• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

البيعة (2)

البيعة (2)

خرج عليه السلام الى الناس، غير ناظر الى ما يكون من أمرهم معه، ولكنه وقف على منبر أبيه، ليؤبن أباه بعد الفاجعة الكبرى في مقتله صلوات اللّه وسلامه عليه.
فقال: «لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الاولون، ولا يدركه الآخرون. لقد كان يجاهد مع رسول اللّه فيقيه بنفسه. ولقد كان يوجّهه برايته، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح اللّه عليه. ولقد تُوفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران. ورفع بها عيسى بن مريم، وانزل القرآن. وما خلّف صفراء ولا بيضاء الا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لاهله(1)».
وتأبين الحسن هذا - بأسلوبه الخطابي - فريد لا عهد لنا بمثله، لانه - كما ترى - لم يعرض الى ذكر المزايا المعروفة في الراحل العظيم، كما هي العادة المتبعة في أمثال هذه المواقف، ولا سيما في تأبين الرجال الذين احتوشوا الفضائل، فكان لهم أفضل درجاتها، ومرنوا على المكارم فاذا هم في القمة من ذرواتها، علماً وحلماً وفصاحة وشجاعة وسماحة ونسباً وحسباً ونبلاً ووفاء واباء، كعلي الذي حيّر المادحين مدح علاه. فلماذا يعزف الحسن عليه السلام، فيما يؤبنه به عن الطريقة المألوفة في تأبين العظماء ؟. ترى أكانت الصدمة القوية في مصيبته به، هي التي سدّت عليه - وهو الخطيب المصقع وابن أخطب العرب - أبواب القول فيما ينبغي أن يقول، أم أنه كان قد عمد الى هذا الاسلوب قاصداً، فكان في اختيارالاسلوب الخاص، ابلغ الخطباء وابرعهم اصابة للمناسبات، وأطولهم خطابة على اختصار الكلمات.
نعم انه يؤبّنه بما لا يسع أحداً في التاريخ أن يؤبن به غيره. وكل تأبين على غير هذا الاسلوب، كان بالامكان أن يؤبَّن على غراره غيره وغيره من عظماء الناس. اما الاوصاف الفريدة التي ذكرها الحسن لأبيه في هذا التأبين، فكانت الخصائص العلوية التي لا تصح لغير علي في التاريخ، ولا يشاركه فيها أحد من العظماء ولا من الاولياء.
انه ينظر اليه من زاويته الربانية - نظر امام الى امام - فاذا هو الراحل الذي لا يشبهه راحل ولا مقيم، ولا يضاهيه - في شتى مراحله - وليٌّ ولا زعيم.
رجلٌ ولكنه الذي لم يسبقه الاولون ولا يدركه الآخرون. وانسان ولكنه بين جبرئيل وميكائيل، وهل هذا الا الانسان الملائكي. ترفع روحه يوم يرفع عيسى، ويموت يوم يموت موسى، وينزل الى قبره يوم ينزل القرآن الى الارض! مراحل كلها بين ملَكٍ مقرّب ونبي مرسلٍ وكتاب منزل، ومع رسول اللّه يقيه بنفسه. فما شأن مكارم الدنيا، الى جنب هذه المكرمات الكرائم، حتى يعرض اليها في تأبينه.
ولعلك تتفق معي الآن الى أن هذا الاسلوب الرائع «الفريد» فيما أبن به الحسن أباه عليهما السلام، كان أبلغ تأبين في ظرفه، وأليقه بهذا الفقيد.
وهذه احدى مواقفه الخطابية، التي دلت بموهبتها الممتازة على نسبها القريب، من جده ومن أبيه (صلى اللّه عليهما وعلى آلهما). وسيكثر منذ اليوم أمثالها، من الحسن «الخليفة» عليه السلام، بحكم نزوله الى قبول البيعة من الناس، وبما سيستقبله من طوارئ كثيرة، تستدعيه للكلام وللقول وللخطابة في مختلف المناسبات.

