• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الاُستاذ سليمان كتاني المسيحي صاحب كتاب «الإمام عليّ نِبراس ومِتراس» يقول في إمامنا(عليه السلام)

الاُستاذ سليمان كتاني المسيحي صاحب كتاب «الإمام عليّ نِبراس ومِتراس» يقول في إمامنا(عليه السلام): هو عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب، ابن عمّ الرسول محمّدِ بن عبد الله بن عبد المطّلب الهاشمي رُبِّي عليّ وترعرع في كنف ابن عمّه، في هذا الوقت كان محمّد يتقبّل الوحي عن فم جبرئيل في غار حراء، وكان عليّ أوّل من يشهد ولادة الرسالة الجديدة، وفي سنٍّ مبكِّرة بين التاسعة والعاشرة أصبح مقتنعاً بصحة الدين الجديد.
كان باكر النضج، قويّ البيّنة، حادّ الذكاء، ثاقب النظر، شجاعاً، ملمّاً بدرجة عالية بالعلوم، وترك أثراً كبيراً بعده في كتابه نهج البلاغة ([1]).
بعد رجوع المهاجرين من الحبشة التي حدبت عليهم بدأ الصراع يأخذ شكله العنيف، وكانت «معركة بدر أوّل تحقيق، وتلتها معركة اُحد التي كان ينقلب فيها النصر إلى انخذال، فقد جُرح النبيّ فيها حتى ظُنَّ أنّه قتل، وانفرط عقد المؤمنين، ولكنّ عليّاً ببطولته حقّق النصر الأخير، وحقّق معه هتاف جبريل المشهور «لا سيف إلاّ ذوالفقار، ولا فتى إلاّ عليّ» .
أمّا وقعة خيبر، المدينة اليهودية المحصّنة والمشهورة ببوّابتها الصخرية التي اقتلعها عليّ بقوّة زنده في كلّ هذه المراحل كان عليّ اليد اليمنى لابن عمّه والأشجع والأجدى([2]).
وكان عليّ بن أبي طالب من أحبّهم المهاجرين إطلاقاً على قلب النبيّ، فهو ربيبه، رفيقه، مستشاره، ملازمه الدائم، أخوه([3]) زوج ابنته التي هي أعزّ الناس عليه فاطمة الزهراء، أبو الحسن والحسين من فاطمة الذين انحصرت فيهما ذرّية النبيّ.
وهو أوّل المؤمنين، وأقوى المدافعين، وأشجع المناضلين، وأصمد المقتحمين، وأبلغ المحقّقين، وقد لمح النبيّ عن ذلك بمثل قوله: «اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه»، «عليّ منّي وأنا من عليّ»، «من أحبّ عليّاً فقد أحبّني، ومن أحبّني فقد أحبّ الله»، «عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ»، «حقّ عليٍّ على المسلمين حقّ الوالد على الولد»، «أنت أخي في الدنيا والآخرة»([4])([5]).

شخصيّة ابن أبي طالب:
من ذلك المعدن الطيب كفكفت شخصيّة الإمام مستكملةً كلّ مقوّماتها شخصية برز العقل فيها السيّد المطلق، فإذا هي منه كما هي الديمة من الغمام تستمطره فينهمر بها انسجاماً بانسجام، وهكذا بسط لواءَه كما أسلست له قيادها فامتصّته وامتصّها قوّةً بقوّة، ولوناً بلون، حتى لكأنّ الهيكل المتين كسبيكة الفولاذ ما استجمعت أوصاله إلاّ ليكون قاعدةً جبّارةً لقائد جبّار. فإذا السيف في كفِّه وامض بكر له حدّان متساندان، حدّ على الترس، وحدّ على القرطاس في حُلّة أبداً بيضاء ذات وجهين: وجه على الجهاد، ووجه على السداد.
ازدواجية في البطولات لملمها التوحيد، فانساقت إلى المضمار كانسياق الجوارف تلاحمت إليها الجداول، وجداول من المواهب تلبَّست المزايا والصفات كما تتلبّس الأفانين أوراق الربيع، وتظافرت في تساجمها وتناسقها كحبال الشمس وحدها المصدر، وكالمصهر تتذاوب فيه المعادن. هكذا انصهرت في هذه الشخصيّة مجموعة المواهب، ومجموعة الصفات، ومجموعة المزايا، قيمةً بقيمة، ووزناً بوزن، ومقداراً بمقدار، فإذا هي يتزاوج بعضها من بعض كما تتزاوج الألوان في لوحة رسّام، وإذا المعطيات كالفيض تجري كأنّها في سباق، وتتساند كأنّها أنداد.
