• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

أدب الامام السجّاد (عليه السلام)

أدب الامام السجّاد (عليه السلام)

 

يمكن الذهاب إلى أنّ الإمام السجّاد (عليه السلام) ، قد اتيح له من حيث زمن إمامته نسبيّاً أن يفرز نتاجاً إلى درجة أنّ الملاحظ لنتاجه ، يمكنه أن يقرّر بأنّ ذلك من حيث الكم يأتي في المرتبة التالية بعد الإمام عليّ (عليه السلام) ، كما يجيء من حيث الكيف متميزاً بسمات خاصّة ، و في مقدمة ذلك : أدب الدعاء الّذي منحه السجّاد (عليه السلام)خصائص فكريّة و فنّيّة تفرّد بها (عليه السلام) .

و إذا كان أدب الجنس و اللهو و الخمر بدأ بالتحرّك في هذا العصر ، كما أنّ أدب المدح لسلاطين الدنيا ، و الأدب العقائدي المنحرف بعامّة ، فضلا  عن الصراعات السياسيّة المختلفة ـ بما في ذلك انتقال السلطة الأمويّة من بيت لآخر ـ ثمّ ملاحظة الاستئثار بالسلطة الزمنيّة و استبدال القيم الإسلاميّة بقيم عنصريّة  و في مقدمة ذلك : محاربة الإسلاميين ، و محاربة الموالي ممّا مهّد لأدب عنصري و هجائي يرتدّ إلى الذهنيّة الجاهليّة . . . كلّ أولئك قابله الإمام السجّاد (عليه السلام)بالتوفّر على أدب خاصّ ، يتجه من جانب إلى نقد الأوضاع المنحرفة ، و يتجه من جانب آخر إلى بناء الشخصيّة الإسلاميّة في المستويين الفردي و الاجتماعي ، بحيث يمكن القول بأنّ أدب السجّاد (عليه السلام)كان تجسيداً للحركة الإسلاميّة مقابل الأدب الدنيوي الّذي بدأ ينحرف مع انحرافات السلطة و ينحدر إلى ما هو عابث و مظلم و منحرف . . .

المهمّ ، أن نعرض ولو سريعاً لأدب السجّاد (عليه السلام) ، و نبدأ بالحديث أولا عن :

 

 

 

 

 

1 . الأدب السياسي

موقفه من السلاطين

مادام الانحراف بدأ يفرز خطوطه بوضوح في هذا العصر ، حينئذ نتوقّع من الإمام (عليه السلام) أن يمارس وظيفة التوعية الإسلاميّة حيال السلطة الزمنيّة المنحرفة ، و يحذّر الإسلاميّين من التعاون مع السلطة ، مثلما يحذّرهم من الانحدار في الفتن و الاضطرابات الّتي واجهها هذا العصر . . . ففي إحدى توصياته (عليه السلام) يقول : « كفانا اللّه و إيّاكم كيد الظالمين و بغي الحاسدين و بطش الجبّارين . أيّها المؤمنون : لا يفتننّكم الطواغيت و أتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا ، المائلون إليها ، المفتونون بها ، المقبلون عليها و على حطامها الهامد و هشيمها البائد غداً . . . و إنّ الأمور الواردة عليكم في كلّ يوم و ليلة من مظلاّت الفتن و حوادث البدع و سنن الجور ، و بوائق الزمان ، و هيبة السلطان ، و وسوسة الشيطان لتثبط القلوب عن نيّتها و تذهلها عن موجود الهدى و معرفة أهل الحق إلاّ قليلا ممّن عصم اللّه عزّ و جلّ ، فليس يعرف تصرّف أيامها و تقلّب حالاتها و عاقبة ضرر فتنتها إلاّ مَن عصم اللّه ، و نهج سبيل الرشد ، و سلك طريق القصد ، ثمّ استعان على ذلك بالزهد ، فكرّر الفكر و اتّعظ بالعبر و ازدجر . . . و إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين و مجاورة الفاسقين ، احذروا فتنتهم و تباعدوا من ساحتهم . . .الخ »([1]) .

لنمعِنَ النظر في هذه الفقرات الّتي وردت في النصّ المتقدّم ، من نحو : ( كيد الظالمين ) ( بطش الجبّارين ) ( لا يفتننّكم الطواغيت ) ( سنن الجور ) ( هيبة السلطان ) ( صحبة العاصين ) ( معونة الظالمين ) ( مجاورة الفاسقين ) ( احذروا فتنتهم ) ( تباعدوا من ساحتهم ) . . . إنّها جميعاً تكشف عن أنّ الإمام (عليه السلام) كان حريصاً كلّ الحرص على توعية الإسلاميين ، و تحذيرهم من الانقياد وراء متاع الحياة الدنيا ، و بهارج السلطة و الجاه و الموقع ، حيث إنّ السلطة تخلّت تماماً عن الالتزام ولو شكلياً بمبادئ الرسالة الّتي شغل بها الجمهور في الفترات السابقة بحيث كانت تستأثر باهتمامه كما لحظنا . . .

و الملاحَظ أنّ الإمام (عليه السلام) كان يستثمر جميع الفرص الّتي تتيح له أن يمارس عمليّة التوعية و التحذير من التعاون مع الظالمين سواء أكان ذلك في صعيد الخطب و التوصيات العامة ـ كما لحظنا من النصّ المتقدم ـ أم كان ذلك في صعيد التوعية و التحذير لأفراد بأعيانهم ، . . . و من ذلك مثلا كتابته لأحد الأشخاص يلفت نظره إلى النتائج المترتبة دنيوياً و أخروياً على التعاون مع الظالمين . يقول (عليه السلام) في رسالته :

« فانظر أيّ رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي اللّه فسألك عن نعمه كيف رعيتها و عن حججه عليك كيف قضيتها ، و لا تحسبن اللّه قابلا منك بالتعذير ، و لاراضياً منك بالتقصير ، هيهات ، هيهات ، ليس كذلك أخذ على العلماء في كتابه إذ قال : ( لتبيِّننّه للناس و لا تكتمونه ) . و اعلم أنّ أدنى ما كتمت و أخفّ ما احتملت أن آنست وحشة الظالم ، و سهلت له طريق الغي بدنوِّك منه وإجابتك له حين دعيت ، فما أخوفني أن تبوء بإثمك غداً مع الخونة و أن تسأل عمّا أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة ، إنّك أخذت ما ليس لك ممّن أعطاك و دنوت ممّن لم يرد على أحد حقّاً و لم ترد باطلا حين أدناك و أجبت من حادّ اللّه ، أو ليس بدعائه إيّاك ـ حين دعاك ـ جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم و جسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم و سُلّماً إلى ضلالتهم؟ »([2]) .

واضح ، أنّ الإمام (عليه السلام) في هذه ( الرسالة ) يحدّد الوظيفة الاجتماعيّة للمفكرين ، حيث إنّ اللّه تعالى كما يقول (عليه السلام) : « أخذ على العلماء في كتابه إذ قال : ( لتبيّننَّه للناس و لا تكتمونه ) » ، و حينئذ فإنّ تعاونهم مع الظالم يساهم في نشر الضلال ، دون أن يردّوا باطلا ، فضلا عن أنّهم يؤمنون وحشة الظالم ، و فضلا عن أنّهم يظلّون بمثابة جسر يعبر الظالمون عليهم لتمرّر مظالمهم . . . الخ .

المهمّ ، أنّ الإمام (عليه السلام) و هو يمارس هذه الوظيفة الاجتماعيّة في التنبيه على المناخ السياسي لهذا العصر ، و التحذير من التعاون مع الظالمين ، إنّما يكشف بذلك عن أهمّ خصائص هذا العصر و انعكاساته على حقل الأدب و من ثمّ انعكاساته على تحديد وظيفة الإمام (عليه السلام) و أثر هذه الوظيفة على رجال الفكر ، حيث أنّ توجيهاته و توصياته (عليه السلام) لابدّ أن تترك أثراً على ميدان النشاط الأدبي بالنسبة لعدد كبير من رجال الفكر الملتزمين . . .

