• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الجزء الأول سورة البقرة آیات 127الی134


وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسمَعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّك أَنت السمِيعُ الْعَلِيمُ(127)
اللغة
الرفع و الإعلاء و الإصعاد نظائر و نقيض الرفع الوضع و نقيض الإصعاد الإنزال يقال رفع يرفع رفعا و ارتفع الشيء نفسه و المرفوع من عدو الفرس دون الحضر و فوق الموضوع يقال ارفع من دابتك و الرفع نقيض الخفض في كل شيء و الرفعة نقيض الذلة و القواعد و الأساس و الأركان نظائر و واحد القواعد قاعدة و أصله في اللغة الثبوت و الاستقرار فمن ذلك القاعدة من الجبل و هي أصله و قاعدة البناء أساسه الذي بني عليه و امرأة قاعدة إذا أتت عليها سنون لم تتزوج و إذا لم تحمل المرأة أو النخلة قيل قد قعدت فهي قاعدة و جمعها قواعد و تأويله أنها قد ثبتت على ترك الحمل و إذا قعدت عن الحيض فهي قاعدة بغيرها لأنه لا فعل لها في قعودها عن الحيض و قعدت المرأة إذا أتت بأولاد لئام فهي قاعدة و قيل في أن واحدة النساء القواعد قاعد قولان ( أحدهما ) أنها من الصفات المختصة بالمؤنث نحو الطالق و الحائض فلم يحتج إلى علامة التأنيث ( و الآخر ) و هو الصحيح أن ذلك على معنى النسبة أي ذات قعود كما يقال نابل و دارع أي ذو نبل و ذو درع و لا يراد بذلك تثبيت الفعل .

الإعراب
قوله « من البيت » الجار و المجرور يتعلق بيرفع أو بمحذوف فيكون في
مجمع البيان ج : 1 ص : 389
محل النصب على الحال و ذو الحال القواعد و موضع الجملة من قوله « ربنا تقبل منا » نصب بقول محذوف كأنه قال يقولان ربنا تقبل منا و اتصل بما قبله لأنه من تمام الحال لأن يقولان في موضع الحال .

المعنى
ثم بين سبحانه كيف بنى إبراهيم البيت فقال « و إذ يرفع » و تقديره و اذكر إذ يرفع « إبراهيم القواعد من البيت » أي أصول البيت التي كانت قبل ذلك عن ابن عباس و عطاء قالا قد كان آدم (عليه السلام) بناه ثم عفا أثره فجدده إبراهيم (عليه السلام) و هذا هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) و قال مجاهد بل أنشأه إبراهيم (عليه السلام) بأمر الله عز و جل و كان الحسن يقول أول من حج البيت إبراهيم و في روايات أصحابنا أن أول من حج البيت آدم (عليه السلام) و ذلك يدل على أنه كان