فالعفّة والصدق ريشتان ناعمتان كان لهما من القوّة لديه ما كان لهما منها في زنديه الترس والفرند، والزهد والجود جناحان رهيفان أفاء عليهما من ظلّه فإذا هما بعين المدى يتباعدان، ثم لديه يلتقيان، فإذا الزهد في الدنيا جود بها، وإذا الجود بالزهد اكتماله.
والتقوى والإيمان شعوران صميميّان ومنبعان صافيان غارا في جنانه، واندفقا على لسانه، فإذا هما به على نصب الكعبة حسام، ومن ورعه قبلة للإسلام.
والحقّ والعدالة صفتان متلازمتان، وقلادتان فريدتان، وحجّتان لامعتان وَشَمَ بها وجدانه، وحلّى بهما بيانه، وسنّ عليهما سنانه، فإذا القيم بين الحقّ والعدل تتلمّس في معتقده تراثها والحبّ والإخلاص حبلان وثيقان، ودفقتان سخيّتان ترابط بهما فؤاده ولسانه، فإذا الأرض بجماعاتها تنشد الدفء لتمرع.
والحزم والعزم نتيجتان منبثقتان من صلابتين متكاتفتين القوّة والإرادة، كان لهما من عينيه انعكاس على ساعديه وثورة في منهجيه، فإذا الدين والدنيا في ناظريه قالبان يستكملان وحدة الوجود من حدّيه من كلِّ تلك المقادير.

مواهب وصفات شرّبت شخصيّة عليّ بن أبي طالب:
فإذا هي في وجود الإنسان دعامة تتشبّث بها قيمة الإنسان([6]) ومهما يصفه الساردون بأقلام تشطّ في معابيرها، أو تتنزّى بها الأهواء فإنّ بطولته التي تتغلّب في سرَدِهم على بطولةً أصحاب الأساطير تبقى بطولةً أضعفَ بكثير من حقيقته لأنّها من النوع الذي تخيب في وصفه حروف الساردين من هنا أنّ كلَّ قول في عليّ بن أبي طالب يحصره في مكان أو زمان يبقى حديثاً له قيمة السَرد، ويبقى حروفاً مقفّلةً لا تنفذ إليها ألوان المعاني.
وما أكثر الأقلام التي تناولته بهذا النوع من السَرد الكليل، فحصرته ضمن الحروف ولم تتمكّن من أن تطوف به في غير جوّ مكّة والمدينة، كأنّ مجاله البعيد لا يمكن أن يتعدّى دائرةً تصطفّ عليها بدر واُحد، أو خيبر وصفّين، وكأنّ قوّته لا اعتبار لها إلاّ أن تكون من النوع الذي يأتي به مارِدُ القماقم .
والحقيقة أنّ بطولته هي التي كانت من النوع الفريد، وهي التي تقدر أن تقتلع ليس فقط بوّابة حصن خيبر، بل حصون الجهل برمّتها، إذ تتعاجف لياليها على عقل الإنسان([7]) في ظلّ النبيّ الكريم ترعرع عليّ بن أبي طالب، ولم يكد يفتح عينيه على الرسالة المطروحة بين يديه حتى امتصّها بنهم الجائع، مستوعباً كلّ معانيها وأهدافها في خطوطها القصيرة والطويلة على السواء، وأصبح منها وأصبحت منه بأمتن ما تكون به الصلات، واعتبرها خشبة الخلاص لشعب يُفكّكه اقتصاده الهزيل ويلقيه في بؤرة من التقاليد القديمة الساذجة، ويُبعده عن محارم العقل السليم والقِيَم. لا شكّ في أنّ الصدف كانت سخيّة، إذ وافق أن جاء ابن أبي طالب([8]) في وقت كان من ألمع السوانح التي اختطفتها أجواء الجزيرة، فاحتضان النبيّ هذا العقل المجنّح رجلا ثانياً هو عليّ بن أبي طالب قطب آخر من أقطاب العقل البشري، كان بالنسبة للجزيرة حظّاً مزدوجَ النتائج; لأنّ الرجلين جاءا في وقت واحد، وكأنّ الثاني إنّما جاء لتكملة الأوّل، فكان هالته وكان إطاره وبالحقيقة فإنّ ابن أبي طالب ذلك العقل النيّر المولّد لم يستبعد باحتكاكه الدائم بابن عمّه الرسول أن يكون المساعد الأوّل، والمستشار الأجلّ في كلِّ ما كان من شأنه أن يصون الرسالة الجديدة، ويمهّد لها سبل نجاحها.