و أمّا :

فـنّـيّـاً

يمكن ملاحظة كلّ من ( الخطبة ) و ( الرسالة ) اللتين وقفنا عندهما من حيث خصائص الفنّ و مدى احتشادهما بالعناصر الجماليّة الّتي اعتمدها (عليه السلام)لتوصيل هدفه الفكري . . . فالفقرات الأخيرة ـ من الرسالة على سبيل المثال ـ قد اعتمدت عنصر ( التمثيل ) و ( الاستعارة ) بنحو يتناسب تماماً مع السياق الموضوعي الّذي استخدم فيه هذا العنصر الصوري ، . . . قال (عليه السلام) :

« جعلوك قُطباً ، أداروا بك رحى مظالمهم ، و جسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم ، و سُلّماً إلى ضلالتهم » . . .

هذه الصور الفنّيّة الثلاث تتوكّأ على عنصري . . التمثيل و الاستعارة ، و قد استخدمها الإمام (عليه السلام) في صورة كليّة موحّدة تتألّف من صور جزئيّة هي ( قُطب الرحى ، و الجسر ، و السُلّم ) . . . و أهميّة مثل هذا التركيب الصوري تتمثّل في كونه (عليه السلام) قد انتخب ظواهر مألوفة واضحة في خبرات الناس جميعاً مثل الرحى و الجسر و السُلّم حيث يواجه الإنسان يومياً أمثلة هذه الخبرات . و هذه خصيصة واحدة . . .

أمّا الخصيصة الفنّيّة الثانية : فقد استخدم الإمام (عليه السلام) ثلاث ظواهر متجانسة من حيث كونها تتماثل في دلالاتها ، « فالجسر » مثلا هو خاص لعمليّة العبور ، و « السُلّم » خاص لعمليّة الصعود ، أي أنّ كليهما وسيلة لحركة الانتقال من مكان لآخر ، و عندما يستخدمهما الإمام (عليه السلام) في توضيح هدف خاصّ ، إنّما يكون ذلك قد انتخب ظواهر خاصة قد التقطت بمهارة و دقة ، و كذلك « الرحى » حيث إنّها تستخدم لطحن الأشياء من خلال الاعتماد على القُطب منها ، و المهم أنّ هذه الظواهر الثلاث بالرغم من الفوارق بينها إلاّ أنّها تستخدم لأهداف متماثلة ، فالقُطب تدار عليه الرحى من أجل عمليّة طحن ، و الجسر من أجل عمليّة عبور ، و السُلّم من أجل عمليّة صعود ، . . . و حين يستخدمها الإمام (عليه السلام)في قضيّة التعاون مع الظالم ، يكون بذلك قد انتخب أدقّ الظواهر لهذا الغرض ، بل إنّ استخدامه للصورة ( التمثيليّة ) بدلا من التشبيه مثلا يدلّنا على أنّه (عليه السلام) قد انتخب عنصر ( الصورة التمثيليّة ) لأنّ الجسر و السُلّم و القُطب هي ( تمثيل ) للتعاون مع الظالم . . .

و أمّا الخصيصة الثالثة ، فهي أنّ الإمام انتخب ( قطب الرحى ) للمظالم ، و انتخب ( الجسر ) للبلايا ، و انتخب ( السُلّم ) للضلالة ، . . . و لهذا الانتخاب دلالاته الفنّيّة ، فالمظالم هي شدائد تدور على الإنسان ، و لذلك كان من المناسب أن يختار ظاهرة ذات ( دوران ) و هي : الرحى ، و جعل الشخص ( قُطباً ) تدور عليه هذه الرحى . . . و أمّا ( الضلال ) فهو عمليّة تدنٍّ و هبوط ، إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام)استخدم مفهوم ( الضد ) و هو : الصعود ، لكي يوضّح بأنّ المتعاون مع الظالم قد اتّخذ ( سُلّماً ) للصعود بالضلال الّذي هو تدنٍّ و هبوط في الواقع .

و هذا النمط من التركيب الصوري يجسّد خصيصة فنّيّة رابعة حيث يستخدم ( التضاد ) من خلال ( التماثل ) . . .

و أمّا « الجسر » فبما أنّه وسيلة عبور حينئذ فإنّ البلايا ـ و هي المصائب ـ طالما تقترن بكونها ممّا يمرّ عليها و يعبر عليها لتثبيت مواقع الظالمين ، من حيث إنّ مواقعهم و سلطانهم يمرّ من خلال مصائب الآخرين ، كما هو واضح . . .

إذن : أمكننا أن نتبين جملة من الخصائص الفنّيّة المثيرة في هذا الانتخاب لعنصر ( الصورة ) ، فيما تجانست ـ فنّياً ـ مع طبيعة الأفكار الّتي استهدف الإمام (عليه السلام)توصيلها إلى الناس .

و الأمر نفسه يمكننا ملاحظته في ( الخطبة ) الّتي وقفنا عندها ، حيث حشدها (عليه السلام) بعنصر صوري ملحوظ من نحو : ( حطامها الهامد ، و هشيمها البائد ) ، و حشدها بعنصر إيقاعي محلوظ أيضاً من نحو : ( فكرّر الفكر ، و اتّعظ بالعِبَر ، و ازدجر ) حيث استخدم عنصر ( التجانس الصوتي ) بمستوياته المختلفة ( فكرّر الفكر ) ـ و هو تجانس في أكثر من صوت ـ ( العِبَر ، ازدجر ، الفكر ) ـ و هو تجانس في أكثر من فاصلة . . . الخ . هذا فضلا عن حشد الخطبة بعنصر لفظي قائم على التكرار ، و التضاد ، و التتابع ،  و . . . الخ .

*    *    *

 

 

 

2 . الأدب الاجتماعي

النماذج المتقدمة ، تشكّل ( أدباً سياسياً ) من حيث كونها تتعرّض للسلطة و العلاقات الاجتماعيّة المرتبطة بها .

و هناك نوع من الأدب الّذي يُعنى بالعلاقات الاجتماعيّة أيضاً ، إلاّ أنّها تتجاوز ما هو خاص ـ مثل السياسة ـ إلى مطلق العلاقات الاجتماعيّة ، و هذا ما توفّر الإمام (عليه السلام) على العناية به أيضاً في ضوء الواقع الاجتماعي الّذي يواجه الإنسان فيما يفرض عليه إقامة علاقات خاصة و عامة من خلال المفهوم العبادي لهذه العلاقات . . .

و قد أتيح للإمام السجّاد (عليه السلام) أن يتوفّر على صياغة ( بحث ) أو ( مقال ) اجتماعي يتناول حصيلة أو مختلف العلاقات الّتي تربط الفرد بسواه ، حيث صاغ (عليه السلام) خمسين مادة اجتماعيّة ، تلخّص علاقة الإنسان باللّه ، و المجتمع و الفرد . أي أنّ هذه المواد ترسم التصوّر الإسلامي لعلاقة الإنسان بالآخرين ، فيما ينبغي لفت النظر إلى الأهميّة الكبيرة لمثل هذه المواد الّتي تتجاوز البحث الخاصّ أو الجزئي إلى نظريّة اجتماعيّة في العلاقات . . .

لقد رسم الإمام (عليه السلام) ثلاثة مستويات من المسؤوليّة على الإنسان :

1 . مسؤوليته حيال اللّه تعالى .

2 . مسؤوليته حيال نفسه .

3 . مسؤوليته حيال الآخرين .

