سيرة الحسين (عليه السلام) قبل كربلاء
14-السلم والحرب
إذا أفاضَ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم في ذكر فضائل أهل البيت : عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، عليهم السلام ، فهو العارفُ بها وبهم ، والمعلّم الذي يُريد أنْ يُعرّف أُمّته بهؤلاء الّذين سيخلُفُونه من بعده هُداةً لا تضل الأُمّة ما تمسّكت بهم .
وقد صرّح الرسول بذلك ، عندما ذكرهم بأسمائهم ، وقال : [158] ألا ، قد بيّنتُ لكم الأسماء ، أنْ تضلّوا( 52).
ولقد أعلن الرسولُ عن فضلهم في كلّ مشهدٍ وموقفٍ ، وبلّغ كلّ ما يلزمُ من التمجيد بهم ، وإيجاب مودّتهم وحبّهم ، والنهي عن بغضهم وإيذائهم ، فأبلغَ ما هو مشهور مستفيض ، من دون نكير .
أمّا أن يُعلنَ الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم عن أنّه : سلم لمن سالموا ، وحرب لمن حاربوا ,فهذا أمر عظيم الغرابة فهل هم في معركة ؟ أو يتوقّع الرسولُ أن تُشَنَ حرب ضدّ أهله ؟فيُعلن موقفه منها , و ها هم أهله يعيشون في كنفه ، وفي ظلّ تجليله واحترامه ، ويغمرهم بفيض تفضيلاته ، وإيعازه للأُمّة بتقديسهم وتكريمهم , فمن الغريب حقّاً أنْ يجمع عليّاً وفاطمة ، والحسنَ والحسين ، ويقول لهم : [135] أنا سلم لمن سالمتُم ، وحرب لمن حاربتم .
و يقول في مرضه الذي قُبض فيه : [134] حَنا عليهم وقال : أنا حَرْبٌ لمن حاربكم ، وسِلْمٌ لمن سالمكم.
52) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 123).
ووجه الغرابة : أنّ الإنسان يكادُ يقطع بأنّه لم يَدُرْ في خَلَدِ أيّ واحدٍ ممّن عاصر الرسول وآمن به ، أو صحبه فترة وسمعَه يؤكّد ويكرّر الإشادة بفضل أهل البيت وتكريمهم وتفضيلهم وتقديمهم ، حتّى آخر لحظة من حياته في مرض موته , لم يَدُرْ في خَلَد واحدٍ من الصحابة المؤمنين بالرسالة المحمّدية أنْ يشنّ حرباً على آل الرسول ، أو يضرمَ ناراً على بابهم , أو يشهر سيفاً في وجه أحدهم ؟أو يحرق خبأهم وفيه النساء والأطفال ؟
فلذلك لم يُوجّه رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم خطاباً بهذا المضمون إلى الأُمّة ، لأنّهم كانوا يذعرون ، لو قال لهم : سالموا أهل بيتي ، ولا تُحاربوهم .
لكنّها الحقيقة التي يعلمها الرسولُ من وحي الغيب ، ولابُدّ أن يقولها لآَله حتّى يكونوا مستعدّين لها نفسّياً ، ولا ينالهم منها مفاجأة ، ولا يُسْقَط في أيديهم. فلذلك وجّه الخطاب إليهم بذلك خاصّة ، في كلّ النصوص ، وكأنّه دعمٌ معنويٌّ منه ، لمواقفهم ، وحثّ لهم على المضيّ في السبيل التي يختارونها ، وهكذا كان :
فما أن أغمض النبيُّ عينيْه ، حتّى بدت البغضاءُ ضدَّ أهل البيت :
فكانت لهم مع ابنته الزهراء فاطمة مواقفُ أشدّ ضراوةً من حروب الميادين ، لأنّها حدّدتْ أُصول المعارضة ، ومعالمها ، وكشفتْ عن أهدافها , وقد جاءتْ صريحةً في خطاباتها الجريئة التي أعلنتها في مسجد رسول الله , فطالبتْ أبا بكر بحقوق آل محمّد من بعده : من مقام زوجها في الخلافة ، ونحلة أبيها في فدك ، وإرثها منه كما كتبه الله وشرّعه في القرآن .
فقامتْ عليها السلام تُحاكمه في مسجد رسول الله ، أمام الأُمّة ، معلنةً لمطالبها بمنطق الأدلّة المحكمة ، من القرآن الكريم ، والسُنّة الشريفة ، وبالوجدان والضمير ، ومُنادية بلسان أبيها الرسول وذاكرة وصاياه بحقّها .
فقوبلتْ بالنكران والخذلان .
فصرّحتْ وهي تُشهد الله ، بأنّها لهم قالية ، وعليهم داعية غاضبة تذكّرهم بحديث أبيها - المتمثّل على الأذهان - القائل : فاطمة بَضْعَة مِنّي ، فَمَنْ أغْضَبَهَا أغْضَبَني (53) ذلك الحديث الذي لم يملك أحد تجاهه غير القبول والتسليم والإذعان .
وتموت فاطمة عليها السلام شهيدة آلامها وغُصّتها .
ثمّ حروب أُثيرت ضدّ عليّ عليه السلام :
في وقعة الجمل ، حيثُ اصطفّت مع عائشة فئةٌ ناكثةٌ بيعتَها له , تُحارب الإمام إلى صفّ الزبير وطلحة ، يطالبون بدمٍ ليس لهم .
وفي صفّين ، حيث تصدّت الفئة الباغية لحقٍّ قد ثبت للإمام عليّ عليه السلام وأقرَ به الصحابةُ أنصاراً ومهاجرين ، وفضلاء الناس التابعين ، وإلى صفّه كبيرّ المهاجرين والأنصار : عمّارُ , الذي بشّره الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم بالجنّة ، وقال له : تقتلك الفئة الباغية ,فقتلته فئةُ معاوية .
وفي النهروان ، حيثُ واجهه القُراَنيّون ,الّذين لم يتجاوز القرآن تراقيهم ، الّذين مرقوا من الدين كما تمرق الرمية من السهم ، فكانوا هم الفئة المارقة .
وفي كلّ المواقف والمشاهد ، وقفَ الحسنان إلى جنب أبيهما أمير المؤمنين عليه السلام .
وحُوربَ الحسنُ عليه السلام عسكرياً ، ونفسيّاً ، حتّى قضى .
وحُوربَ الحسينُ عليه السلام ، حتّى سُفك دمه يوم عاشوراء .
إنّ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم أعلن موقفه من كلّ هذه الحروب في حديثه لهم : أنا حرب لمن حاربكم.
فإنّما حُوربَ أهل البيت ، لأنّهم التزموا بهدى الرسول .
وقد أدّى كلّ منهم ما لديه من إمكانات ، في سبيل الرسالة المحمّدية ، حتّى كانتْ أرواحهم ثمناً للحفاظ على وجودها ، كي لا تخمد جذوتها ، ولا تنطمس معالمها .
______________________________________
(53) صحيح البخاري ( 5/ 36) باب مناقب فاطمة عليها السلام و (5 /26) باب مناقب قرابة رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم .