إستراتيجية الصلح عند الإمام الحسن (ع) :
ما أكرم أبا محمّد الحسن المجتبى (ع) ، وأسخى تضحيته حين أقدم على الصلح الذي اعتبره بعض حواريِّه ذُلاًّ وزعَمَهُ أعداؤه جبناً واستسلاماً ، ولم يكن إلاّ أروع صور النصر على الذات ، ومقاومة نزوة الهوى والمحافظة على دماء المسلمين ، وتحقيقاً لكلمة الرسول الصادق المصدّق (ص) حين قال :
إنّ ابني هذا سيّد ، ولعلّ اللـه عزَّ وجلَّ يصلح به بين فئتين من المسلمين [19] .
فلولا أنّ الحسن كان قدوة الصلاح ، وأسوة التضحيات ، وجماع المكرمات ، وكان بالتالي الإمام المؤيَّد بالغيب . لتمزقت نفسه الشريفة بصعود معاوية اريكة الحكم ، وهو الذي قال فيه الرسول (ص) :
إذا رأيتم معاوية هذا على منبري فاقتلوه ، ولن تفعلوا .
ولولا اتصال قلبه الكبير بروح الرب إذاً لمات كمداً . حيث كان يرى تقهقر المسلمين وصعود نجم الجاهلية الجديدة .
ولولا حلمه العظيم النابع من قوة إيمانه باللـه وتسليمه لقضائه ، إذاً ما صبر على معاوية . وهو يرقى منبر جده ، ويمزق منشور الرسالة ، ويسب أعظم الناس بعد الرسول .
بلى ، ولكنّ الحسن (ع) آثر الآخرة على الدنيا . وقبل الصلح للاسباب التالية :
1- إن نظرة أهل البيت (ع) إلى الحكم كانت تنبع من انه وسيلةً لتحقيق قيم الرسالة . فإذا مال الناس عن الدين الحق ، وغلبت المجتمع الطبقات الفاسدة ، وأرادت تحويل الدين إلى مطية لمصالحهم اللامشروعة .
فليذهب الحكم إلى الجحيم .. لتبقى شعلة الرسالة متقدة ، ولتصب كلّ الجهود في سبيل إصلاح المجتمع أولاً ، وبشتى الوسائل المتاحة .
لقد قال الإمام علي (ع) عن أسلوب الحكم :
واللـه ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنه يغدر ويفجر . ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس . ولكن كلّ غُدرة فُجرة وكلّ فُجرة كُفرة ، ولكلّ غادرٍ لواءٌ يُعرف به يوم القيامة . واللـه ما أُستغفل بالمكيدة ولا أُستّغمز بالشديدة [20] .
أما عن نظرته إلى الحكم ذاته فقد رُوي عن عبد اللـه بن العباس أنه قال :
دخلت على أمير المؤمنين (ع) وهو يخصف نعله . فقال لي : ما قيمة هذا النعل ؟.
فقلت : لا قيمة لها .
فقال (ع) : واللـه لَهِيَ أحبُّ إليّ من إمرتكم ، إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً [21] .
2- ولقد عاش الإمام الحسن (ع) مرحلة هبوط الروح الإيمانية عند الناس ، وبالذات في القبائل العربية التي خرجت من جو الحجاز . وانتشرت في أراضي الخير والبركات ، فنسيت رسالتها أو كادت .
فهذه كوفة الجند التي تأسست في عهد الخليفة الثاني لتكون حامية الجيش ، ومنطلقاً لفتوحات المسلمين الشرقية ، أصبحت اليوم مركزاً لصراع القبائل ، وتسيس العسكر . وأخذ يتبع من يعطي أكثر . فبالرغم من وجود قبائل عربية حافظت على ولائها للإسلام والحق ، ولخط أهل البيت الرسالي . إلاّ أن معظم القبائل التي استوطنت أرض السواد حيث الخصب والرفاه بدأت تبحث عن العطاء ، حتى أنهم تفرقوا عن القيادة الشرعية ، وبدأوا يراسلون المتمردين في الشام حينما عرفوا أنّ معاوية يبذل أموال المسلمين بلا حساب ، بل إنك تجد ابن عمِّ الإمام الحسن وقائد قوات الطليعة في جيشه . عبيد اللـه بن العباس . يلتحق بمعاوية طمعاً في دراهمه البالغة مليون درهمٍ .
ونجد الكوفة تخون مرة أخرى إمام الحق الحسين (ع) ، حينما يبعث إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل . فيأتيهم ابن زياد ويمنِّيهم بأن يزيد في عطائهم عشرة . فإذا بهم يميلون إليه ويُقاتلون سبط رسول اللـه وأهل بيته بابشع صورة ، ودون أن يسألوا ابن زياد عمّا يعنيه بكلمة عشرة . فإذا به يزيد في عطائهم عشرة تُميرات فقط .. ولعلَّهم كانوا يمنون أنفسهم بعشرة دنانير !!