و من الواضح أنّ العلاقات الاجتماعيّة تنحصر في هذه الأطراف الثلاثة ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ العلاقة مع اللّه تشكّل طرفاً خاصاً أو طرفاً رئيساً تترتب عليه العلاقات الأُخرى ، و هذا ما أوضحه الإمام (عليه السلام) : « إنّ للّه عليك حقوقاً محيطة بك في كلّ حركة تحرّكتها ، أو سكنة سكنتها ، أو منزلة نزلتها ، أو جارحة قلبتها ، أو آلة تصرّفت بها ، بعضها أكبر من بعض ، و أكبر حقوق اللّه عليك ما أوجبه لنفسه تبارك و تعالى من حقّه الّذي هو أصل الحقوق و منه تفرع » .

و أمّا ما يتّصل بعلاقة الإنسان مع نفسه ، فقد أبرز الإمام (عليه السلام) مستويات التعامل مع جوارحه السبع : البصر ، السمع ، اللسان ، اليد ، الرجل ، البطن ، الفرج ، أي كيفيّة استخدامها في العمل العبادي .

و أمّا ما يتّصل بعلاقة الإنسان مع الآخرين ، فقد حدّدها (عليه السلام) بدأً من أصغر وحدة اجتماعيّة : العائلة ، إلى أكبر موسّسة اجتماعيّة : الدولة ، أو الإمام ، مروراً بالأقرباء ، الجيران ، الأصدقاء ، الرعيّة ، الأقليات ، الخصوم ، . . . الخ .

ثمّ يعلّق (عليه السلام) على هذه العلاقات أو الحقوق الّتي فصّل الحديث عنها ، قائلا :

« فهذه خمسون حقّاً محيطاً بك لا تخرج منها في حال من الأحوال ، يجب عليك رعايتها و العمل في تأديتها و الاستعانة باللّه جلّ ثناؤه على ذلك ، و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه ، و الحمد للّه ربّ العالمين »([3]) .

ما يعنينا من هذه الوثيقة الاجتماعيّة بُعدها الفكري و الفنّي ، أما بُعدها الفكري فيكفي أنّها تشكّل وثيقة لم يتوفّر على مثلها أي باحث اجتماعي من حيث تصنيفها لمفهوم ( العلاقات ) ، فضلا عن أنّ هذه العلاقات قد تمّ صياغتها وَفقاً للمفهوم العبادي للإنسان ، ممّا يجعلها متفردة في ميدان البحث الاجتماعي .

و أمّا فنّياً ، فلا نتوقّع من البحث الاجتماعي أن يُعنى بعناصر إيقاعيّة أو صوريّة ـ مثلا ـ تنصبّ العناية فيها على توضيح الأفكار بنحو جليّ ، و محدّد . . . لكن مع ذلك نجد أنّ العنصر اللفظي من جانب ، من حيث إحكام العبارة ، ثمّ توشيحها بين حين و آخر ببعض العناصر الصوريّة و الإيقاعيّة من جانب ثان ، فضلا عن بنائها المحكم من جانب ثالث ، نجد كلّ ذلك متوفّراً في الوثيقة المشار إليها .

فمثلا يقول (عليه السلام) عن علاقة الإنسان بمن ينصحه : « و أمّا حقّ الناصح فأن تلين له جناحك ، ثمّ تشرئبّ له قلبك ، و تفتح له سمعك » : حيث حشد هذه الفقرة بثلاث استعارات : فجعل للّين جناحاً ، و للقلب امتداداً ، و للسمع باباً . . .

و حين تحدّث عن علاقة الإنسان بإمامه لصلاة الجماعة ، قال : « . . . فأن تعلم أنّه قد تقلّد السفارة فيما بينك و بين اللّه ، و الوفادة إلى ربّك ، و تكلّم عنك و لم تتكلّم عنه ، و دعا لك و لم تدعُ له ، و طلب فيك و لم تطلب فيه ، و كفاك همّ المقام بين يدي اللّه و المسألة له فيك و لم تكفه ذلك » .

فالملاحظ هنا ، أنّ عنصر ( التقابل ) و ( التكرار ) و ( التجانس ) و ( المزاوجة اللفظيّة ) قد لعب دوراً كبيراً في إضفاء الجمال و الإمتاع على العبارات المشار إليها ، . . .

و يمكنك أن تتأمّل بدقّة عبارات من نحو : ( دعا لك ، لم تدعُ له ) ( طلب منك ، لم تطلب منه ) ( كفاك ، لم تكفِه ) حتّى تتحسّس جماليّة مثل هذه الأدوات اللفظيّة : من تقابل ، و نفي ، و إيجاب  . . .الخ ، و هكذا سائر العبارات الّتي تحتشد بعنصر لفظي و صوري مثل « أنّه يدك الّتي تبسطها ، و ظهرك الّذي تلتجئ إليه ، و عزّك الّذي تعتمد عليه   . . .الخ » ، حيث تتابعت صور ( التمثيل ) في هذه الفقرة مقابل تتابع صور ( الاستعارة ) في فقرات سابقة . . . و من نحو : ( إنّ اللّه جعلها سكناً و مشراحاً و أنساً و واقية ) حيث حشد أربع صور متتابعة واحدة بعد الأُخرى . . .

و مثل قوله عن الأُمّ : « وَقَتْكَ بسمعها و بصرها و يدها و رجلها و شعرها و بشرها و جميع جوارحها ، مستبشرة بذلك ، فرحة ، موبلة محتملة . . . الخ » ، حيث حشد الفقرات باستعارة لجميع جوارح الأم : السمع ، البصر ، اليد ، الرجل . . . الخ ، ثمّ وشّحها بصياغة فنّيّة ذات عنصر وصفي مثل : فرحة ، موبلة ، محتملة . . . الخ ، فضلا عن توشيحها بتجانس صوتي من حيث الفواصل أو من حيث تماثل الأصوات  . . .الخ .

إذن : بالرغم من أنّ الوثيقة الاجتماعيّة المشار إليها ، قد تمحّضت للبحث عن ظواهر عمليّة تتصل بتصنيف العلاقات بين الإنسان و بين الأطراف الثلاثة : اللّه تعالى ، النفس ، الآخرين ، إلاّ أنّه (عليه السلام) وشّحها بلغة فنّيّة بالنحو الّذي أوضحناه .

*     *     *

 

 

 

 

3 . الأدب الأخلاقي

ما تقدّم من النماذج ، جسّد  ـ كما لحظنا ـ نصوصاً اجتماعيّة ، بعضها يتصل بظواهر اجتماعيّة عامة مثل : العلاقات العامّة ، و بعضها بما هو خاصّ مثل : علاقة الإنسان بالمؤسسة الرسميّة ـ الدولة ـ .

و هناك أيضاً ظواهر من نمط آخر تتصل بالسلوك العام أو ما يسمى بــ ( البُعد الأخلاقي ) من الشخصيّة ، سواء أكان ذلك يتصل بعلاقة الإنسان مع اللّه ، أو بعلاقته مع الآخرين ، أو بطبيعة تعامله مع البيئة الماديّة الّتي تحيط به ، و هذا من نحو تعامله مثلا مع متاع الحياة الدنيا ، حيث تشير التوصيات الإسلاميّة إلى مفهوم ( الزهد ) حيال المتاع المذكور ، . . . و هذا ما توفّر الإمام (عليه السلام) أيضاً على طرحه في أشكال متنوعة من التعبير : خطابة ، رسالة ، خاطرة ، دعاء . . . الخ ، حيث نلحظ مثلا قوله (عليه السلام) في وصفه لسمة الزاهدين :

« إنّ علامة الزاهدين في الدنيا ، الراغبين في الآخرة : تركهم كلّ خليط و خليل ، و رفضهم كلّ صاحب ، لا يريد ما يريدون ، ألا و إنّ العامل لثواب الآخرة هو الزاهد في عاجل زهرة الدنيا ، الآخذ للموت أُهبته ، الحاثّ على العمل قبل الأجل و نزول ما لابدّ من لقائه ، و تقديم الحذر قبل الحين ، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول : ( حتّى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ أرجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت )فلينزلنّ أحدكم اليوم نفسه كمنزلة المكرور إلى الدنيا . . . و اعلم ويحك يا ابن آدم إنّ قسوة البطنة و فطرة الميلة و سكر الشبع و عزّة المُلك ممّا يثبط و يبطئ عن العمل و يُنسي الذِكر و يلهي عن اقتراب الأجل ، حتّى كأنّ المبتلى بحبّ الدّنيا به خَبَلٌ من سكر الشراب ، فإنّ العاقل عن اللّه الخائف فيه العامل له ليمرن نفسه و يعوّدها الجوع حتّى تشتاق إلى الشبع ، و كذلك تضمر الخيل لسبق الرهان »([4]) .