قبل إبراهيم و روي عن الباقر أنه قال أن الله تعالى وضع تحت العرش أربع أساطين و سماه الضراح و هو البيت المعمور و قال للملائكة طوفوا به ثم بعث ملائكة فقال ابنوا في الأرض بيتا بمثال و قدره و أمر من في الأرض أن يطوفوا بالبيت و في كتاب العياشي بإسناده عن الصادق قال أن الله أنزل الحجر الأسود من الجنة لآدم و كان البيت درة بيضاء فرفعه الله تعالى إلى السماء و بقي أساسه فهو حيال هذا البيت و قال يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبدا فأمر الله سبحانه إبراهيم و إسماعيل أن يبنيا البيت على القواعد و عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن أول شيء نزل من السماء إلى الأرض لهو البيت الذي بمكة أنزله الله ياقوتة حمراء ففسق قوم نوح في الأرض فرفعه و قوله « و إسماعيل » أي يرفع إبراهيم و إسماعيل أساس الكعبة يقولان ربنا تقبل منا و في حرف عبد الله بن مسعود و يقولان ربنا تقبل منا و مثله قوله سبحانه و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم أي يقولون سلام عليكم و الملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم أي يقولون و قال بعضهم تقديره يقول ربنا برده إلى إبراهيم (عليه السلام) قال لأن إبراهيم وحده رفع القواعد من البيت و كان إسماعيل صغيرا في وقت رفعها و هو شاذ غير مقبول لشذوذه فإن الصحيح أن إبراهيم و إسماعيل كانا يبنيان الكعبة جميعا و قيل كان إبراهيم يبني و إسماعيل يناوله الحجر فوصفا بأنهما رفعا البيت عن ابن عباس و في قوله « ربنا تقبل منا » دليل على أنهما بنيا الكعبة مسجدا لا مسكنا لأنهما التمسا الثواب عليه و الثواب إنما يطلب على الطاعة و معنى « تقبل منا » أثبنا على عمله و هو مشبه بقبول الهدية فإن الملك إذا قبل الهدية من إنسان أثابه على ذلك و قوله « إنك أنت السميع العليم » أي أنت السميع لدعائنا العليم بنا و بما يصلحنا و روي عن الباقر أن إسماعيل أول من شق
مجمع البيان ج : 1 ص : 390
لسانه بالعربية و كان أبوه يقول له و هما يبنيان البيت يا إسماعيل هات ابن أي أعطني حجرا فيقول له إسماعيل بالعربية يا أبة هاك حجرا فإبراهيم يبني و إسماعيل يناوله الحجارة و في هذه الآية دلالة على أن الدعاء عند الفراغ من العبادة مرغب فيه مندوب إليه كما فعله إبراهيم و إسماعيل (عليهماالسلام) .