إنّ في الوقت الذي يجب أن تظهر فيه، أم في الكيفيّة التي يلزم أن تؤدّى بها، وكان بالوقت نفسه ذلك المناضل الجسور، والبطل المقدام في دفاعه عنها أي الرسالة دفاع المؤمن الراسخ بصحتها وصدق مفعولها ([9]).
والرسالة التي بشَّر بها ابن أبي طالب بعد أن ساهم في نحتها وتأديتها وإخراجها والذود عنها كان يحمل من كلِّ كلمة منها كلَّ معانيها بنوع أنّها انعكست فيه تلك المعاني انعكاساً صادقاً وملازماً له في كلّ أقواله وأعماله ومخطّطاته القريبة والبعيدة وأخذ يطبِّقها نهجاً دائماً، ليكون بها قدوةً حيّةً لغيره في سبيل تحضير مجتمع فاضل يعتمد الشخصيّة الإنسانية الملقّحة بالفضائل، كأساس متين يضمن له صحة العقل وصحة النهج، وصحة الاستقرار. إنّ بناء شخصيّة الإنسان بالعقل والمناهج والمناقب كان أبرز ما أخذ ابن أبي طالب يعوِّل عليه في سبيل تطوير حياة الجزيرة.
ولقد بدأ بنفسه، ومن هنا قيمة الرجل العظيم. أقول: (بدأ) ولست أعني (حاول)، فإنّ المبادئ التي اعتنقها كانت أصيلةً فيه، فلقد مرّت قبل طرحها على الرأي العامّ على عقله، هكذا أوحاها واقع الجزيرة، وهكذا اقتبلها واقعه العقلي والعلمي .
إنّ هذه الشخصيّة المنشودة قدَّمت لها الرسالة الجديدة كلَّ ملابسها، وها هو ابن أبي طالب يفصّل منها كلّ ثيابه ويتقدّم بها زيّاً وطرازاً ليعرضها على بني قومه ليكون لديهم في قدوة العارض، لَبِسها في تفهّمه للدنيا وفي تفهّمه للآخرة. فكان زهده بالاُولى طريقاً إلى الثانية.
لَبِسها بهذا العقل المولّد والمستنير، فكان قوّةً وإرادةً وشجاعةً وبطولةً ومثالا يحتذى ولم يشعر قطُّ بأنّ الخيبة ستكون من نصيبه; لأنّه كان يرى الأشياء بمجالها الطويل، وأنّ الذي يقدّمه اليوم سوف يتعدّى فسحة عمره، لهذا قدّمه مجرّداً من كلِّ مساومة في سبيل بناء هذه الشخصيّة، قدّم ابن أبي طالب جهود عمره مثبتاً أنّ العقل هو كلّ ما في الوجود للإنسان([10]).
فعليّ بن أبي طالب هو ركيزة الأساس، وهو بالنسبة للرسالة كلِّ الرسالة في تأسيسها، وفي طريقة المحافظة عليها في نشرها وفي مجالات الدفاع عنها، وإنّ له أطولَ سلسلة من النعوت الكريمة يتحلّى بها، فهو قوّة وإرادة وشجاعة وبطولة، وعقل ومعرفة، وحقّ وعدالة ومثال وكمال فأيّ شيء يحول دون تسليم الزمام إلى يد كريمة كهذه اليد التي يعزّ نظيرها في كلِّ الجزيرة([11]).
ولم تكن لتغريه الرئاسة، فإنّه لم يطلب يوماً مجد الدنيا وكنوزها، وكثيراً ما توفّرت له فرفضها، ولكنّه كان يتشدّد في طلب الخلافة; لأنّه كان يؤمن تمام الإيمان بنفسه ولم يكن شديد الإيمان بغيره  وإنّ الرسالة التي قدّمها النبيّ لم يكن هو أخفّ منه شأناً فيها، فإنّه والنبيّ أبواها، هكذا قال الرسول: «أنا وأنت يا عليّ أبَوا هذه الاُمّة» فالرسالة له وهي جزء منه، من عقله، من قلبه، من كلِّ كيانه، فمن هو الذي يكون أحقَّ منه بالدفاع عن نفسه؟
إذن ليس حبّ الظهور هو الذي دفعه من قبل إلى المطالبة بهذا الحقّ ([12]).