هذا النموذج من الأدب الأخلاقي يطفح بدوره بعناصر فنّيّة متنوعة كما هو ملاحَظ ، و يكفي أن نتأمّل الأخير من هذا النصّ ، حتّى نلحظ مدى توشيحه بقيم الفنّ ، و لنقرأ : « حتّى كأنّ المبتلى بحبّ الدنيا به خَبَلٌ من سكر الشراب » حيث اعتمدت هذه الفقرة عنصر التشبيه ، و لنقرأ أيضاً : « و كذلك تضمر الخيل : لسبق الرهان » حيث اعتمدت هذه الفقرة عنصراً صورياً مهمّاً هو الصورة الفنّيّة الاستدلاليّة . . . و ما أن ندقّق في هاتين الصورتين مثلا حتّى ندرك أهميّتهما فنّياً و فكرياً ، . . . فتشبيه المبتلى بحبّ الدنيا بمن مسّه خَبَل من الشراب ينطوي على دقة بالغة الأهميّة ، فهو استخدم الأداة ( كأنّ ) دون أن يستخدم أداتي التشبيه المعروفتين ( الكاف ) و ( مثل ) ، نظراً لأنّ الأداة ( كأنّ ) خاصة بالتشبيه الّذي يقل عن درجة الوسط في رصده للعلاقة بين المشبّه و المشبّه به ، فإذا كان الشبه كبيراً بين الطرفين استخدمت الأداة ( مثل ) ، و إذا كان متوسّطاً استخدمت الأداة ( الكاف ) ، و إذا كان أقلّ من المتوسط استخدمت ( كأنّ ) . و بما أنّ درجة التشابه بين السكر من الدنيا و السكر من الشراب لا تصل إلى حدّ التماثل أو التقارب ، حينئذ فإنّ استخدام الأداة ( كأنّ ) تظل هي الأداة الفنّيّة الّتي تتناسب مع هذا التشبيه . . . و أمّا الصورة الاستدلاليّة ( و كذلك تضمر الخيل : لسبق الرهان ) فهي تفرض جماليتها على القارئ ما دمنا نعرف بوضوح أنّ تدريب الإنسان على الجوع يقتاده بالتدريج إلى أن يزهد بالشبع ، و من ثَمّ يتصاعد بسلوكه إلى القمة من حيث تحقيق التوازن النفسي للإنسان ، و هو غاية ما تتطلع البشريّة إليه ، أي تحقيق التوازن ، . . . لذلك فإنّ الصورة الاستدلاليّة القائلة بأنّ ( الخيل تضمّر : لسبق البرهان ) تظل بديلا فنّياً لمن يجوع لتحقيق التوازن الداخلي ، فكما أنّ الخيل يقلّل من أكلها من أجل أن يتحقّق سبقها في الرهان ، كذلك عندما يقلِّل الشخص من أكله من أجل أن يتحقّق سبقه إلى تحقيق التوازن النفسي ، فضلا عمّا يقتاده ذلك إلى الربح الأخروي بطبيعة الحال .

*     *     *

 

 


 

 

 

 

أدب الدعاء

ما قدّمناه من النماذج الأدبيّة للإمام السجّاد (عليه السلام) ، يظل تجسيداً لنصوص تحدّثت عن ظواهر سياسيّة و اجتماعيّة و أخلاقيّة اتّخذت شكل خطبة أو رسالة أو بحث أو ظاهرة ، إلاّ أنّ أهم ما ينبغي ملاحظته هو : أنّ المفهومات السياسيّة و الاجتماعيّة و الأخلاقيّة و سواها من الظواهر الّتي سنعرض لها ، إنّما تكثّفت بنحو ملحوظ في أحد الأشكال الأدبيّة الّتي يختص بها أدب التشريع الإسلامي ألا و هو : ( الدعاء ) ، حيث يمكن القول ـ كما أشرنا سابقاً ـ بأنّ الإمام السجّاد (عليه السلام)يُعدّ متفرّداً في توفّره على صياغة الأدعية من حيث الكم و من حيث التنوّع في أشكال الدعاء و مستوياته و دلالاته ، . . . لذلك مادام الإمام السجّاد (عليه السلام) قد تفرّد في هذا الميدان بحيث أشار أكثر من مؤرِّخ بأنّ أدب الدعاء لدى الإمام السجّاد (عليه السلام) جسّد « الأسلوب الأدبي » الّذي اختطّه (عليه السلام)في مواجهته لمشكلات الإنسان و العصر . . .

لذلك يتعيّن على مؤرّخ الأدب أن يقف عند ظاهرة ( الدعاء ) عند الإمام السجّاد (عليه السلام) ، ليفصّل الحديث عنه فنّياً و فكرياً ، مادام الدعاء قد جسّد لدى الإمام (عليه السلام) ظاهرة ملحوظة متفرّدة : من حيث الكم ، و من حيث التنوّع ، و من حيث الوظيفة الاجتماعيّة ، و من حيث السمات الفنّيّة الّتي و اكبت هذا الشكل الأدبي .

و نبدأ بالحديث عن ذلك :

 

فـكـريّـاً

يظل ( الدعاء ) عند الإمام السجّاد (عليه السلام) وسيلة فنّيّة لطرح القضايا الفرديّة و الاجتماعيّة و الكونيّة و التواصل الوجداني بشكل عام ، و إذا كان الدعاء في غالبيته تتمّ صياغته للتواصل الوجداني ـ أي : توجّه الإنسان إلى اللّه لإشباع حاجاته الروحيّة ، مثل رضى اللّه تعالى و مناجاته و تحميده . . . الخ ـ ، فإنّه لدى الإمام السجّاد (عليه السلام) تجاوز هذا الصعيد ( الوجداني ) إلى مطلق الصُعد الّتي تصاغ فيها الخطب و الرسائل و المقالات و الخواطر و الأحاديث ، أي : أنّ الدعاء يقوم بمثل ما تقوم به الخطبة أو الرسالة أو الحديث من حيث طرح القضايا العباديّة المختلفة ( سياسيّاً ، اجتماعيّاً ، عسكريّاً ، أخلاقيّاً . . . الخ ) ، و يكفينا أن ننظر إلى موضوعات ( الصحيفة السجاديّة ) الّتي جمعت فيها نصوص الدعاء للإمام السجّاد (عليه السلام) ، حتّى نتبيّن كيفيّة طرحه (عليه السلام) لقضايا الكون و المجتمع و الفرد و . . . فإذا استبقينا الأدعية المرتبطة بتحميد اللّه تعالى نجد أنّ القوى الكونيّة مثل : حملة العرش ، و الرُسل ، أو الظواهر الكونيّة مثل : الأهلّة : تأخذ نصيباً من نصوص أدعيته (عليه السلام) ، و نجد في صعيد العلاقات الاجتماعيّة دعاءاته للأبوين ، للأولاد ، للخاصّة ، للجيران : تأخذ نصيبها أيضاً ، و نجد في الصعيد العسكري دعاءه لأهل الثغور ، و هكذا سائر القضايا الاجتماعيّة أو الفرديّة أو العباديّة العامة ، فهناك أدعية لدفع الظلامات ، و أدعية لدفع كيد الأعداء ، و أدعية للاستسقاء و غيرها من الظواهر الاجتماعيّة ، و أمّا الظواهر العباديّة من نحو أدعيته في الأيام و الأسابيع و الشهور و الأعياد . . . الخ ، أو الظواهر الفرديّة من نحو أدعيته في الصحة و المرض و الشدة و الرزق و . . . الخ : هذه الأدعية تحتل مساحة ضخمة من النتاج . و أمّا :

