• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

أدب الامام الباقر (عليه السلام)

أدب الامام الباقر (عليه السلام)

 

من الحقائق التأريخيّة المعروفة أنّه مع الإمام الباقر (عليه السلام) يبدأ عصر علمي بالنسبة لاستكمال مبادئ الشريعة الإسلاميّة ، حتّى أنّه (عليه السلام) و معه الإمام الصادق (عليه السلام) قد توفّرا على توصيل المبادئ الإسلاميّة بنحو نجد أنّ تلامذتهما يُعدّون بالآلاف ، و من ثمّ فإنّ النصوص المأثورة عنهما (عليهما السلام)تشكّل نسبة ضخمة بالقياس إلى سائر النصوص . . . و لعلّ التغيّرات الاجتماعيّة الّتي واكبت هذا العصر من حيث انتقال السلطة الاُمويّة إلى العبّاسيّين ، هذه التغيّرات الّتي خبرها العصر ، تظلّ على صلة بوفرة النتاج الّذي صدر عنهما (عليهما السلام) حيث إنّ التوسّع الثقافي سمح لكثير من روّاد المعرفة بالتوفّر على أخذها من مصادرها السليمة في نتاج الإمام الباقر (عليه السلام) و الإمام الصادق (عليه السلام) . . .

و أيّاً كان ، فإنّ لقب هذا الإمام (عليه السلام) ( و هو : الباقر ) كاف في التعريف بمدى المعرفة الّتي أفادها الناس منه (عليه السلام) ، حيث عُرِف بهذا اللقب لدى جميع الفئات الثقافيّة ، و فيما أقرّت بسعة المعرفة الّتي توفَّر عليها ، حتّى أنّ المؤرّخين يشيرون إلى أنّ أشهر شخصيّة علميّة عندما كانت تجلس إلى الإمام الباقر (عليه السلام)إنّما تبدو كأنّها صبىّ أمام المعلم . . .

طبيعياً ، أنّ الأئمة (عليهم السلام) مادام اللّه تعالى قد خصّهم بمعرفة متميّزة ، حينئذ فإنّ التقويم البشري لمعرفتهم لا يُعتدّ به بقدر ما يجسّد حجة على الآخرين ممن يحيا بمعزل عن مبادئهم (عليهم السلام) . . .

و أيّاً كان ، يعنينا أن نقدّم نماذج من أدب الإمام الباقر (عليه السلام) ، لكن بما أنّ الطابع العلمي هو الّذي فرض فاعليته في هذا المناخ أي : توصيل المبادئ الإسلاميّة في الميدان العقائدي و الأخلاقي و الفقهي و المعرفي بعامة ، حينئذ فإنّ العناية بما هو ثانوي ـ من حيث الصياغة ـ لابدّ أن تضؤل دون أدنى شك ، و إذا كانت الخطبة أو الدعاء تتطلبان قيماً صوريّة و إيقاعيّة و عاطفيّة و نحوها ، فإنّ التعبير ( العلمي ) من حقائق الفقه أو العقائد أو الأخلاق أو المعرفة البحتة ، لا تسمح ببروز القيم الإيقاعيّة أو الصوريّة أو العاطفيّة كما هو واضح . لكن مع ذلك يمكننا أن نلحظ ـ و هذا ما يطبع سائر نتاج المعصومين (عليهم السلام) ـ الجانب البلاغي العام أي : فصاحة العبارة و إحكامها ، بل يمكننا أن نلحظ حسب متطلبات السياق جوانب فنّيّة متنوعة تتخلل العبارة العلميّة أو غيرها حتّى في صعيد القيم الصوريّة و الإيقاعيّة و العاطفيّة مع ملاحظة حقيقة ـ طالما كرّرناها ـ بأنّ الشخصيّة الشرعيّة ـ النبىّ (صلى الله عليه وآله) أو المعصوم (عليه السلام) ـ تُعنى في الدرجة الأولى بما هو ( فكر ) و ليس بما هو ( ترف فنّي ) ، و إنّما يجيء ( الفنّ ) موظّفاً في سياقات خاصة ; لبلورة الفكر . . . و هذا ما نلحظه عند الإمام الباقر (عليه السلام) ذاته ، حيث أنشده الشاعر المعروف ( الكميت ) ذات يوم إحدى قصائده الّتي جاء فيها :

أخلص للّه لي هواي فما***أغرق نزعاً و لا تطيش سهامي

فقال الإمام (عليه السلام) :

قل : فقد أغرق نزعاً و لا تطيش سهامي . . .