] قصة مهاجرة إسماعيل و هاجر [
روى علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن النضر بن سويد عن هشام عن الصادق قال إن إبراهيم كان نازلا في بادية الشام فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا لأنه لم يكن له منها ولد فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر و تغمه فشكا ذلك إبراهيم إلى الله عز و جل فأوحى الله إليه إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج إن تركته استمتعت به و إن رمت أن تقيمه كسرته و قد قال القائل في ذلك :
هي الضلع العوجاء لست تقيمها
ألا إن تقويم الضلوع انكسارها ثم أمره أن يخرج إسماعيل و أمه عنها فقال أي رب إلى أي مكان قال إلى حرمي و أمني و أول بقعة خلقتها من أرضي و هي مكة و أنزل عليه جبرائيل بالبراق فحمل هاجر و إسماعيل و إبراهيم فكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر و نخل و زرع إلا قال يا جبرائيل إلى هاهنا إلى هاهنا فيقول جبرائيل لا امض لا امض حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت و قد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلت تحته فلما سرحهم إبراهيم و وضعهم و أراد الانصراف عنهم إلى سارة قالت له هاجر لم تدعنا في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس و لا ماء و لا زرع فقال إبراهيم ربي الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان ثم انصرف عنهم فلما بلغ كدى و هو جبل بذي طوى التفت إليهم إبراهيم فقال ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع إلى قوله لعلهم يشكرون ثم مضى و بقيت هاجر فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل فقامت هاجر في الوادي حتى صارت في موضع المسعى فنادت هل في الوادي من أنيس فغاب عنها إسماعيل فصعدت على الصفا و لمع لها السراب في الوادي و ظنت أنه ماء فنزلت في بطن الوادي و سعت فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل ثم لمع لها السراب في ناحية الصفا و هبطت إلى الوادي
مجمع البيان ج : 1 ص : 391
تطلب الماء فلما غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا فنظرت إلى إسماعيل حتى فعلت ذلك سبع مرات فلما كان في الشوط السابع و هي على المروة نظرت إلى إسماعيل و قد ظهر الماء من تحت رجليه فعدت حتى جمعت حوله رملا و أنه كان سائلا فزمته بما جعلت حوله فلذلك سميت زمزم و كانت جرهم نازلة بذي المجاز و عرفات فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير و الوحوش على الماء فنظرت جرهم إلى تعكف الطير على ذلك المكان فاتبعوها حتى نظروا إلى امرأة و صبي نزول في ذلك الموضع قد استظلوا بشجرة قد ظهر لهم الماء فقال لهم جرهم من أنت و ما شأنك و شأن هذا الصبي قالت أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) و هذا ابنه أمره الله أن ينزلنا هاهنا فقالوا لها أ تأذنين أن نكون بالقرب منكم فقالت حتى أسأل إبراهيم قال فزارهما إبراهيم يوم الثالث فقالت له هاجر يا خليل الله إن هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منا أ فتأذن لهم في ذلك فقال إبراهيم نعم فأذنت هاجر لجرهم فنزلوا بالقرب منهم و ضربوا خيامهم و أنست هاجر و إسماعيل بهم فلما زارهم إبراهيم في المرة الثانية و نظر إلى كثرة الناس حولهم سر بذلك سرورا شديدا فلما تحرك إسماعيل و كانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شاة و شاتين و كانت هاجر و إسماعيل يعيشان بها فلما بلغ مبلغ الرجال أمر الله تعالى إبراهيم أن يبني البيت فقال يا رب في أي بقعة قال في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاءت الحرم قال و لم تزل القبة التي أنزلها الله على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان في زمان نوح فلما غرقت الدنيا رفع الله تلك القبة و غرقت الدنيا و لم تغرق مكة فسمي البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق فلما أمر الله عز و جل إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه فبعث الله جبرائيل فخط له موضع البيت و أنزل عليه القواعد من الجنة و كان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج فلما مسته أيدي الكفار أسود قال فبنى إبراهيم البيت و نقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم و وضعه في موضعه الذي هو فيه و جعل له بابين بابا إلى المشرق و بابا إلى المغرب فالباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار ثم ألقى عليه الشيح و الإذخر و علقت هاجر على بابه كساء كان معها فكانوا يكونون تحته فلما بناه و فرغ حج إبراهيم و إسماعيل و نزل عليهما جبرائيل يوم التروية لثمان خلت من ذي الحجة فقال يا إبراهيم قم فارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى و عرفات ماء فسميت التروية لذلك ثم
مجمع البيان ج : 1 ص : 392
أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل ب آدم فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت رب اجعل هذا بلدا آمنا و ارزق أهله من الثمرات الآية .
رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسلِمَينِ لَك وَ مِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسلِمَةً لَّك وَ أَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَ تُب عَلَيْنَا إِنَّك أَنت التَّوَّاب الرَّحِيمُ(128)
القراءة
قرأ ابن كثير أرنا بإسكان الراء كل القرآن و وافقه ابن عامر و أبو بكر عن عاصم في السجدة ربنا أرنا الذين و قرأ أبو عمرو بالاختلاس لكسرة الراء من غير إشباع كل القرآن و الباقون بالكسر .