فـنّـيّـاً

إنّ هذه الأدعية تتميز بكونها مصاغة وَفق لغة فنّيّة مدهشة و ليست مجرد أدعية بذات مضمونات كونيّة أو اجتماعيّة أو فرديّة أو عباديّة ، و هذا ما يمنحها قيمة ضخمة بحيث تظل في مقدمة النصوص الأدبيّة الّتي ينبغي لمؤرّخ الأدب أن يُعنى بها كلّ العناية . . . لذلك نبدأ بعرض سريع للخصائص الفنّيّة الّتي تطبع ( فنّ الدعاء ) عند الإمام السجّاد (عليه السلام) ، . . . و نعرض أوّلا نصّاً عامّاً للتعرّف على مجمل الخصائص ، و هو : الدعاء لأهل الثغور .

يبدأ دعاؤه (عليه السلام) بهذا النحو :

« اللّهم صلِّ على محمّد و آل محمّد : و حصِّن ثغور المسلمين بعزّتك ، و أيّد حماتها بقوّتك ، و أسبغ عطاياهم من جِدتك .

اللّهم صلّ على محمّد و آله :

و كَثِّر عدّتهم ، و اشحذ أسلحتهم ، و احرس حوزتهم ، و امنع حومتهم . . . و امددهم بملائكة من عندك مردفين ، حتّى يكشفوهم إلى منقطع التراب : قتلا في أرضك ، و أسْراً ، أو يقرّوا بأنّك أنت اللّه الّذي لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك .

اللّهمّ و اعمم بذلك أعداءك في أقطار البلاد من الهند و الروم و الترك و الخزر و الحبش و النوبة و الزنج و السقالبة و الديالمة و سائر أمم الشرك الّذين تخفى أسماؤهم و صفاتهم و قد أحصيتهم بمعرفتك و أشرفت عليهم بقدرتك . . .

اللّهمّ و امزج مياههم بالوباء ، و أطعمهم بالأدواء ، و ارمِ بلادهم بالخسوف ، و ألحّ عليها بالقذوف . . .

اللّهمّ و أي غاز غزاهم من أهل ملّتك . . . فلقِّه اليُسرَ ، و هيّىء له الأمر ، . . . و تخيّر له الأصحاب ، و استقوِ له الظهر ، و أسبغ عليه في النفقة ، . . .

و أطفئ عنه حرارة الشوق و أجره من غمّ الوحشة ، و أنسه ذكر الأهل و الولد ، . . . »([5]) .

مضموناً يحتشد هذا النصّ بأفكار ترتبط بمتطلبات المعركة من حيث صياغة الشخصيّة المقاتلة ، و من حيث تشخيص العدوّ و طرائق خذلانه ، . . . و أمّا فنّياً فيحتشد النصّ بصور و إيقاعات متنوعة ، بحيث لا تكاد تمرّ فقرة إلاّ و تشكّل مع مثيلتها فاصلة مقفّاة ( بعزّتك ، بقوّتك ، جدتك ) ( أسلحتهم ، حوزتهم ، حومتهم ) ( بالوباء ، بالأدواء ) ( بالخسوف ، بالقذوف ) . . . لكن عندما لا يستدعي الموقف إيقاعاً منتظماً حينئذ يختفي هذا العنصر ، و ذلك من نحو عرضه لهويات الأعداء : من الروم ، و الترك ، و الهند ، و الزنج ، و السقالبة ، و الديالمة . . . الخ ، كذلك يحتشد النصّ بعنصر الصورة ، لكن دون أن تتكثّف النسبة ، و ذلك لأنّ متطلبات كلّ دعاء تفرض حيناً تكثيفاً لعنصر الصورة و حيناً آخر تقليلا له ، . . . و كذلك عنصر الإيقاع ، و هو أمر سنتحدث عنه عند عرضنا لكل عنصرفنّي على حدة . . . و نبدأ ذلك بالحديث أوّلا عن :

البناء الخارجي

يظل البناء الفنّي للدعاء عند الإمام السجّاد (عليه السلام) مطبوعاً لسمات الإحكام و الإتقان و المتانة بنحو ملحوظ . . .

و أوّل ما ينبغي ملاحظته هنا ، أنّ كلّ دعاء يتضمن ( بُعداً موضوعياً ) يستهلّ به أو يختم به أو يتخلّل وسطه أن يتخلّل بدايته و وسطه و نهايته . . . و نعني بــ ( البُعد الموضوعي ) هو : أن يقترن الدعاء ( مهما كان نمطه ) بالتمجيد للّه تعالى ، من جانب ، و بالصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) و آله (عليهم السلام) من جانب آخر ، فمادام الدعاء هو محاورة انفراديّة مع اللّه تعالى فحينئذ تظل أُولى سماته هي : « الخطابيّة » من نحو عبارة ( اللّهمّ ) أو ( إلهي ) و سواهما . . . حيث تستدعي مثل هذه العبارة ( حمداً ) أو ( ثناء ) بالضرورة ، كما تقترن في الغالب بالصلاة على محمد و آله أيضاً بصفتهم (عليهم السلام) وسائل للتقرّب إلى اللّه تعالى . . . و من الواضح أنّ الدعاء عندما يقترن بأمثلة هذه العبارات إنّما يحتفظ بسمته ( الموضوعيّة ) الّتي تتمحّض للّه تعالى ، . . . فنحن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الادعية هي على مستويات متنوعة ، منها ( الدعاء الموضوعي ) و هو ما يرتبط بالتمجيد للّه تعالى فحسب : حينئذ فإنّ ( الهدف العبادي المحض سوف يطبع مثل هذا الدعاء . . . ) لكن هناك أدعية تخصّ الحاجات الفرديّة فحسب ، و حينئذ فإنّ ربط هذه الحاجات الفرديّة بالتمجيد للّه تعالى و بالصلاة على النبىّ و آله (عليهم السلام)يجعل الدعاء في أشكاله جميعاً ذا طابع ( موضوعي ) يتصاعد على الحاجات الفرديّة المحضة ، و هذا ما يكسب الدعاء أهميته الكبيرة دون أدنى شك . . .

و يمكننا أن نستشهد بأحد نماذج الأدعية لملاحظة البناء الفنّي فيه من حيث عناصره ( الموضوعيّة ) المشار إليها . . . و هو :

دعاء مكارم الأخلاق

إذا كانت وثيقة رسالة الحقوق الّتي تضمّنت البحث عن حصيلة العلاقات الاجتماعيّة ، تمثِّل وثيقة اجتماعيّة ـ أي : انتسابها للمعرفة الاجتماعيّة ـ ، فإنّ ( مكارم الأخلاق ) يُعدّ وثيقة نفسيّة ـ أي : انتسابها للمعرفة النفسيّة الّتي تتناول في أحد أقسامها سمات الشخصيّة ـ حيث يرسم (عليه السلام) عشرات ( السمات ) الّتي تطبع الشخصيّة الإسلاميّة بحيث يمكن للملاحظ النفسي أن يستخلص منها الطابع العام لهذه الشخصيّة في مختلف سماتها العباديّة و الاجتماعيّة و العقليّة و المزاجيّة ـ ممّا لا يدخل في نطاق دراستنا الأدبيّة بقدر ما يدخل في نطاق علم النفس الإسلامي ـ . و المهم هو : أن نتبيّن عمارة الدعاء من حيث الخطوط الّتي انتظمت هذه العمارة وَفق نسق هندسي محكم ، . . .

