الحديث القصصي
و هو الحديث الّذي يأخذ شكل ( المحاورة الأدبيّة ) ، و هذا من نحو محاورته (صلى الله عليه وآله) للسائل الّذي سألَه عن ( العقل ) و قدّم له التصنيف العلمي المشار إليه ، ثمّ واصل كلامه مع الشخص ، و أرشده إلى الطريقة الّتي يتغلّب من خلاله على كيد الشيطان ، فقال له : ( فإذا أتاك ـ أي الشيطان ـ و قال : قد ذهب مالك ، فقل : الحمدالله الّذي أعطى و أخذ ، و أذهب عني الزكاة فلا زكاة علىّ ، . إذا قال لك : الناس يظلمونك و أنت لا تظلم ، فقل : إنّما السبيل يوم القيامة على الّذين يظلمون الناس و ما على المحسنين من سبيل . إذا أتاك و قال : ما أكثر إحسانك يريد أن يدخلك العجب ، فقل : إساءتي أكثر من احساني . و إذا أتاك و قال : ما أكثر صلاتك ، فقل : غَفْلَتي أكثر من صلاتي . و إذا قال لك : لِمَ تعطي الناس ، فقل : ما آخذ أكثر ممّا أعِطي . . . الخ ) .([1])
فالملاحظ هنا أنّ ( المحاورة ) ذات طابع قصصي ممتع يجريها النبىّ (صلى الله عليه وآله)على لسان الشيطان و الإنسان ، حيث يجسّد مثل هذا الشكل الأدبي : عنصراً حيوياً منطوياً على التشويق في متابعة هذا الحوار الّذي يأخذ طابع ( الحوار الداخلي ) ، الّذي يجريه الإنسان بينه و بين نفسه حينها يوسوس له الشيطان بعمل السوء . . . فإذا كان الحديث المباشر يحمل فاعليّة التأثير بنحو عام ، فإنّ الحديث غير المباشر ـ أي الّذي يعتمد شكلا قصصياً أو غيره ـ يظل بِدَوْرِهِ أداة أُخرى يستخدمها المُشّرِع الإسلامي في إحداث تأثير أشدّ و أكثر إمتاعاً : على هذا النحو الّذي لحظناه في صياغة النبيّ (صلى الله عليه وآله) للمحاورة المشار إليها .
إنّ المحاورة القصصيّة الّتي يصوغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) تظلّ منتسبة إلى ما هو ( واقع ) و ليس اصطناعاً لمواقف أو حوادث ، فهو (صلى الله عليه وآله) يترسّم خُطَى القرآن الكريم في الركون إلى ما هو ( واقع ) حتّى في المحاورة التالية الّتي يجريها النبي على لسان العناصر الكونيّة من أرض و جبل و حديد و . . . الخ ، فلو تابعنا المحاورة المذكورة الّتي سأل فيها السائل : عن العقل و تابع فيها النبي (صلى الله عليه وآله) إرشاداته للسائل المذكور : لوجدناه يتابع إرشاده لهذا السائل فينتقل به إلى الظاهرة الكونيّة و كيفيّة إبداعها ، فيجري هذه المحاورة بين عناصر الكون ( على نحو المجاز ) إلاّ أنّ هذا المجاز نفسه ( واقع ) و ليس و هماً ، يقول النص : ( إنّ الأرض فَخَرت و قالت : أيّ شي يَغلبْني؟ فخلَق اللّه الجبال فأثبتها على ظهرها أوتاداً من أن يمتدّ بما عليها فذلّتِ الأرض و استقرّت . ثمّ أنّ الجبال فَخَرت على الأرض فشمَخت و استطالت و قالت : أي شي يغلبْني؟ فخلق الحديد ، فقطعها فذلّت . . . الخ )([2]) فالمحاورة هنا بين الأرض و الجبل ، و الجبل و الحديد الخ ، تنطوي على دلالة ( مجازيّة ) لما هو ( واقعى) أي : أنّ اللّه تعالى سخّر العناصر الكونيّة و ذلّلها من حيث التفاعلات الحادثة فيما بينها لتفيد المخلوقات منها على شتّى مستوياتها ، و هذا من نحو قوله تعالى :
( فقال لها و للأرض ائتيا : طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين ) فمخاطبته تعالى لهذه القوى هي ( إرادته تعالى ) و آتينا هما طائعين و هو تجسيد لذلك سواء أكان هذا التجسيد حركة أم فكراً أم إحساساً أم كلاماً صامتاً أو منطوقاً . . . يضاف إلى ذلك أنّ تسبيح الكون الّذي لا نفقهه ـ بصريح الآيات القرآنيّة الّتي تشير إلى ذلك ـ و تأبي الأرض و الجبال لتحمل الأمانة ـ بصريح الآية الكريمة :
( إنّا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال . . . ) .