الحجة
الاختيار كسرة الراء لأنها كسرة الهمزة قد حولت إلى الراء لأن أصله أرانا فنقلت الكسرة إلى الراء و سقطت الهمزة و لأن في إسكان الراء بعد سقوط الهمزة إجحافا بالكلمة و إبطالا للدلالة على الهمزة و من سكنه فعلى وجه التشبيه بما يسكن في مثل كبد و فخذ و نحو قول الشاعر :
لو عصر منه ألبان و المسك انعصر ) و قال الآخر :
قالت سليمى اشتر لنا سويقا
و اشتر و عجل خادما لبيقا و أما الاختلاس فلطلب الخفة و بقاء الدلالة على حذف الهمزة .

اللغة
الإسلام هو الانقياد لأمر الله تعالى بالخضوع و الإقرار بجميع ما أوجب الله و هو و الإيمان واحد عندنا و عند المعتزلة و في الناس من قال بينهما فرق و يبطله قوله سبحانه إن الدين عند الله الإسلام و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و المناسك هاهنا المتعبدات قال الزجاج كل متعبد منسك و النسك في اللغة العبادة و رجل ناسك عابد و قد نسك نسكا و النسك الذبيحة يقال من فعل كذا فعليه نسك أي دم يهريقه و النسيكة الذبيحة و المنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك و المنسك أيضا هو النسك نفسه قال سبحانه و لكل أمة جعلنا منسكا و قال ابن دريد النسك أصله الذبائح كانت تذبح في الجاهلية و النسيكة شاة كانوا يذبحونها في المحرم في الإسلام ثم نسخ ذلك بالأضاحي قال الأعشى :
مجمع البيان ج : 1 ص : 393

و ذا النصب المنصوب لا تنسكنه
و لا تعبد الشيطان و الله فاعبدا قال أبو علي الفسوي المناسك جمع منسك و هو المصدر جمع لاختلاف ضروبه .

الإعراب
اللام في لك تعلق بمسلمين « و من ذريتنا » من فيه تتعلق بمحذوف تقديره و اجعل من ذريتنا و الجار و المجرور مفعول اجعل و أمة مفعول ثان لأجعل و أرنا يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن يكون منقولا من رأيت الذي هو بمعنى إدراك البصر نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين و التقدير حذف المضاف كأنه قال أرنا مواضع مناسكنا أي عرفناها لنقضي نسكنا فيها و ذلك نحو مواقيت الإحرام و الموقف بعرفات و موضع الطواف فهذا من رأيت الموضع و أريته إياه ( و الآخر ) أن يكون منقولا من نحو قولهم فلان يرى رأي الخوارج فيكون معناه علمنا مناسكنا و مثله قول الشاعر :
أريني جوادا مات هزلا لعلني
أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا أراد دليني و لم يرد رؤية العين .