بدأ الدعاء بهذا النحو :

1 . اللّهمَ صلِّ على محمّد و آله : و بلّغ بإيماني أكمل الإيمان ، و اجعل يقيني . . .

2 . اللّهمَ صلِّ على محمّد و آله : و اكفِني ما يشغلني الاهتمام به ، و استعملني بما تسألني . . .

3 . اللّهمَ صلِّ على محمّد و آله : و لا ترفعني في الناس درجة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها . . .

4 . اللّهمَ صلِّ على محمّد و آله : و متّعني بهُدى صالح لا استبدل به . . .

5 . اللّهمَ صلِّ على محمّد و آله : و أبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبة . . .

6 . اللّهمَ صلِّ على محمّد و آله : و حلّني بحليَة الصالحين ، و ألبسني . . .

و هكذا يمضي الدعاء في مقاطع منسّقة يبدأ كلّ واحد منها بفقرة ( اللّهم صلّ على محمّد و آل محمّد ) ، و يتناول كلّ مقطع مجموعة من السمات النفسيّة المتجانسة أو المنتسبة لجذر متجانس من السلوك مثل المقطع الأخير حيث قال :

« اللّهمَ صلِّ على محمّد و آله ، و حلّني بحُليَة الصالحين و ألبسني زينة المتّقين في بسط العدل ، و كظم الغيظ ، و ستر العائبة ، و لين العريكة ، و خفض الجناح . . . »([6]) الخ .

فهذه ( السمات ) جميعاً تنتسب إلى سمة ( عامّة ) مرتبطة بما يُسمّى في اللغة النفسيّة بــ ( نزعة المسالمة ) مقابل ( نزعة العدوان ) . . . حيث تجيء مفرداتها في سمات جزئيّة مثل : بسط العدل ، و كظم الغيظ ، و إصلاح ذات البين . . . الخ .

و المهم ، أنّ هذا النمط من البناء قد جعل من فقرة « اللّهمَ صلِّ على محمّد و آله » محطّة ( موضوعيّة ) ينتهي إليها من جانب ، كلّ مقطع يتناول موضوعاً مستقلا ، كما أنّه من جانب آخر ، يجعل للدعاء ( بُعداً موضوعياً ) هو ( مخاطبة اللّه تعالى ) ثم ( الصلاة على محمد و آله ) حتّى لا ينفصل ما هو ( حاجة فرديّة ) عمّا هو ( حاجة عباديّة ) . . .

بالمقابل ، نجد أنّ الأدعية الموضوعيّة لا يفصلها الإمام (عليه السلام) عن الأدعية الذاتيّة أيضاً ، بحيث إذا كان الدعاء يتناول ظاهرة ( موضوعيّة ) لا علاقة لها بحاجات الفرد ، حينئذ يخلّلها الإمام (عليه السلام) ( بُعداً ذاتياً ) حتّى لا ينفصل ما هو ( عبادي ) عمّا هو ( ذاتي ) أيضاً ، . . . فمثلا في دعائه (عليه السلام) إذا نظر إلى السحب و البروق ـ و هي ظواهر إبداعيّة ، نجده يصل بين هذه الظواهر الإبداعيّة و بين جانبها النفعي للإنسان ، فيقول :

« اللّهمَّ ، إنّ هذين آيتان من آياتك ، و هذين عونان من أعوانك ، يبتدران طاعتك . . . فلا تمطرنا بهما مطر السوء ، و لا تلبسنا بهما لباس البلاء ، اللّهمَ صلِّ على محمّد و آله و أنزل علينا نفع هذه السحائب و بركتها و اصرف عنّا أذاها . . . » .

و حتّى في دعائه (عليه السلام) لحملة العرش مثلا ، حينما يقول عنهم :

« فصلّ عليهم و على الروحانيين من ملائكتك و أهل الزُلفة عندك ، و حمّال الغيب إلى رسلك . . . » نجده يختم ذلك بقوله (عليه السلام) :

« اللّهمّ ، و إذا صلّيت على ملائكتك و رُسلك و بلّغتهم صلواتنا عليهم ، فصلّ علينا بما فتحت لنا من حسن القول فيهم ، إنّك جواد كريم »([7]) حيث وصل بين ( ما هو عبادي صرف ) و بين ما هو ( ذاتي ) هو : الصلاة على الداعي أيضاً ، مشفوعاً بجملة ( إنك جواد كريم ) حيث ترتبط هذه الفقرة بما هو فردي من الحاجات كما هو واضح . . .

إذن : تظل عمارة ( الدعاء ) خاضعة لمبنى هندسي هو ربط الحاجات الموضوعيّة بالحاجات الفرديّة و ذلك بسبب كون ( الداعي ) من جانب ، له حاجاته الفرديّة الّتي تحمل طابع المشروعيّة ، و بكونه من جانب آخر ، ينبغي أن يظل ( موضوعياً ) يُعنى بالظواهر التي تسمو على حاجاته الفرديّة سواء أكان ذلك في الدعاء الذاتي الّذي يربط دائماً بما هو موضوعي أو في الدعاء الموضوعي الّذي يربط بما هو ذاتي ، بالنحو الّذي لحظناه في النماذج المتقدمة . . .

و المهم بعد ذلك ، أنّ المزج بين موضوعيّة الدعاء و ذاتيته يظل خاضعاً لمبنى فنّي بالغ الإحكام بحيث تتوزّع مقاطع الدعاء وَفق خطوط منتظمة من نحو ما لحظناه في دعاء مكارم الأخلاق .

*     *    *

و هذا كلّه فيما يتّصل بالخطوط العامّة لعمارة الدعاء من حيث الشكل الخارجي له .

أمّا ما يتّصل بالشكل الداخلي للبناء أي : من حيث تلاحم أجزائه وصلة بعضها مع الآخر ، فيمكن تقديم نموذج منه تحت عنوان :

 

البناء الداخلي

يقول (عليه السلام) في إحدى مناجاته :

1 . « إلهي ، إليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة ، و إلى الخطيئة مبادرة ، و بمعاصيك مولعة و لسخطك متعرّضة ، تسلك بي مسالك المهالك ، و تجعلني عندك أهون هالك ، كثيرة العلل طويلة الأمل ، إن مسّها الشرّ تجزع و إن مسّها الخير تمنع ، ميّالة إلى اللّعب و اللّهو ، مملوءة بالغفلة و السهو ، تسرع بي إلى الحوبة و تسوّفني بالتوبة .

2 . إلهي ، أشكو إليك عدوّاً يضلّني و شيطاناً يغويني ، قد ملأ بالوسواس صدري و أحاطت هواجسه بقلبي ، يعاضد لي الهوى و يزيّن لي حبّ الدنيا و يحول بيني و بين الطاعة و الزُلفى .

3 . إلهي ، إليك أشكو قلباً قاسياً مع الوسواس متقلِّباً ، و بالرين و الطبع متلبِّساً ، و عيناً عن البكاء من خوفك جامدة ، و إلى ما يسرّها طامحة .

4 . إلهي ، لا حول و لا قوّة إلاّ بقدرتك ، و لا نجاة لي من مكاره الدنيا إلاّ بعصمتك ، فأسألك . . . »([8]) الخ  .