هذه الحقائق تشير إلى أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) حينما يصوغ حواراً على ألسنة عناصر الكون ـ و قد كان داود و سليمان يتعاملان مع بعض هذه العناصر ـ فإنّه ليختلف عن البشر العادي الّذي لا يفقه شيئاً من أسرار الكون ، . . . لذلك فإنّ أمثلة هذه المحاورة لابدّ من أن تنطوي على ( واقع ) : كلّ ما في الأمر ، أنّ المحاورة تستهدف ـ من خلال لغة المجاز ـ لَفْتَ النظر إلى حقائق الظواهر الكونيّة و تسخيرها للمخلوقات ( الإنسانيّة منها بخاصة حيث أَسجدَ الملائكة لها : تحسيساً بخطورتها الّتي تقتاد بالشخص إلى أن يصبح أفضل من الملائكة في حالة الطاعة و أن يصبح أحطّ من البهائم في حالة المعصية ) .
و إذا كان النص المتقدّم يتضمن عنصر ( المحاورة ) ، فهناك من النصوص ما يتضمن عنصر ( الحكاية ) أو الحديث المشفوع بـ ( المَثَل ) الّذي لحظناه في ( الصورة ) القرآنيّة الكريمة . . . لقد نُسِب إلى النبي (صلى الله عليه وآله)قوله : ( إنّي ضربت للدنيا مثلا و لابن آدم عند الموت : مثله : مثل رجل له ثلاثة أخلاّء ، فلمّا حضره الموت قال لأحدهم : إنّك كنت لي خليلا و كنت أبرّ الثلاثة عندي ، و قد نزل بي من أمر اللّه ما ترى فماذا عندك؟ . . . فيقول : و ماذا عندي؟ و هذا أمر اللّه قد غلبني و لا أستطيع أن أنفّس كربتك و لا أُفرِّج غمّك ، و لا أُؤخِّر ساعتك ، لكن هاأناذا بين يديك فخُذْني زاداً تَذْهب به معك فإنّه ينفعك ) ثمّ يتحدث الثاني بنفس اللغة فيشير إلى أنّه تولّى غسله و تكفينه ، و يأتي دور الثالث فيقول الرجل له : ( كنت أَهوَن الثلاثة عليّ و كنت لك مضيّعاً و فيك زاهداً فما عندك؟ ) و يجيبه : ( إنيّ قرينك و حليفك في الدنيا و الآخرة أدخل معك قبرك حين تدخله و أخرج منه حين تخرج منه و لا أفارقك أبداً . هذا ماله و أهله و عمله([3]) .
واضح ، أنّ أحاديث كثيرة تُشير إلى هذا الجانب و تجري حواراً على ألسنة هذا الثلاثي بالنحو المذكور حيث تُجسِّد أمثلة هذا الحوار تعبيراً ( مجازياً ) ، عمّا ينفع و عمّا لا ينفع من السلوك ، و حيث يظل ( العمل الصالح ) هو المُستهدَف من ذلك .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ نفس المصدر: 24 .
[2] ـ نفس المصدر: ص 25.
[3] ـ نهج الفصاحة: ص 688 .