لقد تعبت الكوفة من الحروب ، وبدأت تفكر في العيش الرغيد . وغاب عنهم أهل البصائر الذين كانوا يحومون حول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ويذكِّرون الناس باليوم الآخر . ويبيّنون للناس فضائل إمامهم الحق . لقد غاب عنهم اليوم عمار بن ياسر الذي كان ينادي بين الصفيْن في معركة صِفِّين : الرواحَ إلى الجنة !. ومالك الأشتر الذي كان لعليٍ (ع) مثلما كان عليٌّ لرسول اللـه (ص) بطلاً مقداماً . وقائداً ميدانيّاً محنكاً .
وغاب ابن التيهان الذي يعتبره الإمام علي (ع) أخاً له ، ويتأوه لغيابه ، بلى لقد غاب أهل البصائر من أصحاب الرسول وأنصار علي (ع) الذين كان أمير المؤمنين (ع) يعتمد عليهم في إدارته للحروب ..
وغاب القائد المقدام ، البطل الهمام ، الإمام علي (ع) أيضاً ، بعد أن أنهى سيف الغدر حياته الحافلة بالأسى ، فإنه كان قد صعد المنبر قبيل استشهاده ، وقد نشر المصحف فوق رأسه وهو يدعو ربه ويقول:
مـــا يحبــــس اشقاكم أن يجيء فيقتلني ، اللـهمّ إني قد سئمتهم وسئمونـــي ، فأَرِحْهــــم منّي وأَرِحْنــــي منهــــم [22] .
وبالرغم من أن الإمام عليّاً كان قد جهّز جيشاً لمقارعة معاوية قبيل استشهاده . وهو ذلك الجيش الذي قاده من بعده الإمام الحسن (ع) إلاّ أنّ خور عزائم الجيش . واختلاف مذاهبه وخيانة قواده ، كان كفيلاً بهزيمته حتى ولو كان الإمام علي (ع) هو الذي يقوده بنفسه ..
إلاّ أن التقدير كان في استشهاد البطل ، وأن يتم الصلح على يد نجله العظيم الذي أخبر الرسول (ص) أن اللـه سوف يُصلح به بين طائفتين من أمته .
ويشهد على ذلك ما جاء في حديث مأثور عن الحارث الهمداني قال :
لمّا مات عليّ (ع) جاء الناس الى الحسن وقالوا : أنت خليفة أبيك ووصيّه ، ونحن السامعون المطيعون لك ، فمرنا بأمرك فقال :
كذبتم ، واللـه ما وفيتم لمن كان خيراً منِّي ، فكيف تفون لي ؟. وكيف أطمئن إليكم ولا اثق بكم ؟. إن كنتم صادقين فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائن فوافوا هناك [23] .
وماذا كان يمكن للإمام الحسن أن يصنعه في مثل هذه الظروف المعاكسة ؟. هل يسير في جيشه بسيــــرة معاويــــة ، ويوزع عليهم أموال المسلمين ، فمــــن رغب عنــــه عالجه بالعسل المسمــــــوم ؟. أم يسيــــــــر بسيرة أبيه حتى ولو كلّفه ذلك سلطته .
لقد ترك السلطة حين علم بأنها لم تعد الوسيلة النظيفة لأداء الرسالة ، وان هناك وسيلة أفضل وهي الإنسحاب إلى صفوف المعارضة وبث الروح الرسالية في الأمة من جديد ، عبر تربية القيادات ، ونشر الأفكار ، وقيادة المؤمنين الصادقين المعارضين للسلطة وتوسيع نطاق المعارضة . وهكذا فعل (ع) .
3- وشروط الصلح التي أملاها الإمام على معاوية . وجعلها بذلك مقياساً لسلامة الحكم ، تشهد على أنه (ع) كان يخطط لمقاومة الوضع الفاسد ، ولكن عبر وسائل أخرى . لقد جاء في بعض بنود الصلح ما يلي :
1- أن يعمل ( معاوية ) بكتاب اللـه وسنّة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين .
2- وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين .
3- وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللـه في شامهم ، وعراقهم ، وحجازهم ، ويمنهم .
4- وعلى أنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم ..
5- وعلى أن لايبغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول اللـه غائلة سراً ولا جهراً ، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق [24] .
إن نظرة خاطفة لهذه الشروط تهدينا إلى أنها اشتملت على أهم قواعد النظام الإسلامي من دستورية الحكم ( على هدى الكتاب والسنّة ) وشوريّة الحكم . وإنه مسؤول عن توفير الأمن للجميع وبالذات لقيادة المعارضة ، وهم أهل بيت الرسول . وقـد قبل معاوية بهذه الشروط ، مما جعلها أساساً للنظام عند الناس . وقد وجد الإمام بذلك أفضل طريقة لتبصير الناس بحقيقته ، وتأليب أصحاب الضمائر والدين عليه ، حين كان يخالف بعض تلك الشروط .
قد تحمّل الإمام الحسن عناءً كبيراً في إقناع المسلمين بالصلح مع معاوية ، حيث إنّ النفوس التي كانت تلتهب حماساً ، والتي كانت معبأة نفسيّاً ضد معاوية ، كانت تأبى البيعة معه . على أنّ القشريين من طائفة الخوارج كانت ترى كفر من أسلم الأمر إلى معاوية ، وقد قالوا للإمام الحسن (ع) : ( كفر واللـه الرجل ) [25] .