هذا النصّ يتضمّن أربعة مقاطع ، كلّ مقطع منها موصول بما قبله و بما بعده : فالمقطع ( 1 ) يتحدّث عن نفس أمّارة بالسوء ، بالمعصية ، و يعرض مفردات من السلوك المتصل بكثرة العلل و الأمل و الجزع و اللعب و المنع . . . الخ ، و هي مفردات تتلاحم عضوياً مع النفس الأمّارة بالسوء .

أمّا المقطع ( 2 ) فقد تحدّث عن المنبّه للسلوك المذكور متمثلا في ( الشيطان ) ، ثمّ يعرض مفردات ذلك متجسّدة في : الوسوسة ، تزيين الدنيا . . .

و أمّا المقطع ( 3 ) فيترتب على سابقه و هو الطبع و الرين على الفؤاد نتيجة لممارسة المفردات الّتي عرضت في المقطع ( 2 ) .

و أمّا المقطع الرابع فيتجه إلى ( اللّه تعالى ) لإنقاذ النفس من السوء الّذي تحدّثت المقاطع الثلاثة عنه .

إذن : التنامي العضوي بين هذه المقاطع يظل من الوضوح بمكان ملحوظ ، ممّا يفصح عن إحكام الهيكل الهندسي للدعاء ، بحيث يمكن القول بأنّ ( فنّ الدعاء ) لدى الإمام (عليه السلام) ليس مجرد عرض للمضمونات بل إخضاعها لهيكل هندسي متقن يرتبط كلّ جزء بسابقه و لاحقه ، و يتنامى كلّ جزء وَفق مراحل النمو النفسي ، حتّى ينتهي إلى المرحلة الأخيرة وَفق تخطيط مرسوم ، بالنحو الّذي لحظناه .

طبيعياً ، أنّ هذا التلاحم و النمو بين أجزاء النصّ لا يقف عند هذه المستويات فحسب ، بل يتجاوزها إلى التلاحم بين مختلف العناصر الفنّيّة ، بحيث تجيء عناصر ( الصورة ) و ( الإيقاع ) و سواهما متجانسةٌ مع الفكرة العامّة الّتي ينطوي عليها الدعاء ، و هو أمر يمكن ملاحظته عندما نعرض للعناصر الفنّيّة ، فيما نبدأ ذلك بالحديث أولا عن :

الإيقاع

يظل ( الإيقاع ) أهم عنصر في صياغة الدعاء ، بصفة أنّ الدعاء يقترن بعنصر ( التلاوة ) و ليس القراءة الصامتة ، و حينئذ فإنّ التلاوة تتطلّب إيقاعاً يتناسب مع وحداته الصوتيّة الّتي تنتظم في ( فواصل ) أو ( حروف ) متجانسة ، مضافاً إلى ( الإيقاع الداخلي ) . . . لذلك لا نكاد نجد دعاء يتخلّى عن عنصر الإيقاع بخاصة ( الفواصل المقفاة ) لأنّ القرار يجسّد بروزاً إيقاعياً أشدّ من الإيقاع الّذي يحققه التجانس بين الحروف . و يمكننا أن نتبيّن هذا الجانب بوضوح حينما نقرأ الدعاء الآتي ، حيث تمضي جميع فقراته على هذا النحو :

1 . « إلهي ، ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي ، و جلّلني التباعد منك لباس مسكنتي ، و أمات قلبي عظيم جنايتي ، فأحيِه بتوبة منك يا أملي و بُغيتي ، و يا سؤلي و مُنيتي .

2 . فو عزّتك ما أجد لذنوبي سواك غافراً ، و لا أرى لكسري غيرك جابراً .

3 . و قد خضعت بالإنابة إليك ، و عنوت بالاستكانة لديك .

4 . فإن طردتني من بابك فبمن ألوذ ، و إن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ .

5 . فوا أسفاه من خجلتي و افتضاحي ، و والَهفاه من سوء عملي و اجتراحي .

6 . أسألك يا غافر الذنب الكبير ، و يا جابر العظم الكسير .

7 . أن تهب لي موبقات الجرائر ، و تستر علي فاضحات السرائر .

8 . و لا تخلني في مشهد القيامة من برد عفوك و غفرك ، و لا تعرني من جميل صفحك و سترك .

9 . إلهي : ظلِّل على ذنوبي غمام رحمتك ، و أرسل على عيوبي سحاب رأفتك .

10 . إلهي : هل يرجع العبد الآبق إلاّ إلى مولاه ، أم هل يجيره من سخطه أحد سواه ، . . . »([9]) الخ .

فالقسم الأوّل منه : تُوحَّدُ فواصله أو قراراته الّتي تتجاوز الفقرتين ، أما الأقسام الأخرى فتزدوج قراراته أي تتوحّد في كلّ فقرتين فحسب . . . و من الواضح أنّ توحّد القرارات أو ازدواجها تظل خاضعة لطبيعة الفكرة المطروحة ، فإذا كانت الفكرة مستقلة أو شبه مستقلة أو ذات تفريع . . . الخ ، حينئذ فإنّ القرار يتشكّل تبعاً له ـ أي لهذا الجزء المستقل ـ سواء أكانت ذات فاصلتين أو أكثر . . . فالملاحظ مثلا أنّ بعض النماذج ، تتوحّد قراراته حتّى لتشبه القصيدة من نحو :

« اللّهم إنّي أعتذر إليك :

من مظلوم ظُلم بحضرتي فلم أنصره ،

و من معروف أُسدي إلىّ فلم أشكره ،

و من مُسيء اعتذر إلىّ فلم أعذره ،

و من ذي فاقة سألني فلم أوثره ،

و من حقّ ذي حقّ لزمني لمؤمن فلم أوفّره ،

و من عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره ،

و من كلّ إثم عرض لي فلم أهجره »([10]) .

إنّ هذا النص يحفل بقيم إيقاعيّة متنوعة ، فهو من جانب ( تتوحّد ) قوافيه بحيث يشبه المقطوعة الشعريّة كما قلنا ، . . . كما أنّه من جانب آخر ( تتوازن ) فقراته : مثل ( الانتظام الوزني ) في الشعر ، كما أنّه من جانب ثالث يحفل بــ ( تجانس ) صوتي ملحوظ . . . إنّ جميع قراراته ذات روي واحد ، و جميع أسطره ذات طول متماثل أو متقارب ، و جميعها أيضاً ذات تجانس صوتي لمستويين : التجانس بين الحروف أو تكرّر العبارات . . . فكل سطر تتكرّر فيه عبارتا ( مِن ) ( لم ) ( مِن مظلوم ، من معروف ، من مسيء ، . . . الخ ) ( فلم أنصره ، فلم أشكره ، فلم أعذره ) . . . و كلّ سطر ينطوي على تجانس بين حروفه مثل ( مظلوم ظلم بحضرتي ) أو خلال الأسطر جميعاً . . .

و المهم ، أن نتّجه أوّلا إلى العناية الضخمة بعنصر الإيقاع و تنويعه بهذا النحو الّذي لحظناه ، بحيث نجد السطر و كأنّه بيت شعر ، بل يتجاوز ذلك إلى أن نجد سطر يتناسق مع الآخر ليس من خلال وحدة القافيّة و التوازن فحسب ، بل من خلال تكرّر نفس العبارات ، و نفس التركيب ، . . . و نجد ثانياً أنّ طبيعة الموضوع فرض ـ في هذا النصّ ـ ( توحّد ) قراراته و ليس ( تنوّعها ) . . . و ذلك لسبب واضح هو : أنّ النصّ في صدد تقويم ( العذر ) حيال جملة من القضايا ، بحيث كان العذر هو الفكرة الّتي تحوم عليها العبارات ، لذلك كان من الطبيعي أن تتوحّد القوافي ، تبعاً لوحدة الفكرة ذاتها ، و كان طبيعياً أن تستمر العبارات المتتابعة لأنّ الفكرة نفسها ذات طابع استمراري ، حيث كان العذر يتّصل بالمظلوم ، و المعروف ، و المسيء ، و الفقير . . . الخ ، فاستلزم جعل القرارات متعدّدة بتعدّد المواقف الّتي اعتذر منها . . .