المعنى
ثم ذكر تمام دعائهما (عليهماالسلام) فقال سبحانه : « ربنا و اجعلنا مسلمين لك » أي قال ربنا و اجعلنا مسلمين في مستقبل عمرنا كما جعلتنا مسلمين في ماضي عمرنا بأن توفقنا و تفعل بنا الألطاف التي تدعونا إلى الثبات على الإسلام و يجري ذلك مجرى أن يؤدب أحدنا ولده و يعرضه لذلك حتى صار أديبا فيجوز أن يقال جعل ولده أديبا و عكس ذلك إذا عرضه للبلاء و الفساد جاز أن يقال جعله ظالما فاسدا و قيل أن معنى مسلمين موحدين مخلصين لك لا نعبد إلا إياك و لا ندعو ربا سواك و قيل قائمين بجميع شرائع الإسلام مطيعين لك لأن الإسلام هو الطاعة و الانقياد و الخضوع و ترك الامتناع و قوله « و من ذريتنا أمة مسلمة لك » أي و اجعل من ذريتنا أي من أولادنا و من للتبعيض و إنما خصا بعضهم لأنه تعالى أعلم إبراهيم (عليه السلام) أن في ذريته من لا ينال عهده الظالمين لما يرتكبه من الظلم و قال السدي أراد بذلك العرب و الصحيح الأول أمة مسلمة لك أي جماعة موحدة منقادة لك يعني أمة محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) بدلالة قوله و ابعث فيهم رسولا منهم و روي عن الصادق أن المراد بالأمة بنو هاشم خاصة و قوله « و أرنا مناسكنا » أي عرفنا هذه المواضع التي تتعلق النسك بها لنفعله عندها و نقضي عباداتنا فيها على حد ما يقتضيه توفيقنا عليها قال قتادة فاراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت و السعي بين الصفا و المروة و الإفاضة من عرفات و من جمع و رمي الجمار حتى أكمل بها الدين و قال
مجمع البيان ج : 1 ص : 394
عطاء و مجاهد معنى مناسكنا مذابحنا و الأول أقوى و قوله « و تب علينا » فيه وجوه ( أحدها ) أنهما قالا هذه الكلمة على وجه التسبيح و التعبد و الانقطاع إلى الله سبحانه ليقتدي بهما الناس فيها و هذا هو الصحيح ( و ثانيها ) أنهما سألا التوبة على ظلمة ذريتهما ( و ثالثها ) أن معناه ارجع إلينا بالمغفرة و الرحمة و ليس فيه دلالة على جواز الصغيرة عليهم أو ارتكاب القبيح منهم لأن الدلائل القاهرة قد دلت على أن الأنبياء معصومون منزهون عن الكبائر و الصغائر و ليس هنا موضع بسط الكلام في ذلك « إنك أنت التواب » أي القابل للتوبة من عظائم الذنوب و قيل الكثير القبول للتوبة مرة بعد أخرى « الرحيم » بعباده المنعم عليهم بالنعم العظام و تكفير السيئات و الآثام و في هذه الآية دلالة على أنه يحسن الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة لأنهما كانا عالمين بأنهما لا يقارفان الذنوب و الآثام و لا يفارقان الدين و الإسلام .
رَبَّنَا وَ ابْعَث فِيهِمْ رَسولاً مِّنهُمْ يَتْلُوا عَلَيهِمْ ءَايَتِك وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَب وَ الحِْكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّك أَنت الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ(129)
اللغة
« العزيز القدير » الذي لا يغالب و قيل هو القادر الذي لا يمتنع عليه شيء أراد فعله و نقيض العز الذل و عز يعز عزة و عزا إذا صار عزيزا و عز يعز عزا إذا قهر و منه قولهم من عز بز أي من علب سلب و اعتز الشيء إذا صلب و هو من العزاز من الأرض و هو الطين الصلب الذي لا يبلغ أن يكون حجارة و عز الشيء إذا قل حتى لا يكاد يوجد و اعتز فلان بفلان إذا تشرف به و الحكيم معناه المدبر الذي يحكم الصنع و يحسن التدبير فعلى هذا يكون من صفات الفعل و يكون بمعنى العليم فيكون من صفات الذات .

الإعراب
ابعث جملة فعلية معطوفة على تب فيهم تتعلق بابعث و يجوز أن تتعلق بمحذوف تقديره رسولا كائنا فيهم فيكون في موضع نصب على الحال و يتلو منصوب الموضع بكونه صفة قوله رسولا أي تاليا و عليهم تتعلق بيتلو .