وقد خطب الإمام بعد صلحه مع معاوية في الناس وقال :
أيها الناس إنكم لو طلبتم ما بين جابلقا وجابرسا رجلاً جدّه رسول اللـه (ص) ما وجدتم غيري وغير أخي . وإن معاوية نازعني حقّاً هو لي فتركته لصلاح الأمة ، وحقن دمائها . وقد بايعتموني على أن تسالمــــوا من سالمت ، وقد رأيت أن أُسالمه ، وأن يكون ما صنعت حجةً على مــــن كان يتمنّى هذا الأمــــر ،
وإنْ أَدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين [26] .
ومع ذلك فقد عارضه بعض أفضل أصحابه في ذلك . فقال حجر بن عدي رضوان اللـه عليه له : أما واللـه لَوَددتُ أنك مت في ذلك اليوم ، ومتنا معك ولم نَرَ هذا اليوم ، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا .
ويبدو أن الإمام كره أن يجيبه في الملأ إلاّ أنه حينما خلا به قال :
يا حجر قد سمعتُ كلامك في مجلس معاوية . وليس كلُّ إنسان يُحب ما تُحب ، ولا رأيه كرأيك ، وإنّي لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاءً عليكم ، واللـه تعالى كلَّ يوم هو في شأن [27] .
وكان سفيان من شيعة أمير المؤمنين والحسن (ع) ، ولكنه دخل على الإمام وعنده رهط من الناس فقال له : السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين .
فقال له : وعليك السلام يا سفيان .
يقول سفيان : فنزلت فعقلت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه فقال : كيف قلت يا سفيان ؟
قال : قلت : السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين . واللـه بأبي أنت وأمّي أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة ، وسلّمت الأمر إلى اللعين ابن آكلة الأكباد ، ومعك مئة ألف كلّهم يموت دونك ، وقد جمع اللـه عليك أمر النّاس .
فقال :
يا سفيان إنّا أهل بيت إذا علمنا الحقَّ تمسّكنا به ، وإنّي سمعت عليّاً (ع) يقول : سمعت رسول اللـه (ص) يقول : لا تذهب الأيّام واللّيالي حتّى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم ، ضخم البلعوم ، يأكل ولا يشبع ، لا ينظر اللـه إليه ، ولا يموت حتى لايكون له في السماء عاذر ، ولا في الأرض ناصر ، وإنّه لمعاوية . وإنّي عرفتُ أنّ اللـه بالغ أمره .
ثم أذّن المؤذِّن فقمنا إلى حالب يحلب ناقته فتناول الإناء فشرب قائماً ثمّ سقاني وخرجنا نمشي إلى المسجد فقال لي :
ما جاء بك يا سفيان ؟
قلت : حُبُّكم والذي بعث محمدّاً بالهدى ودين الحق .
قال : فأبشر يا سفيان فإنّي سمعت عليّاً (ع) يقول : سمعت رسول اللـه (ص) يقول : يرد عليَّ الحوض أهل بيتي ومَن أحبّهم من أُمّتي كهاتين - يعني السبّابتين - أو كهاتين - يعني السبابة والوسطى - إحداهما تفضل على الأخرى ، أبشر يا سفيان ، فإنّ الدنيا تسع البرّ والفاجر ، حتّى يبعث اللـه إمام الحقّ من آل محمّد (ص) .
وفي بعض الأحيان كان الإمام الحسن (ع) يصد على أصحابه ببيعة معاوية . فحين دخل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري صاحب شرطة الخميس الذي أسسه الإمام علي (ع) ، دخل على معاوية فقال لــه معاوية : بايع . فنظر قيـــس إلى الحسن (ع) ، فقال : يا أبا محمّد بايعت ؟. فقال له معاوية أما تنتهــــي ؟. أما واللـه إنّي ... [28] .
فقال له قيس : ما شئت . أَمَا واللـه لئن شئت لتناقضت به [29] .
قال : فقام إليه الحسن وقال له : بايع يا قيس ، فبايع [30] .
___________________________________
([19]) بحار الأنوار : ( ج 43 ، ص 298 ) .
([20]) نهج البلاغة : ( ص 318 ) . كلمة ( 200 ) - اعداد صبحي الصالح - .
([21]) المصدر : ( ص 76 ) .
([22]) بحار الانوار : ( ج 42 ، ص 196 ) .
([23]) بحار الأنوار : ( ج 44 ، ص 43 ) .
([24]) المصدر : ( ص 65 ) .
([25]) المصدر : ( ص 47 ) .
([26]) المصدر : ( ص 56 ) .
([27]) المصدر : ( ص 57 ) .
([28]) يبدو أنّ معاوية أراد أن يُهدِّد قيساً . ولكنه سكت .
([29]) يبدو أنّ قيساً ردّ تهديدات معاوية ، وقال : إن شئت فإني قادر على نقض العهد .
([30]) المصدر : ( ص 62 ) .