فإذا ما قبل الخلافة تتجاوزه إلى غيره من الأسياد الكهول، فلأنّه كان يتعمّم فضيلة نكران الذات .
وكان في كلّ ذلك يسدّد خُطى هؤلاء الذين سابقوه إلى حقّه في القيادة([13]).
فهو منذ وفاة الرسول، لا بل منذ كان الرسول على قيد الحياة، حتى وقبل أن تعلن الرسالة على الملأ كان يمارس سياسة الحكم.
لقد مارسه أي الحكم وهو يافع يراقب سير كلِّ حركة من تنقّلات النبيّ الكريم، ثم مارسه وهو فتىً لا ينسلخ لحظةً عن مرافقة ابن عمِّه وهو يتقبّل الوحي، ليصوغه آيات بيّنات، ثمّ يمارسه وهو بالرفقة العزيزة الدائمة، يعقدان الجلسات السرّية الاستشارية في كيفيّة نقل الأمانة إلى حيِّز العمل الجدّي.
ثمّ مارسه في تنسيق هجرة واقية كسبت من الوقت عدّتها وصيانتها، ثمّ مارسه في الرجوع إلى المدينة حيث كانت بالانتظار حشود الأنصار.
ثمّ مارسه بإيمانه وعقله الكبيرين اللَذين تفتّقا على لسانه وساعديه بتلك الشجاعة والبطولة النادرتين، فخاضا غمار سلسلة من المعارك الدفاعيّة الباهرة من حيث وطّد الرسالة على أساس من القوّة والمتانة; جعلاها تستند إليهما في أضخم وأروع انطلاقة حقّقتها رسالة في وجه التاريخ.
أمّا أن يكون قد تغيّب عن اجتماع السقيفة ذلك الاجتماع الذي غُمِط([14]) فيه حقّه بالخلافة، فإنّ ذلك لم يبعده عن إكمال سلسلة ممارسته للحكم طيلة ربع قرن، ولكنّه بقي يمارسه بالمراقبة اليقظة، وينتقل معه من حدث إلى حدث، ويشارك القَمِين([15]) الثلاثة عليه مشاركة المخلص الوفّي، بصفته أوّل واحد من أهل البيت، وبصفته صاحب الرسالة، وأوّل الصحابة، ومِن أصدق أهل الحديث، وعلى رأس المفقّهين، ومن أخلص أهل الرأي، ومن أرسخ علماء العصر، وكانت ممارسته بالمراقبة من أشدّ الممارسات كسباً له، فوسعت خبرته من سياسة شعب الجزيرة إلى سياسة باقي الشعوب، ونقلته بالرسالة من حيّزها المكِّيِّ إلى نطاقها العالميِّ([16]).
لم يلبس الدنيا إلاّ بقميص من الكرابيس، وبمدرعة مرقوعة، ولم يأكلها إلاّ في حبّات من الشعير تطحنها كفّه لقمةً يابسةً لفمه، ولم يسكنها في قصورها، بل في أحقر خصٍّ من خصاصها، ولم يمتطِها إلاّ كما يمتطي الفارس الجواد إلى ساحة الجهاد، حقيرة لديه غايةً، عزيزة عليه وسيلةً «الدنيا دار منّي لها الفناء، ولأهلها منها الجلاء، وهي حلوة نظرة، وقد عجلت للطالب، والتبست بقلب الناظر، فارتحلوا منها بأحسن ما يحضركم من الزاد، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف، ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ».
وقال له مرّةً عاصم بن زياد الحارثي: يا أمير المؤمنين، هذا وأنت في خشونة ملبسك وجشوبة أكلك؟
فأجابه: «ويحك! إنّي لست كأنت، إنّ الله فرض على أئمة العدل أن يقدِّروا أنفسهم بضعفة الناس; كي لا يتبيَّغ([17]) بالفقير فقره».
هذه الدنيا التي عالجها سحابة عمره زهداً وتقىً، ومدّ إليها يده عفّةً وصدقاً وبطولةً لن يتمكن اليوم بداية الحكم من أن يصافحها مصافحة المستجدي ودّها والطامع بخدر من أخدارها، ولم يكن خدناً من أخدانها .
