ح ـ عليّ (عليه السلام) في غزوة تبوك[1]
استعدّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لمواجهة الروم حين علم أنّهم يريدون الإغارة والهجوم على الجزيرة، فأعدّ بما يملك من استراتيجية محكمة العدّة والعدد، وقرّر لأهمية الموقف والنزال أن يكون على رأس الجيش المتقدّم، ولكنّ الظروف السياسية والعسكرية لم تكن تدعو للاطمئنان التامّ ونفي الاحتمال من هجوم المنافقين أو المرجفين على المدينة أو قيامهم بأعمال تخريبية اُخرى، لذا يتطلّب الأمر أن يبقى في المدينة من يتمتّع بمؤهّلات ولياقات عالية وحكمة بالغة ودراية تفصيلية في جميع الاُمور وحرص على العقيدة كي يتمكّن من مواجهة الطوارئ، فاختار النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) عليّاً لهذه المهمّة الحسّاسة كي يقوم مقام النبيّ في غيابه فقال (صلى الله عليه وآله): يا عليّ إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك.
ولمّا تحرّك النبيّ (صلى الله عليه وآله) باتّجاه تبوك; ثقل على أهل النفاق بقاء عليّ (عليه السلام) على رأس السلطة المحليّة في عاصمة الدولة الإسلاميّة، وعظم عليهم مقامه، وعلموا أنّها في حراسة أمينة ولا مجال لمطمع فيها، فساءهم ذلك، فأخذوا يردّدون في مجالسهم ونواديهم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يستخلفه إلاّ استثقالاً ومقتاً له، فبهتوا بهذا الإرجاف عليّاً كبهت قريش للنبي بالجِنّة والسِّحر.
فلمّا بلغ عليّاً (عليه السلام) إرجاف المنافقين به أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم فأخذ سيفه وسلاحه ولحق بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله إنّ المنافقين يزعمون أنّك خلّفتني استثقالاً ومقتاً فقال (صلى الله عليه وآله): إرجع الى مكانك فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك، فأنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي.
فرجع عليّ (عليه السلام) ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سفره[2].
تبليغ سورة براءة :
استمرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبلّغ رسالته المباركة وينشر الإسلام في ربوع الجزيرة العربية، وفي ذات الوقت يطارد فلول الشرك عسكرياً حتى أشرفت السنة التاسعة للهجرة على نهايتها، فأصبح للإسلام كيان سياسي مستقلّ واُمّة تسودها علاقات متينة وأرض مترامية الأطراف وحدود منيعة، ولم يعد لقوى الشرك وجود معتبر، فكان لابدّ من تصفيتهم، ونزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) سورة براءة الّتي تسنّ التشريعات الّتي تحدّد موقفه من المشركين والعهود والأحلاف الّتي كان قد أبرمها معهم. وكان أفضل مكان لإعلان هذا القرار وقراءة هذا البيان الرسمي الإلهي هو البيت الحرام، وأفضل وقت له هو اليوم العاشر من ذي الحجّة حيث يجتمع المشركون من أطراف الجزيرة، فأرسل النبيّ (صلى الله عليه وآله) أبا بكر ليحجّ بالناس ويبلّغ سورة براءة، ولمّا انتهى الى ذي الحليفة وهو المكان المعروف اليوم بمسجد الشجرة، وإذا بالوحي ينزل على النبيّ ويأمره أن يرسل مكانه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فأرسل النبيّ عليّاً وأمره أن يأخذ الآيات من أبي بكر ويبلّغها بنفسه، فمضى نحو مكّة وهو على ناقة النبيّ حتى التحق بأبي بكر، فلمّا سمع رغاء الناقة عرفها فخرج فزعاً وهو يظنّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإذا هو عليّ، فأخذ منه الآيات ورجع أبو بكر إلى المدينة خائفاً أن يكون قد نزل فيه ما يُغضب النبيّ، فقال: يا رسول الله! أَنزل فيَّ شيء؟ فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): لا ولكنّي اُمرت أن اُبلّغها أنا أو رجل منّي[3].
وانطلق عليّ (عليه السلام) في طريقه حتى بلغ مكّة، وعندما اجتمع الناس لأداء مناسكهم قرأ عليهم الآيات الاُولى من السورة، ونادى في الناس: لايدخل مكّة مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدّته[4].
*************
[1] وقعت غزوة تبوك في شهر رجب سنة تسع من الهجرة النبويّة.
[2] تأريخ الطبري: 2 / 368 ط مؤسسة الأعلمي، والإرشاد للمفيد: 138، الفصل 43، والسيرة الحلبية بهامش السيرة النبوية: 3 / 132، وصحيح البخاري: باب غزوة تبوك 6 / 3، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة : 5 / 23 الحديث 2404 والترمذي : 2 / 300 ومسند أحمد : 1 / 185 و 284 الحديث 508 وسنن ابن ماجة : 1 / 42 الحديث 115 وتاريخ بغداد : 1 / 432 رقم 6323.
[3] الكامل في التأريخ لابن الأثير: 2 / 291، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة: 2 / 343.
[4] البداية والنهاية لابن كثير: 5 / 45.