و حينئذ أجابه الشاعر : بأنّ الإمام (عليه السلام) هو أبلغ منه فنّياً في هذا الميدان([1]) . . . أي أنّ الشاعر أقرّ بأنّ الإمام (عليه السلام) أفضل منه في الامتلاك لناصية الفنّ ، . . . و مع ذلك فإنّ الإمام (عليه السلام) قد انصبّ اهتمامه على ( الدلالة ) و ليس على قيم الإيقاع أو الصورة ، علماً بأنّ استبدال عبارة ( فما ) بعبارة ( فقد ) تنطوي على ( قيمة إيقاعياً أيضاً ) حيث إنّ صوت ( القاف ) في هذه العبارة ( يتجانس ) مع ( القاف ) في عبارة ( أغرق ) بحيث تُحسّس السامع جماليّة العبارة : إيقاعياً ، . . . مضافاً لذلك ، فإنّ الاستبدال يكسب البيت المذكور جماليّة أُخرى هي ( التقابل ) بين ( قد أغرق ) و بين ( لا تطيش سهامي ) أي : بين الإيجاب و السلب ، بينما كانت عبارة الشاعر خالية من ( التقابل ) كما هو واضح . . .

من هذا نستخلص أنّ الإمام (عليه السلام) ـ في نفس الوقت الّذي يُعنى فيه بدلالة البيت ـ قد أكسبه ( بُعداً فنّياً ) أيضاً بالنحو الّذي لحظناه . . .

المهم ، أنّ البُعد الفنّي يتجه إليه الإمام (عليه السلام) في سياقات خاصة كما كرّرنا ، و هو أمر يمكننا ملاحظته في أكثر من نموذج . . . و منه :

1 . فنّ الخطبة

بما أنّ الخطبة ـ كما أشرنا ـ تتميّز عن سواها بكونها تتطلّب بُعداً عاطفياً من جانب ، و بُعداً يعتمد الإيقاع و الصورة من جانب آخر ، و بُعداً ( لفظياً خاصاً ) من حيث انتقاء العبارة و تركيبتها ، و ما يواكب ذلك من عناصر التقابل و التكرار و المحاورة و التساؤل و التعجب و الخطاب . . . الخ ، من جانب ثالث ، حينئذ نجد الإمام (عليه السلام) يأخذ هذه الجوانب بنظر الاعتبار ، فيصوغ لنا كلاماً مشحوناً بالقيم الفنّيّة الّتي تتناسب مع ( الخطبة ) من جانب ، و تتناسب مع ( الموقف ) الّذي استدعى مثل هذه الخطبة من جانب آخر .

و لنستمع إلى الخطاب الآتي ، فيما حضر ذات يوم بعض أصحابه و قد لحظهم ( غافلين ) عن المهمة العباديّة الّتي أوكلها اللّه تعالى إليهم ، فخطبهم قائلا :

