الحديث و الوصايا
و يُلاحظ أنّ ( الوصايا ) المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) و منها وصاياه للإمام عليّ (عليه السلام)تظل ـ في واقعها ـ مجموعة أحاديث من نحو : ( يا علي : إنّه لا فقر أشدّ من الجهل ، و لا مال أَعْود من العقل . . . الخ ، يا علي : آفة الحديث الكذب ، و آفة العلم النسيان . . . الخ ، يا علي : ثلاث من أبواب البرّ : سخاء النفس و طيب الكلام و الصبر على الأذى . . . الخ )([1]) .
و هكذا تمضي الوصيّة بنشر أحاديث مستقلة من جانب و لكنها متجانسة من جانب آخر ، حتّى أنّه (صلى الله عليه وآله) أَخْضَع هذه الأحاديث لهيكل فنّي من حيث الخطوط الّتي تجمع بين الأحاديث ، فهو (صلى الله عليه وآله) عندما يستهلّ كلّ مجموعة أو مقطع بمخاطبة الإمام علي (عليه السلام) : يَرْدُفُها بأحاديث متجانسة ، و هذا من نحو المقطع التالي :
( يا علي : آفة الحديث الكذب ، و آفة العلم النسيان ، و آفة العبادة الفترة ، و آفة السماحة : المنّ . . . الخ )([2]) فالجامع بينها هو مصطلح ( آفة ) حيث وصله بالكذب و النسيان و الفترة و المنّ من حيث صلتها بالحديث و العلم و العبادة و السماحة . . . و من نحو ( يا علي : ثلاث من أبواب البر : سخاء النفس ، و طيب الكلام ، و الصبر على الأذى . و من نحو ( يا علي : ثلاث يُحسَن فيهن الكذبُ : المكيدة في الحرب ، و عدتك زوجتك ، و الإصلاح بين الناس )([3]) فالمكيدة في الحرب ، وعدة الزوجة ، و الإصلاح بين الناس : تُجسِّد سلوكاً مشتركاً يستخدَم فيه ( الكذب ) الّذي يُفضي إلى عمل الخير ، فاستخدام الحيلة حيال العدو يُعدّ انتصاراً للخير لأنّه الانتصار على العدو ـ و هو الشر ـ انتصار للخير ) و كذلك الإصلاح بين الناس ، فعندما تكذب على أحد المتخاصمين و تقول له : إنّ خصمك قد مدَحَك ، حينئذ تكون بهذا الكذب قد مسحت ما في أعماق هذا الرجل من حقد و ثورة على غريمه ، . . . و كذلك عندما تَعِدُ زوجتك بشراء حاجة و أنت على معرفة كاملة بأنّ هذه الحاجة لا ضرورة لها أو أنّها تؤثّر على دخلك : حينئذ تكون قد مارست عمليّة اقتصاد تعصمك من الإفلاس و المتاعب : بخاصة أنّ المرأة ـ غالباً ـ تصدر عن سلوك عاطفي لا تفكّر من خلاله بدخل الرجل و إمكاناته أو لا تفكِّر من خلاله بنتائج اقتناء الحاجة غير الضروريّة ، امّا لاستتباع ذلك فساداً أو ترفاً يتنافى مع ضرورة تدريب الإنسان على تناول ما هو ضروري فحسب .
و مهما يكن ، فإنّ ما نستهدفه من هذا العرض للأحاديث هو : أنّها تخضع فنّياً إلى تخطيط فكري تَتلاحَم من خلاله موضوعات هذه الأحاديث و تخضع لخيط فكري يوحِّد بينها ، بالنحو الّذي لحظناه .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ تحف العقول: ص 7 .
[2] ـ نفس المصدر: ص 7 .
[3] ـ نفس المصدر: ص 9 .