إنّ نهجاً واضحاً كهذا خطّ ابن أبي طالب كلَّ بنوده، وطبّقه على نفسه، وعاشه كلَّ عمره، ونشره في كلِّ أقواله وأعماله لم يبق باستطاعة أيٍّ في الدنيا أن يقلّل من قيمته، أو يقطع خيطاً واحداً من متانة نسجه، ولقد أصبح بحدِّ ذاته لونه الدائم، ونصره الأخير ([18]).
وهكذا رسم الخطّة منذ البدء، منذ أنّ حمل الرسالة بيده يلوح بها كمنقذ للجزيرة، ولقد طبّقها طوال حياته على نفسه، فإذا اعتقاده بالله اعتقاد راسخ قلّ أن يخلو حديث له من ذكر ربّه، ولم يغرف عقله إلاّ من جوهر هذا الوجود الذي هو (الله)، فكانت لديه المعرفة الكاملة بأبهى معانيها، وتثقّف بهذه المعرفة فأصبح لديه خزّان طافح بالفضائل والمكرمات; حتى لا يتمكّن القول إلاّ أنّ عليَّ بن أبي طالب هو مثال العفّة والصدق والنزاهة، ومثال القوّة التي تسلّحت بالإيمان والحقّ والعدالة، فانطوت فيه تلك الإرادة الصلبة، وفاضت عليه تلك الشجاعة النادرة، واندفقت به تلك البطولة الخارقة من حيث برزت شخصيته المثلى التي أحبّ أن يكون بها قدوةً لبني قومه في سبيل بناء الجزيرة ذلك البناء الأمثل([19]).
وسيقدّم نفسه القدوة المثلى، وسينتصر الانتصار الكامل، لأنّه سوف يبقى عنوان الإيمان بالله، ومثال الصدق والعفّة والنزاهة، ومثال الشجاعة والبطولة في الدفاع عن قيم الحقِّ والخير والجمال، وسيبقى والنبيّ الكريم أبوَين صميمين لاُمّة العرب([20]).
عفوك يا بن أبي طالب، فأنت من الرسالة كقطب الرحى، إنّ الدروب التي مشيتها برفقة الرسول تشهد بثقل خُطاك .
بضع سنين ربّما مشاها وحده وأنت إلى جنبه فيما عداها في وحدة العيش، وفي وحدة المصير، وفي وحدة المنهج، وفي وحدة التفكير.
فأيّة اعتلاجة من اعتلاجات روحه لم يكن من نفسك فيها اعتلاجة يا رفيق الدرب والعمر والجهاد، بكلِّ ما في الدرب من وعورات، وبكلِّ ما في العمر من أوصاب، وبكلِّ ما في الجهاد من أثقال.
ويا حبيباً تنزّل في شغاف حبيبه كما تنزّل البلغة على الاُوار([21])، ويا شطراً تناول شطره في كلِّ المهمّات والملمّات .
فإذا ما نمتَ في فراشه فأيّ فرق كان بين ثوبك وبُرده؟ أفهل تكون وحدة الروح أضيق فسحةً من بادرة الفداء؟ ولا غرو يا حبيب الرسول فأنت في نظره كقضيب من النور أخذ بفلقتين، هو فلقة منها، وأنت الثانية، وكنت في رأيه بوّابة العلم، إذ يكون هو مدينته، وأنت زوج ابنته وفلذة كبده فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين مع مريم بنت عمران، وأنت منه كما يكون القلب من الجسد، وكما تكون العين من الحدقة.
أيّ فكر ساوره ولم تسقط عليك ديمه؟! وأيّ عزم عزمه ولم يمرّ على زنديك ثقله؟! وأيّ سيف سلّه ولم يكن على مسنِّك شحذه؟! حتى روحه الكريمة ما أحبّ أن يقدِّمها إلاّ على راحتيك، وهو يطرحها على أحضان ربّه.
هكذا نُعِمت بالرفقة على طول السماح، وهكذا صُدِمت بالفرقة على ألم البراح، فتهيّأ، فإنّ الرسالة التي ترعرعَتْ في ظلّ قلبك، وغرفت من فيض حِجاك ستظلّ ترتبط بمحامل سيفك نياط مفاوزها; لأنّك لها إذ تغور بها الرحاب([22]).
وأنت أنت البطل صلب السيف والترس في كفّيك، ليس لفتلة في زنديك، أو لعرض في منكبيك، بل لفيض رجح على أصغريك، ثم فاض على نهجيك.