« إنّ كلامي لو وقع طرف منه في قلب أحدكم لصار ميّتاً . ألا يا أشباحاً بلا أرواح و ذباباً بلا مصباح كأنكم خشب مسندة و أصنام مريدة ، ألا تأخذون الذهب من الحجر؟! ألا تقتبسون الضياء من النور الأزهر؟! ألا تأخذون اللؤلؤ من البحر؟! خذوا الكلمة الطيّبة ممّن قالها و إن لم يعمل بها ، فإنّ اللّه يقول : ( الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه . . . ) ويحك يا مغرور ألا تحمد من تعطيه فانياً و يعطيك باقياً؟! درهم يفنى بعشرة تبقى إلى سبعمائة ضعف مضاعفة من جواد كريم . . . ويلك إنّما أنت لصّ من لصوص الذنوب كلّما عرضت شهوة أو ارتكاب ذنب سارعت إليه و أقدمت بجهلك عليه فارتكبته كأنّك لست بعين اللّه ، أو كأنّ اللّه ليس لك بالمرصاد ، يا طالب الجنة : ما أطول نومك و أكلَّ مطيّتك و أوهى همّتك ، فللّه أنت من طالب و مطلوب . و يا هارباً من النار ، ما أحثّ مطيّتك إليها ، و ما أكسبك لما يوقعك فيها ، انظروا إلى هذه القبور ، سطوراً بأفناء الدور ، تدانوا في خططهم و قربوا في فرارهم و بُعدوا في لقائهم ، عمّروا فخرّبوا و أنسوا فأوحشوا و سكنوا فأزعجوا و قنطوا فرحلوا ، فمن سمع بدان بعيد و شاحط قريب و عامر مخرب و آنس موحش و ساكن مزعج و قاطن مرحل : غير أهل القبور؟ . . . يا ابن الأيام الثلاثة : يومك الّذي ولدت فيه ، و يومك الّذي تنزل فيه قبرك ، و يومك الّذي تخرج فيه إلى ربّك ، فياله من يوم عظيم ، يا ذي الهيئة المعجبة ، و الهيم المعطنة : ما لي أراكم أجسامكم عامرة و قلوبكم دامرة ، أمّا و اللّه لو عاينتم ما أنتم ملاقوه و ما أنتم إليه صائرون ، لقلتم ( يا ليتنا نُردُّ و لانكذب بآيات ربّنا و نكون من المؤمنين ) »([2]) . . .

إنّ هذه الخطبة تحفل بصنوف من الإثارة الفنّيّة الّتي تدهش حقاً ، ولو قارناها بكلام آخر قدّمه الإمام (عليه السلام) أيضاً ـ لكن في موقف آخر يصوغ الحقائق فيه وَفق لغة مباشرة ـ لوجدنا الفارق بين هذا النموذج و النموذج الآخر ، و هو أمر يفصح عن الحقيقة الّتي طالما أشرنا إليها و هي أنّ ( الموقف ) أو ( الدلالة ) هي الّتي تستأثر باهتمام المعصوم (عليه السلام) ، و أنّ تضخّم العنصر الجمالي أو تقليله أو حتّى انعدامه يرتبط بمتطلبات السياق و ليس من أجل الفنّ وحده . . .

المهم ، أنّ الخطاب المذكور يتضمّن لغة خطابيّة ( حواريّة ) أوّلا ، من نحو : ( ويلك ) ( ما أطول نومك ) ( يا طالب الجنة ) ( فللّه أنت من طالب و مطلوب ) ( يا ابن الأيام الثلاثة )  . . .الخ ، فالعنصر الحواري هنا يتوزّع بين الاستفهام و التعجّب و القسم  . . .الخ ، و تتنوّع ضمائر الخطاب بين ( الأفراد ) كالنماذج المتقدمة ، و بين ( الجمع ) مثل ( أنّ كلامي لو وقع طرف منه في قلب أحدكم ) ( يا أشباحاً بلا أرواح ) ( ألا تأخذون ) ( ألا تقتبسون ) الخ . . .

و تتابع الجمل الخطابيّة ( ألا تأخذون الذهب من الحجر؟! ألا تقتبسون الضياء من النور؟! ألا تأخذون اللؤلؤ من البحر؟! ) .

و تتوزع الجمل الخطابيّة بين التحذير و الاستغاثة و الترغيب ( ويحك يا مغرور ، ألا تحمد من تعطيه فانياً . . . ، فلله أنت . . . الخ ) .

و هكذا نجد تنوّع الضمائر و الصيغ النداءات : تفجّر أشدّ أنواع الإثارة الفنّيّة و العاطفيّة حتّى ليكاد المستمع يحسّ بالرعدة تلهب جوانحه تحت التأثير السحري الّذي تبتعثه هذه الصياغات المتنوعة المثيرة . . . ليس هذا فحسب ، بل نجد أنّ عنصر ( التقابل ، و التماثل ، و التتابع ) هذه العناصر الثلاثة تساهم بدورها في إثارة العواطف . . .

لنقرأ :

« 1 . انظروا إلى هذه القبور ، سطوراً بافناء الدور .

2 . تدانوا في خططهم ، و قربوا في فرارهم ، و بُعدوا في لقائهم .