إذن : جاءت الصياغة الإيقاعيّة في هذا النصّ و سواه مرتبطة أولا ، بكون الدعاء ( معدّاً لأن يُتلى ) حيث تتطلب التلاوة عنصراً إيقاعياً ، و جاءت الصياغة الإيقاعيّة ثانياً ، مرتبطة بطبيعة الفكرة أو الموقف الّذي يفرض حيناً ( تنوّعاً ) في الإيقاع ، و حيناً آخر ( توحّداً ) في الإيقاع ، بالنحو الّذي تقدّم الحديث عنه .

*     *     *

إذاً ، كان ( الإيقاع ) يخضع لمتطلبات خاصة أوضحناها ، حينئذ فإنّ عنصر ( الصورة ) يخضع بدوره لسياقات يتطلّبها فنّ الدعاء ، و هذا ما ندرجه ضمن عنوان :

 

الصورة

تجيء ( الصورة ) في الدعاء عنصراً ـ في الدرجة الثانية ـ بالقياس إلى عنصر ( الإيقاع ) . و السرّ في ذلك أنّ ( التلاوة ) لا تتطلب في الحالات جميعاً إلاّ الإيقاع الّذي يتناسب مع التلاوة : بصفتها ( أصواتاً ) لابدّ أن يتمّ التناسق بينها ، . . . و أمّا الصورة فليس من الضروري أن تستخدم في التلاوة بقدر ما يجيء استخدامها خاضعاً لمتطلبات السياق . . . و لعلّ ما يفرّق بين الدعاء في نمطه الّذي يتمحّض لقضاء حاجة : من شدّة أو فقر أو طلب نجدة مثل أدعية الرزق أو العافية أو أدعية الاستسقاء أو النصر على العدو . . . الخ .

لعلّ ما يفرّق بين هذا النمط من الدعاء ، و بين ( المناجاة ) الّتي تتميز عن الدعاء الاعتيادي بكونها ( تواصلا ) و ( وجداً ) و ( معاناة ) و ( توحّداً ) ، هو : أنّ الدعاء الاعتيادي لا يُعنى فيه إلاّ التعبير المباشر عن الحاجات ، بعكس المناجاة الّتي ( يتعمّق ) فيها الشخص ، و ( ينفعل ) بحيث تتطلب هذه الحالات تعبيراً غير مباشر ، و حينئذ يكون الاعتماد على عنصر ( الصورة ) من تشبيه أو استعارة أو رمز أو تمثيل . . . الخ ، أمراً له مسوّغاته الفنّيّة .

إنّ بعض المواقف تستلزم دلالاتها إلحاحاً في أغوار النفس و تشابُك حالاتها ، حيث لا يتاح إبراز التشابُك لهذه الحالات الوجدانيّة إلاّ من خلال عنصر ( الصورة الفنّيّة ) ، نظراً لما تنطوي عليه طبيعة الصورة من إيحاءات و رموز و كشوف تُبَلوِر التشابُك المذكور .

و يمكننا على سبيل المثال أن نلحظ هذا الجانب في المقطع الآتي من ( مناجاة العارفين ) :

« إلهي ، فاجعلنا من الّذين ترسّخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم ، و أخذت لوعة محبّتك بمجامع قلوبهم ، فهم إلى أوكار الأفكار يأوون ، و في رياض القرب و المكاشفة يرتعون ، و من حياض المحبة بكأس الملاطفة يكرعون ، و شرائع المصافاة يرِدُون »([11]) ، فهذا المقطع يتضمّن جملة من الصور الفنّيّة الّتي تتوالى واحدة بعد الأخرى دون أن يتخلّلها تعبير مباشر ، ذلك لأنّ الحالات الوجدانيّة في هذا المقطع تتناول أعمق أشكال العلاقة بين اللّه و العبد من حيث عمق ( المعرفة ) الّتي لا تتأتى عند العامة من البشر ، و من حيث عمق ( الوجد ) الّذي لا يتاح لدى الغالبيّة منهم ، و هو أمر يتطلب الركون إلى تعبير ( مصوّر ) يشحن بدلالات ثانويّة و إيحاءات شتّى تتوافق مع تشابك و تجذّر المعرفة و الوجد ، لذلك اتّجه المقطع إلى رصد علاقات جديدة بين الظواهر وَفق تركيبة خاصة ، منها : التركيبة ( الاستعاريّة ) المتمثِّلة في رصد العلاقة بين ( أشجار الحدائق ) و ( أشواق الصدر ) من حيث ترسيخها و تغلغلها و تعمّقها داخل النفس ، فالشجر بقدر ما تمتد جذوره إلى باطن الأرض يأخذ ثباتاً أشد ، يقابله الشوق الّذي ترسخ إمكاناته بقدر ما يتكاثر و يتنامى ، فهنا لو التجأ النصّ إلى التعبير المباشر لما زاد على ذلك ، مثلا بقولنا ( اللّهمّ اجعل أشواقنا شديدة نحوك ) ، لكنه بارتكانه إلى عنصر ( الصورة ) حقّق ظاهرة تغلغل الشوق و شدّته و تناميه ، حيث نقل القارئ إلى تجربة الشجر و المزرعة ليوحي إليه بكثافة الشوق ، و كان من الممكن أن يكتفي النصّ بمجرد ( الشجر ) دون أن يضيف إليه ( الحدائق ) مادام النمو يتحقق في أيّة أرض صالحة للزراعة ، و لكن بما أنّ النصّ لم يستهدف مجرد تغلغل الشوق في الأعماق ليكتفي بالزرع ، و إنّما استهدف أيضاً الإشارة إلى المتعة الجماليّة الّتي نشاهدها في ( حديقة ) تنتظم أشجارها و تتناسق ، فتجمع إلى عمليّة ( النبت ) : ( التنظيم الجمالي ) أيضاً ، و حينئذ يكون النص قد استهدف لفت النظر إلى مدى الفرح و الحبور اللذين تنثرهما محبة اللّه في صدور ( العارفين ) فيما يتحسّسونهما ببالغ الجمال الّذي يتلاشى معه أي إمتاع دنيوي عابر . . .

إذن ، أمكننا ملاحظة هذا النصّ المحتشد بعنصر ( صوري ) ملحوظ ، من حيث المسوّغات الوجدانيّة الّتي فرضت مثل هذه الصياغة ، ممّا يعني أنّ الإمام (عليه السلام)في صياغته للأدعية و استخدامه لعناصر الصورة و الإيقاع و نحوهما ، إنّما أخضع الصياغة لطبيعة السياق الّذي يرد فيه هذا النص أو ذاك ، سواء أكان دعاء أو خطبة أو رسالة أو سواها من الأشكال الّتي تقدّم الحديث عنها .

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] ـ تحف العقول: ص 257 ، 260 .

[2] ـ نفس المصدر: ص 281 ، 284 .

[3] ـ نفس المصدر: ص 260 ، 278 .

[4] ـ نفس المصدر: ص 278 ، 279 .

[5] ـ الصحيفة السجاديّة: الدعاء رقم 27 .

[6] ـ الصحيفة السجاديّة: الدعاء ، رقم 20 .

[7] ـ نفس المصدر: الدعاء رقم 3 .

[8] ـ نفس المصدر: المناجاة ، رقم 2 .

[9] ـ نفس المصدر: المناجاة رقم 1 .

[10] ـ نفس المصدر: الدعاء رقم 38 .

[11] ـ نفس المصدر: المناجاة رقم 12 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page