وأنت أنت الناهج الأوّل، نسجت للدنيا قميصاً على غير النول الذي حِيكَ عليه قميص عثمان، وصُغتَ للدين حُساماً كان من غير معدنِ سيفِ عشيقِ (قطام).
وأنت أنت الذي ابتدأت الركيزة وشهقت بها، تطلّ على الدنيا فوق حدودها وفوق مداها تحمل في يدك مصحف الرسالة تلوح به على غير النمط الذي لوّح به في (صفّين) مشعلاً يتجاوز وهجه سنم الجمل ومجرى الفرات; ليعبر من مكّة والمدينة ليس إلى نفوذ الجزيرة وربعها الخالي وحسب، بل ليتجاوزها مع الشمس حيث ينبزغ الشروق، وإلى حيث يرتطم الغروب لو أدرك الذين فقدوك، وحتى الذين وجدوك أنّك العملاق ولو بقامة قصيرة، وإنّ وجهك ولو من التراب هو من لون الشمس لمّا وصفوك، ولمّا صدقوا حتى اليوم أنّهم فقدوك([23]).
بهذه المناجاة أحببتُ أن أقرع الباب في دخولي على عليّ بن أبي طالب; وأنا أشعر بأنّ الدخول عليه ليس أقلّ حرمةً من الولوج إلى المحراب، وأنّي أدرك الصعوبة في كلّ محاولة أقوم بها في سبيل جعل الحرف يطيع لتصوير هذا الوجه الكريم، لأنّ التصوير يهون عليه أن يتلقط بالإشكال والإعراض في حين يدقّ عليه أن يتقصّى ما خلّف الأعراض من معادن وألوان.
وعليّ بن أبي طالب هو بتلك الألوان أكثر ممّا هو بتلك الأعراض، وأنّه عصيّ على الحروف بتصويره بقدر ما هو قصيّ عليه بمعانيه. فهو لم يأتِ دنياه بمثل ما يأتيها العاديّون من الناس، جماعات جماعات. يأتي الناس في دنياهم يقضون فيها لبانات العيش، ثم عنها بحكم المقدّر يرحلون، لا تغمرهم بعد آجالهم إلاّ موجة النسيان  أمّا هو فلقد أتى دنياه، أتاها وكأنّه أتى بها، ولمّا أتت عليه بقي وكأنّه أتى عليها([24]).
كان ابن أبي طالب أوّل من يوسّع عقله لاقتباس الدعوة الكبيرة، واستوعبها على فهم واقتناع، ولم تشكّل لديه صدمة كما شكّلت عند غيره، بل أخذها من واقع الحياة عُدّةً للحياة، لذلك دافع عنها، ومن أجلها نام في فراش ابن عمِّه في أوّل بادرة قدّمها كشهادة لاقتناعه المفعم بحقيقتها، فحسبت البادرة عليه بمستوى التضحية وسرّ الفداء، وفي سبيلها قطع الجزيرة على طول فيافيها، ليحقّق الفخر لقافلة المهاجرين وللذود عنها، اقتحم المعارك تلو المعارك بتلك الشجاعة النادرة التي وضعته في مصافِّ الأبطال النادرين([25]).
كلّ ذلك لاُلخّص القول أنّ عليّ بن أبي طالب عاش الرسالة منذ أن فهمها، وتقبّل كلّ الصدمات التي اعترضت سبيلها تقبّل المؤمن الصامد فإذا به في نهاية الأحداث عند موت النبيّ قطب من أقطابها يُشار إليه بالبنان([26]).
وتقبّل ابن أبي طالب الصدمة انتقال الخلافة إلى أبي بكر وانكفأ بها انكفاء الكريم على الأذيّة، ولم يُثرها إثارة الضغن كما أثارها سعد بن عبادة، بل راح يجمع القرآن يفتق منه على نفسه فتيق بيانه .
أخذ ابن أبي طالب رفقاءَه المهاجرين، فهو أوّلهم إيماناً بالرسالة، وأبلغهم نصرةً لها، وأشدّهم قرباً لصاحبها، وأعمقهم فهماً لمضامينها ([27]).