3 . عمروا فخرّبوا ، و انسوا فأوحشوا ، و سكنوا فازعجوا ، و قنطوا فرحلوا .

4 . فمن سمع بدان بعيد ، و شاحط قريب ، و عامر مخرب ، و ساكن مزعج ، وقاطن غير مرحل : غير أهل القبور؟ » .

إنّ هذا المقطع من الخطاب يحفل بعناصر ( التقابل و التماثل و التتابع ) بنحو ملحوظ ، فالتقابل بين العمارة و الخراب ، بين الأنس و الوحشة ، بين البُعد و القرب ، و السكن و الرحيل . . . الخ ، أمر واضح ، كما أنّ التماثل بين ( تدانوا ، قربوا ) ، و التتابع بين هذه المتقابلات و التماثلات يظل أمراً واضحاً ، مضافاً لصياغة هذه المتقابلات و المتماثلات و المتتابعات وَفق عناصر ( التساؤل أو التعجب ) و ( التخاطب ) من نحو ( فمن سمع بدان غير بعيد؟ ) و نحو ( انظروا إلى هذه القبور ) ، حيث استهلّ الكلام بالتخاطب ( انظروا ) ، ثمّ انتقل إلى ( السرد ) ( تدانوا في خططهم . . . ) ثمّ إلى التساؤل ( فمن سمع بدان بعيد؟ ) . . .

و نتّجه إلى العنصر ( الصوري ) فنجده يساهم كلّ الإسهام في إلهاب العواطف و تفجيرها حتّى لتكاد تتمزق جوانح المستمع من شدّة تأثيرها ، . . . استمع إلى هذه الصور ( التشبيهيّة ) ( كأنّك لست بعين اللّه ) ( أو كأنّ اللّه ليس لك بالمرصاد )أردفها بالصورة الرمزيّة ( يا طالب الجنة ما أطول نومك ) ( فلله أنت من طالب و مطلوب ) . . . فهذا التداخل بين التشبيه و الاستعارة من خلال اللغة الحواريّة : تفعل فعل السحر في إلهاب العواطف كما هو واضح .

كذلك لننظر إلى تداخل آخر بين الرموز و التشبيهات من نحو : ( يا أشباحاً بلا أرواح ، و ذُباباً بلا مصباح : كأنّكم خشب مسندة و أصنام مريدة ) فهنا جملتان ( رمزيتان ) تبعتهما ( جملتان تشبيهيتان ) ( أشباح و ذباب ) ثمّ ( خشب و أصنام ) . . . و قد تمّ ( التوازن ) بين الجمل الرمزيّة و الجمل التشبيهيّة ، . . . كما واكب ذلك ( توازن صوتي ) بين فواصل الجمل ، . . . لنقرأ من جديد جملتي الرمز و هما ( أرواح ، مصباح ) . . . ثمّ لننظر إلى ( التقابل الفنّي ) بين جمل الرموز و التشبيهات ، ففي الرمز ( قابل ) بين الأشباح و الأرواح ، . . . ثمّ للنظر إلى عنصر ( التماثل ) حيث ماثل في التشبيه بين الخشب و الأصنام . . . ثمّ لننظر إلى الصور ( المتضايفة ) أو المتلازمة مثل ( الذُباب و المصباح ) ، فالذُباب أو الحشرة تحوم على المصباح و لا تنفصل عنه ، إلاّ أنّ النصّ خاطب القوم بأنّهم ( ذُباب ) من دون ( مصباح ) . . .

إنّ هذه المستويات من تركيب الصور تعجّ بصنوف من الإثارة الفنّيّة الّتي لاحظناها من خلال تنوّع الصور بين التشبيه و الاستعارة و الفرضيّة و التمثيل . . . الخ ، ممّا لم نعرض لها حتّى لا نطيل الكلام ، بل يمكن للقارئ أن يلحظها بنفسه و يتمثلها و يدقق النظر فيها ، حتّى يتحسّس بنفسه مدى ما تنطوي عليه من إثارة فنّيّة لا سبيل إلى توضيحها من خلال اللغة بقدر ما يتحسّسها القارئ من خلال تذوّقه الفنّي الصرف .