* * *

ووقف بحذاء المنبر في المسجد الجامع - وقد غص بالناس - ابن عمه «عبيد اللّه بن عباس بن عبد المطلب». ينتظر هدوء العاصفة الباكية المرَّنة، التي اجتاحت الحفل، في أعقاب تأبين الامام الحسن لابيه عليهما السلام.
ثم قال - بصوته الجهوريّ الموروث - الذي يدوّي في الارض دويّ أصوات السماء، وما كان عبيد اللّه منذ اليوم، الا داعي السماء الى الارض:
«معاشر الناس هذا ابن نبيكم، ووصي امامكم فبايعوه» «يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه، ويهديهم الى صراط مستقيم».
وفي الناس الى ذلك اليوم، كثير ممن سمع نص رسول اللّه صلى اللّه عليه واله، على امامته بعد ابيه. فقالوا: «ما أحبّه الينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة». وبادروا الى بيعته راغبين.
وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة ابيه عليه السلام، سنة اربعين للهجرة(2).
وهكذا وفقت الكوفة لان تضع الثقة الاسلامية في نصابها المفروض لها، من اللّه عز وجل ومن العدل الاجتماعي، وبايعته - معها - البصرة والمدائن وبايعه العراق كافة، وبايعه الحجاز واليمن على يد القائد العظيم «جارية بن قدامة»، وفارس على يد عاملها «زياد بن عبيد»، وبايعه - الى ذلك - من بقي في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والانصار، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد، ولم يتخلف عن بيعته - فيما نعلم - الا معاوية ومن اليه، واتبع بقومه غير سبيل المؤمنين، وجرى مع الحسن مجراه مع أبيه بالامس. وتخلّف أفراد آخرون عرفوا بعد ذلك بالقعّاد.
اما الخلافة الشرعية. فقد تمت «على ظاهرتها العامة» من طريق البيعة الاختيارية، للمرة الثانية في تاريخ آل محمد صلى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين وطلعت على المسلمين من الزاوية المباركة التي طلعت عليهم بالنبوة قبل نصف قرن. فكانت من ناحية صلتها برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، امتداداً لمادة النور النبويّ، في المصباح الذي يستضيء به الناس. ومع الخليفة الجديد كل العناصر المادية والمعنوية التي تحملها الوراثة في كينونته ومثاليته.
فكان على ذلك الأولى بقول الشاعر:

نال الخــلافة اذ كانت له قدراً***كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ

* * *

ويعود الامام الحسن عليه السلام - بعد أن أُخذت البيعة له - فيفتتح عهده الجديد، بخطابه التاريخيّ البليغ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الامر، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجوّ المتلبد بالغيوم من مفاجئات واخطار..
فيقول. (وهو بعض خطابه):
«نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسول اللّه الاقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول اللّه في امته، ثاني كتاب اللّه الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوّل علينا في تفسيره، لا نتظنن تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فان طاعتنا مفروضة، اذ كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرونة، قال اللّه عزّ وجل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّه والرسول وقال: ولو ردّوه الى الرسول واولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم».
ثم يمضي في خطابه، ويردف أخيراً بقوله:
«واحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان فانه لكم عدوّ مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس واني جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال اني بريء منكم اني أرى ما لا تَرون. فستلقون للرماح وردا، وللسيوف جزرا، وللعُمُد حطما، وللسهام غَرَضا. ثم لا ينفع نفساً ايمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيراً(3)»..
ثم نزل من على منبره، فرتب العمّال، وأمَّر الامراء ونظر في الامور(4).
______________________________
(1) اليعقوبي (ج 2 ص 190) وابن الاثير (ج 3 ص 16) ومقاتل الطالبيين.
(2) يرجع فيما ذكرناه هنا الى شرح النهج لابن ابي الحديد (ج 4 ص 11) وذكر غيره مكان عبيد اللّه أخاه عبد اللّه. وسنشير في فصل «القيادة والنفير» الى ان عبد اللّه لم يكن في الكوفة أيام بيعة الحسن.
(3) روى هذه الخطبة هشام بن حسان. وقال: انها بعض خطبته بعد البيعة له بالامر البحار (ج 10 ص 99) والمسعودي.
(4) وروى هذا النص اكثر المؤرخين.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page