أعظم رجل عرفه تاريخ العرب بعد النبيّ([28]) أكبر رجل كان بإمكانه صيانة الاُمّة وارسائها على اُصول من المناقب والفضائل تتجمّل بها لو فعلت وحين تفعل إلى أبد الدهر([29]) ولقد رفض الحكم مقيّداً على يد عبد الرحمن بن عوف، ولن يتشبّث به اليوم مربوطاً بمساومة ولن يلجأ أبداً إلى الغدر والخديعة حتى يربح عرشاً ولو اقتضى ذلك تنكّبه عن الخلافة .
وكذلك لم يكن رفع المصاحف في (صفّين) ليخدعه أكثر ممّا كان ليجلّ قدره; لأنّه هو نفسه منذ ثلاثين عاماً ولا يزال يحصن الاُمّة ويهيِّئها لمثل هذه الجلوة من التحكيم، وهو اليوم مع قبوله الخديعة أوّل من يلبّي بإسناد التحكيم إلى الصفحة الكريمة.
وهو أعلم إنسان بما جاء في الآيِ الكريم، وهو القائل: «سَلُوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل»([30]).

**************
[1] ـ ص 69 .
[2] ـ الإمام عليّ نِبراس ومِتراس : ص70.
[3] ـ  بالمؤاخاة.
[4] ـ الإمام علي نبراس ومِتراس : ص71، طبع النجف الأشرف (1386هـ)، مطبعة النعمان.
[5] ـ للوقوف على مصادر هذه الأحاديث من كتب السنّة راجع كتابنا «هذه أحاديثنا أم أحاديثكم؟».
[6] ـ الإمام عليّ نِبراس ومِتراس: 79 ـ 80.
[7] ـ الإمام عليّ نِبراس ومِتراس: ص58 ـ 59.
[8] ـ لقد شاء الله سبحانه و تعالى أن يختار وصيّاً لرسوله الكريم(صلى الله عليه وآله); لعلمه تعالى بمصالح العباد والاُمّة، فاختاره بمشيئته وفقاً لحكمته و تخطيطه جلّ وعلى في هذا الوقت بالذات ليكون سنداً وعضداً ووصيّاً وخليفةً لنبيّة الكريم بنصّ القرآن والسنّة النبويّة، ولم يأتِ عليّ بن أبي طالب من اختيار الصدفة والعياذ بالله كما تفوّه بذلك الكاتب (سليمان كتاني)، بل من اختيار الله تعالى ; لما فيه من صفات الكمال والجمال الإلهي، فقد خلق الله محمداً وعلياً وأهل بيته(عليهم السلام) من نور واحد واشتق نورهم من نورِه جلّ شأنه. (لجنة التحقيق).
[9] ـ الإمام عليّ نِبراس ومِتراس: ص66.
[10] ـ الإمام عليّ نِبراس ومِتراس: ص67 ـ 68.
[11] ـ المصدر السابق: ص132.
[12] ـ الإمام عليّ متراس و نِبراس: ص136.
[13] ـ المصدر السابق: ص132.
[14] ـ الغَمْطُ: الاستهانة والاستحقار للحقّ، وجحود الحقّ. لسان العرب: ج10 ص124. (مادة غمط).
[15] ـ القَمِين: الحَريّ والخليق والجدير لسان العرب: ج11 ص310. (مادة قمن).
[16] ـ الإمام عليّ نِبراس ومِتراس: ص137 ـ 138.
[17] ـ تبيَّغَ به: هاج به، وغلبه، واشترّبه. لسان العرب: ج1 ص558. (مادة بيغ).
[18] ـ  الإمام عليّ نِبراس ومِتراس: ص 150 ـ 151.
[19] ـ المصدر السابق : ص142.
[20] ـ الإمام عليّ نِبراس ومِتراس: ص146.
[21] ـ الاُوار بالضمّ: شدّة حَرّ الشمس ولفح النار ووهجها والعطش، وقيل: الدُخان واللَهب. لسان العرب: ج1 ص260. (مادة أَوَر).
[22] ـ الإمام عليّ نِبراس ومِتراس: ص91 ـ 92.
[23] ـ الإمام عليّ نِبراس ومِتراس: ص55 ـ 56.
[24] ـ  الإمام عليّ نِبراس ومِتراس: ص 57.
[25] ـ المصدر السابق: ص102.
[26] ـ المصدر السابق: ص107.
[27] ـ الإمام عليّ نِبراس ومِتراس : ص109.
[28] ـ المصدر السابق: ص190.
[29] ـ المصدر السابق: ص189.
[30] ـ الإمام عليّ نِبراس ومِتراس: ص209.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page