و المهم ، أن يقف القارئ بنفسه عند الصور الّتي لم نعرض لها ، من نحو : ( ألا تأخذون الذهب من الحجر؟! ألا تقتبسون الضياء من النور؟! ألا تأخذون اللؤلؤ من البحر؟! ) و من نحو ( ألا تحمد من تعطيه فانياً و يعطيك باقياً؟! ) و نحو ( درهم يُفنى بعشرة تبقى سبعمائة ضعف مضاعفة ) . . .

فهذه الصور ( التضمينيّة ) الّتي تشير إلى الواحد بعشرة ، و أنّه يتضاعف إلى سبعمائة ، إنّما تقتبس دلالة الآيات القائلة :

( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ( كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حَبّة . . . ) كما أنّ الصور الرمزيّة الّتي تشير إلى ( الذهب و الضياء و اللؤلؤ ) إنّما ( ترمز ) إلى معطيات الكلمة ( الواعظة ) حيث يتعيّن على الشخص أنْ يفيد من الكلمة و يعمل بموجبها كما يفيد من الذهب و الضياء و اللؤلؤ من مصادرها الشمسيّة و الأرضيّة و البحريّة . . . كذلك ، الصورة الرمزيّة ( ألا تحمد من تعطيه فانياً و يعطيك باقياً؟! ) حيث يرمز الفناء إلى الدنيا الزائلة ، و البقاء إلى الأخرى الخالدة . . . ، فيما يتساءل قائلا : هل هناك من يحمد اللّه الّذي يقدّم له النعيم الخالد مقابل تقديم الإنسان : العمل العابر؟ . . .

و أيّاً كان ، أمكننا أن نلحظ الخصائص الفنّيّة في هذه الخطبة الّتي ارتجلها الإمام (عليه السلام) في سياق خاصّ استدعى صياغة هذه الخطبة وَفق المتطلبات الوجدانيّة بما يواكبها من عناصر لفظيّة و صوريّة و إيقاعيّة مكثّفة بحيث لا تكاد تخلو جملة واحدة منها من صورة تشبيهيّة أو استعارة أو تمثيل أو فرضيّة أو رمز ، كما لا تخلو من إيقاع خارجي مثل الألفاظ المقفاة ، و الجمل المتوازنة ، فضلا عن مختلف العناصر اللفظيّة من : تكرار ، تقابل ، تماثل ، تتابع ، حوار . . . الخ ، بحيث يترك مثل هذا الأُسلوب أثره البالغ في النفوس ، و هو أمر أشار الإمام (عليه السلام) إليه حينما قال في أول خطابه : « إنّ كلامي لو وقع طرف منه في قلب أحدكم لصار ميّتاً . . . » فهذه الصورة الفنّيّة الّتي نطلق عليها مصطلح ( الصورة الفرضيّة ) و هي : موت الإنسان في حالة استماعه لهذه الخطبة ، حيث افترض الإمام (عليه السلام) إمكانيّة ( الموت ) و لم يقل ذلك ( حقيقة ) بل ( تجوّزاً ) و إن كان التجوّز هنا يمكن أن يتحوّل إلى حقيقة في حالة تملّك الإنسان أشدّ حالات الوعي العبادي ، بيد أنّ الإمام (عليه السلام)صاغ فرضيته و هي : أنّه لو قدّر أن يؤثر هذا الكلام على أحد ، لمات من هول التقصير العبادي يطبع سلوكه بنحو عام . . .

إذن : حتّى هذه الصورة الفرضيّة الّتي قدّمها الإمام في استهلال خطابه ، تشفّ عن خصيصة فنّيّة هي : أنّ الخطبة بما حفلت به من عناصر فنّيّة تظل نصّاً يحقق مهمة الفنّ ألا و هو التأثير في المتلقّي ، بالنحو الّذي أوضحناه .

و إذا كان ( السياق ) الّذي فرض مثل هذه الخطبة قد استدعى صياغتها حافلة بصنوف التعبير الفنّي ، فإنّ النصوص الأخرى ، تظل متراوحة بين التعبير العلمي أو التعبير المتأرجح بين العلم و الفن ، أو التعبير الموشّح بشي من عناصر الإثارة الفنّيّة . . .