المعنى
الضمير في قوله « فيهم » يرجع إلى الأمة المسلمة التي سأل الله إبراهيم أن
مجمع البيان ج : 1 ص : 395
يجعلهم من ذريته و المعني به بقوله « ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم » هو نبينا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) لما روي عنه أنه قال أنا دعوة أبي إبراهيم و بشارة عيسى (عليه السلام) يعني قوله مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد و هو قول الحسن و قتادة و جماعة من العلماء و يدل على ذلك أنه دعا بذلك لذريته الذين يكونون بمكة و ما حولها على ما تضمنه الآية في قوله « ربنا و ابعث فيهم » أي في هذه الذرية « رسولا منهم » و لم يبعث الله من هذه صورته إلا محمدا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و قوله « يتلو عليهم آياتك » أي يقرأ عليهم آياتك التي نوحي بها إليه « و يعلمهم الكتاب » أي القرآن و هذا لا يعد من التكرار لأنه خص الأول بالتلاوة ليعلموا بذلك أنه معجز دال على صدقه و نبوته و خص الثاني بالتعليم ليعرفوا ما يتضمنه من التوحيد و أدلته و ما يشتمل عليه من أحكام شريعته و قوله « و الحكمة » قيل هي هاهنا السنة عن قتادة و قيل المعرفة بالدين و الفقه في التأويل عن مالك بن أنس و قيل العلم بالأحكام التي لا يدرك علمها إلا من قبل الرسل عن ابن زيد و قيل أنه صفة للكتاب كأنه وصفه بأنه كتاب و أنه حكمة و أنه آيات و قيل الحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوره الله به كما ينور البصر فيدرك المبصر و قيل هي مواعظ القرآن و حرامه و حلاله عن مقاتل و كل حسن و قوله « و يزكيهم » أي يجعلهم مطيعين مخلصين و الزكاء هو الطاعة و الإخلاص لله سبحانه عن ابن عباس و قيل معناه يطهرهم من الشرك و يخلصهم منه عن ابن جريج و قيل معناه يستدعيهم إلى فعل ما يزكون به من الإيمان و الصلاح عن الجبائي و قيل يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت عن الأصم و قوله « إنك أنت العزيز الحكيم » أي القوي في كمال قدرتك المنيع في جلال عظمتك المحكم لبدائع صنعتك و إنما ذكر هاتين الصفتين لاتصالهما بالدعاء فكأنه قال فزعنا إليك في دعائنا لأنك القادر على إجابتنا العالم بما في ضمائرنا و بما هو أصلح لنا مما لا يبلغه كنه علمنا و قصار بصائرنا و في هذه الآية دلالة على أن إبراهيم و إسماعيل (عليهماالسلام) دعوا لنبينا محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) بجميع شرائط النبوة لأن تحت التلاوة الأداء و تحت التعليم البيان و تحت الحكمة السنة و دعوا لأمته باللطف الذي لأجله تمسكوا بكتابه و شرعه فصاروا أزكياء و هذا لأن الدعاء صدر من إسماعيل (عليه السلام) فعلم بذلك أن النبي المدعو به من ولده لا من ولد إسحاق و لم يكن في ولد إسماعيل نبي غير نبينا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) سيد الأنبياء .
وَ مَن يَرْغَب عَن مِّلَّةِ إِبْرَهِيمَ إِلا مَن سفِهَ نَفْسهُ وَ لَقَدِ اصطفَيْنَهُ فى الدُّنْيَا وَ إِنَّهُ فى الاَخِرَةِ لَمِنَ الصلِحِينَ(130)

مجمع البيان ج : 1 ص : 396
اللغة
الرغبة المحبة لما فيه للنفس منفعة و رغبت فيه ضد رغبت عنه و الرغبة و المحبة و الإرادة نظائر و نقيض الرغبة الرهبة و نقيض المحبة البغضة و نقيض الإرادة الكراهة و تقول رغبت فيه رغبة و رغبا و رغبا و رغبي إذا ملت إليه و رغبت عنه إذا صددت عنه و رجل رغيب نهم شديد الأكل و فرس رغيب الشحوة أي كثير الأخذ بقوائمه من الأرض و موضع رغيب واسع و الرغيبة العطاء الكثير الذي يرغب في مثله و الاصطفاء و الاجتباء و الاختيار نظائر و الصفاء و النقاء و الخلوص نظائر و الصفو نقيض الكدر و صفوة كل شيء خالصة و صفي الإنسان أخوه الذي يصافيه المودة و ناقة صفي كثيرة اللبن و نخلة صفية كثيرة الحمل و الجمع الصفايا و اصطفينا على وزن افتعلنا من الصفوة و إنما قلبت التاء طاء لأنها أشبه بالصاد بالاستعلاء و الإطباق و هي من مخرج التاء فأتي بحرف وسط بين الحرفين .

