قم صلّ .
قال : فقمت بين يديه متوجّهاً إلى القبلة فاستفتحت الصلاة ، وركعت ، وسجدت .
فقال (عليه السلام) : ياحمّاد لا تحسن أن تصلّي ، ما أقبح بالرجل (منكم) أن يأتي عليه ستّون سنة أو سبعون سنة ، فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة ؟!
قال حمّاد : فأصابني في نفسي الذلّ فقلت : جعلت فداك فعلّمني الصلاة .
فقام أبو عبدالله (عليه السلام) مستقبل القبلة ، منتصباً ، فأرسل يديه جميعاً على فخذيه قد ضمّ أصابعه ، وقرّب بين قدميه حتّى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات ، واستقبل بأصابع رجليه (جميعاً) لم يحرّفهما عن القبلة ، بخشوع واستكانة فقال : الله أكبر ، ثمّ قرأ الحمد بترتيل ، وقل هو الله أحد ، ثمّ صبر هنيئة بقدر ما تنفّس وهو قائم ، ثمّ قال : الله أكبر وهو قائم ، ثمّ ركع وملأ كفّيه من ركبتيه مفرّجات ، وردّ ركبتيه إلى خلفه حتّى استوى ظهره ، حتّى لو صبّت عليه قطرة ماء أو دهن
____________
(1) بحار الأنوار : ج101 ص240 ب18 ح38 .
(2) الاختصاص : ص108 .
(3) مجمع البحرين : مادّة قَوَمَ ص532 .
(4) سورة البقرة : الآية 238 .
(5) سورة المؤمنون : الآية 9 ـ 11 .
(6) بحار الأنوار : ج41 ص11 .
(7) سفينة البحار : ج6 ص387 .
(8) بحار الأنوار : ج48 ص100 ب39 الأحاديث .
(9) بحار الأنوار : ج48 ص107 ب39 ح9 .
(10) شرح نهج البلاغة : ج1 ص27 .
(11) الكافي : ج1 ص200 .
(12) بحار الأنوار : ج83 ص1 ب6 الأحاديث .
(13) سفينة البحار : ج1 ص43 .
أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين أقاموا الصلاة
- الزيارات: 869