و يمكننا أن نلحظ النمط الّذي يتأرجح بين التعبير العلمي و الفنّي ، في الشكل الآتي و هو :

2 . فنّ الكلمة

الكلمة ، قد تكون كلاماً يوجهه الإمام (عليه السلام) إلى أحد الأشخاص ،أو وصيّة يتقدّم بها إلى أحدهم ، . . . و من ذلك مثلا وصيته (عليه السلام) لجابر الجعفي ، حيث نثر له جملة من التوصيات المصاغة بلغة تتأرجح بين الكلام المباشر و بين الكلام المصوغ بعنصر صوري ، . . . و هذا من نحو قوله (عليه السلام) :

« و اعلم أنّه لا علم كطلب السلامة ، و لا سلامة كسلامة القلب ، و لا عقل كمخالفة الهوى ، و لا خوف كخوف حاجز ، و لا رجاء كرجاء معين ، و لا فقر كفقر القلب ، و لا غنى كغنى النفس ، و لا قوة كغلبة الهوى ، و لا نور كنور اليقين ، و لا يقين كاستضعافك الدنيا ، و لا معرفة كمعرفتك بنفسك ، و لا نعمة كالعافية ، و لا عافية كمساعدة التوفيق ، و لا شرف كبُعد الهمّة ، و لا زهد كقصر الأمل ، و لا حرص كالمنافسة في الدرجات ، و لا عدل كالإنصاف ، و لا تعدّي كالجور ، و لا جور كموافقة الهوى ، و لا طاعة كأداء الفرائض ، و لا خوف كالحزن ، و لا مصيبة كعدم العقل ، و لا عدم عقل كقلّة اليقين ، و لا قلّة يقين كفقد الخوف ، و لا فقد خوف كقلّة الحزن على فقد الخوف ، و لا مصيبة كاستهانتك بالذنب و رضاك بالجهالة الّتي أنت عليها ، و لا فضيلة كالجهاد ، و لا جهاد كمجاهدة الهوى ، و لا قوة كردّ الغضب ، و لا مصيبة كحبّ البقاء ، و لا ذلّ كذلّ الطمع ، و إيّاك و التفريط عند إمكان الفرصة ، فإنّه ميدان يجري لأهله بالخسران »([3]) .

إنّ هذا النصّ يحفل بسمة فنّيّة خاصّة هي : كونه يعتمد عنصر ( التشبيه ) في تقرير قضايا عباديّة و أخلاقيّة و نفسيّة ، . . . أي أنّ هذا النصّ ـ هو في واقعه ـ وثيقة نفسيّة ترتبط بسمات الشخصيّة الإسلاميّة مثل : سلامة القلب ، مخالفة الهوى ، اليقين ، الزهد ، علو الهمّة ، . . . الخ ، بيد أنّ الإمام (عليه السلام) صاغ هذه الوثيقة وَفق لغة فنّيّة تعتمد ( التشبيه ) من خلال أداة النفي مع ملاحظة أنّ ( التشبيه الفنّي ) عند المعصومين (عليهم السلام) يختلف عن التشبيه الّذي يصوغه العاديون من البشر ، حيث يظل ( التشبيه ) عند قادة التشريع ( واقعياً ) لا يعتمد الوهم أو الإحالة أو الأسطورة و نحوها ، لذلك عندما يعقد ( تشبيهاً ) بين السلامة و القلب أو العقل و مخالفة الهوى مثل قوله (عليه السلام) ( لا سلامة كسلامة القلب ، و لا عقل كمخالفة الهوى ) فإنّ مثل هذا التشبيه يظل ( واقعياً ) كلّ الواقعيّة إذ أنّ ( سلامة القلب ) تفُوق أيّة سلامة أخرى كسلامة البدن مثلا ، فالبدن إذا كان سليماً لا ينتفع صاحبه بهذه السلامة مادام قلبه مريضاً ، حيث إنّ ( المرض النفسي ) يفقد الشخصيّة توازنها الداخلي فتحيا التوتر و التمزق و الصراع . . . الخ ، هذا من حيث الانعكاسات الدنيويّة ، أمّا من حيث الانعكاسات الأخرويّة فإنّ سلامة القلب هي المعيار الوحيد الّذي يُفضي بصاحبه إلى الظفر بالإمتاع الأخروي الخالد . . .

و أمّا السمة الفنّيّة الأخرى الّتي تطبع هذا النص ، فهي : تتابع هذه التشبيهات الّتي تتجاوز الثلاثين تشبيهاً ، حيث لا يكاد الدارس يظفر بنصّ يعتمد هذا الرقم من التشبيهات : إذ أنّ ما يسمى بــ ( التشبيه المتكرّر ) قد يبلغ ثلاثة أو أربعة أو أكثر من التشبيهات الّتي تفرضها سياقات خاصة ، أما أن تقدّم سلسلة أو قائمة ضخمة من التشبيهات بالنحو المتقدّم فأمر يندر حصوله في النصوص الفنّيّة أو العلميّة .

و أمّا السمة الثالثة في هذه التشبيهات فهي : اعتمادها على ما نسميه بالتشبيه ( التفريعي ) أي التشبيه الّذي يتفرّع منه تشبيه آخر مثل ( لا علم كطلب السلامة ، و لا سلامة كسلامة القلب ) حيث فرّع على تشبيه ( طلب السلامة ) تشبيهاً هو ( سلامة القلب ) ، . . . و هكذا سائر التشبيهات مثل ( لا نعمة كالعافية ) و تفريع التشبيه التالي عليها ( و لا عافية كمساعدة التوفيق ) ، . . .

و أمّا السمة الرابعة في هذه التشبيهات فهي : اعتمادها ( التماثل و التقابل ) مثل ( لا قلّة يقين كفقد الخوف ، و لا فقد خوف كقلّة الحزن ) حيث ماثل بين ( قلّة ) اليقين ، ( و قلّة ) الحزن ، . . . و مثل : ( لا خوف كخوف حاجز ، و لا رجاء كرجاء معين ) حيث قابل بين ( الخوف ) و ( الرجاء ) . . .

و هناك سمات فنّيّة متنوعة أخرى تعتمد ( التجانس الإيقاعي ) و سواه ، ممّا لا حاجة إلى الوقوف عندها .

إنّ هذا النموذج القائم على عنصر ( التشبيه ) يجسِّد واحداً من فنّ الكلمة . . .

ولو تابعنا الكلمة المتقدمة ذاتها ، لوجدنا أنّ قسماً منها يعتمد عنصر ( الاستعارة ) في تقرير الحقائق : مع ملاحظة خضوعها لسمات فنّيّة مماثلة للسمات الّتي طبعت النصّ المتقدّم ، . . .

لنقرأ مثلا :

« ادفع عن نفسك حاضر الشرّ بحاضر العلم ، و استعمل حاضر العلم بخالص العمل ، و تحرّز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدّة التيقُّظ ، و استجلب شدّة التيقّظ بصدق الخوف ، و احذر خفي التزيّن بحاضر الحياة ، و توقّ مجازفة الهوى بدلالة العقل ، و قف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم . . . و انزل ساحة القناعة باتقاء الحرص ، و ادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة . . .الخ »([4]) .

فالملاحظ هنا ، أنّ العبارات ( الاستعاريّة ) تتتابع و تتفرع واحدة عن الأخرى ( كما تتابع و تفرّع التشبيه ) ، فحاضر الشر يدفع بحاضر العلم ، و هذا الأخير يدفع بخالص العمل ، و هذا الآخر يتحرّز فيه بشدة التيقّظ ، و هذا الآخر بصدق المخافة . . . و هكذا . . . حيث تتفرّع كلّ صورة عن سابقتها لتشكل سلسلة مشدودة الخيوط كما لحظنا . . . فضلا عمّا واكب هذه السلسلة من عناصر التقابل ، و التماثل ، و التجانس و . . . الخ ، بنحو ما لحظناه في النصّ الأسبق . . .

*      *      *

هذه النماذج تشكل نصوصاً متأرجحة بين لغة العلم و الفنّ ، . . . و أمّا ما سبقها : فيجسّد ـ و هي فنّ الخطبة ـ نصاً فنّياً خالصاً ، . . . و هناك نمط ثالث من النصوص يمثّل النموذج الموشّح بلغة الفنّ ، أي أنّ الأصل فيه هو اللغة العلميّة ، إلاّ أنّه (عليه السلام)يوشّحها بلغة الفنّ إيقاعيّاً و صوريّاً ، . . . ممّا ندرجه ضمن :

3 . فنّ الحديث

الحديث هو توصيات قصيرة ـ كما كرّرنا ـ إلاّ أنّها تُوشّى بعنصر إيقاعي أو صوري أو كليهما ، و هو ما لحظناه في حقول متقدمة عند المعصومين (عليهم السلام) ، . . . كما نلحظه عند الإمام الباقر (عليه السلام) أيضاً ، و هذا من نحو :

« إنّما مثل الحاجة إلى من أصاب ماله حديثاً كمثل الدرهم في فم الأفعى أنت إليه محوج و أنت منها على خطر »([5]) .

« الحياء و الإيمان مقرونان في قرن ، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه »([6]) .

« لو أنّ قاتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) ائتمنني على أمانة لأديّتها إليه »([7]) .

« ينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه ، كما يختم على ذهبه و فضّته »([8]) .

« إيّاك و الكسل و الضجر ، فإنّهما مفتاحا كلّ شرّ »([9]) .

« أربع من كنوز البِرّ : كتمان الحاجة ، و كتمان الصدقة ، و كتمان الوجع ، و كتمان المصيبة »([10]) .

هذه الأحاديث يحفل كلّ واحد منها بعنصر صوري قد يكون تشبيهاً أو تمثيلا ، أو استعارة ، أو فرضيّة . . . الخ ، فالاستعارة من نحو : ( كنوز البِرّ ) ، و التمثيل من نحو : ( مفتاحا كلّ شرّ ) ، و الفرضيّة من نحو : ( لو أنّ . . . ) ، و التشبيه من نحو : ( كمثل الدرهم ) . . . بل إنّ الصورة الواحدة ـ كالتشبيه مثلا ـ تأخذ مستوياتها المتنوعة من التركيب ، فالتشبيه الآتي ، ينتسب إلى ما نسميه بـ ( التشبيه بالمَثَل ) ( مثل الحاجة : كمثل الدرهم ) ، و التشبيه الآخر ( ينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه : كما يختم على ذهبه ) ينتسب إلى التشبيه المألوف ، كما أنّ الأوّل منهما يجسّد التشبيه الاستمراري ، بينما يجسّد الآخر التشبيه المألوف أيضاً ، لأنّ التشبيه الأوّل يقدّم ( تعليلا ) مفصّلا لسبب مشابهة المعدم الّذي استغنى : للأفعى ، لأنّ الأخيرة تقترن الخطر في نفس الوقت الّذي يفتقر الشخص إلى الدرهم في فمها . . .

طبيعياً ، يظل لكل واحد من هذه المستويات : مسوّغها الفني ، فالتشبيه الأخير ـ على سبيل المثال ـ كان لابدّ من تقديمه بهذا النحو ( المعلّل ) ، نظراً لأنّ المعدم حينما يستغني ، يظل متحسّساً بالقصور و النقص و الهوان الّذي كان عليه سابقاً ، و حينما يستغني يعوّض عن الإحساس المذكور بسلوك هو : ( البُخل ) على صاحب الحاجة فيتلذّذ بما يشاهده من الفقر لدى صاحب الحاجة الّذي شابهه بالأمس في سمة الفقر . . . و هكذا سائر التشبيهات أو الصور الّتي صيغت وَفق سياقات يتطلبها الموقف ، على نحو ما لحظناه ، في التشبيه الّذي تقدّم الحديث عنه .

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] ـ المجالس السنيّة: ج 2 ، ص 451 .

[2] ـ تحف العقول: ص 291 ، 300 .

[3] ـ نفس المصدر: ص 294 ، 295 .

[4] ـ نفس المصدر: ص 293 .

[5] ـ نفس المصدر: ص 303 .

[6] ـ نفس المصدر: ص 307 .

[7] ـ نفس المصدر: ص 308 ، 309 .

[8] ـ نفس المصدر: ص 308 .

[9] ـ نفس المصدر: ص 300 .

[10] ـ نفس المصدر: ص 305 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page