الإعراب
« من يرغب » لفظة من للاستفهام و معناه الجحد فكأنه قال ما يرغب عن ملة إبراهيم و لا يزهد فيها إلا من سفه نفسه أي الذي سفه نفسه فمن الأولى على الاستفهام و الثانية بمعنى الذي و إلا حرف الاستثناء و يجوز أن يكون لنقض النفي و من اسم موصول و سفه نفسه صلته و الموصول و الصلة في محل النصب على الاستثناء أو في محل الرفع بكونه بدلا من الضمير الذي في يرغب و في انتصاب نفسه خلاف قال الأخفش معناه سفه نفسه و قال يونس أراها لغة قال الزجاج أراد أن فعل لغة في المبالغة كما أن فعل كذلك و يجوز على هذا القول سفهت زيدا بمعنى سفهت زيدا و قال أبو عبيدة معناه أهلك نفسه و أوبق نفسه فهذا كله وجه واحد و الوجه الثاني أن يكون على التفسير كقوله فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا و هو قول الفراء قال أن العرب توقع سفه على نفسه و هي معرفة و كذلك بطرت معيشتها و أنكر الزجاج هذا الوجه قال إن معنى التمييز لا يحتمل التعريف لأن التمييز إنما هو واحد يدل على جنس أو خلة تخلص من خلال فإذا عرفته صار مقصودا قصده و هذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين و الوجه الثالث أن يكون على التمييز و الإضافة على تقدير الانفصال كما تقول مررت برجل مثله أي مثل له و الوجه الرابع أن يكون على حذف الجار في معنى سفه في نفسه كقوله سبحانه و لا جناح عليكم أن تسترضعوا أولادكم أي لأولادكم فحذف حرف الجر من غير ظرف و مثله و لا تعزموا عقدة النكاح أي على عقدة النكاح و مثله قول الشاعر :
نغالي اللحم للأضياف نيا

بعدی
و نبذله إذا نضج القدور و المعنى نغالي باللحم قال الزجاج و هذا مذهب صحيح و الوجه الخامس ما اختاره
مجمع البيان ج : 1 ص : 397
الزجاج و هو أن سفه بمعنى جهل و هو موافق في المعنى لما قاله السراج في قوله بطرت معيشتها إن البطر مستقل للنعمة غير راض بها فعلى هذا يكون نفسه مفعولا به و أنه في الآخرة في تتعلق بمحذوف فهو منصوب الموضع على الحال و ذو الحال الضمير المستكن في قوله « من الصالحين » .

النزول
روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة و مهاجرا إلى الإسلام فقال لقد علمنا أن صفة محمد في التوراة فأسلم سلمة و أبي مهاجر أن يسلم فأنزل الله هذه الآية .

المعنى
لما بين سبحانه قصة إبراهيم و أن ملته ملة محمد عقبه بذكر الحدث على اتباعها فقال : « و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه » أي لا يترك دين إبراهيم و شريعته إلا من أهلك نفسه و أوبقها و قيل أضل نفسه عن الحسن و قيل جهل قدره لأن من جهل خالقه فهو جاهل بنفسه عن الأصم و قيل جهل نفسه بما فيها من الآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء عن أبي مسلم و قوله « و لقد اصطفيناه في الدنيا » أي اخترناه بالرسالة و اجتبيناه « و إنه في الآخرة لمن الصالحين » أي من الفائزين عن الزجاج و قيل معناه لمع الصالحين أي مع آبائه الأنبياء في الجنة عن ابن عباس و قيل إنما خص الآخرة بالذكر و إن كان في الدنيا كذلك لأن المعنى من الذين يستوجبون على الله سبحانه الكرامة و حسن الثواب فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا وصفه فيها بما ينبىء عن ذلك و في قوله سبحانه « و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه » دلالة على أن ملة إبراهيم هي ملة نبينا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد مع زيادات في ملة محمد فبين أن الذين يرغبون من الكفار عن ملة محمد التي هي ملة إبراهيم قد سفهوا أنفسهم و هذا معنى قول قتادة و الربيع و يدل عليه قوله ملة أبيكم إبراهيم .
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسلِمْ قَالَ أَسلَمْت لِرَب الْعَلَمِينَ(131)
الإعراب
قال فعل فارغ و له جار و مجرور و اللام تتعلق بقال و « قال له ربه » مجرور الموضع بإضافة إذ إليه و اللام في « لرب العالمين » تتعلق بأسلمت .

المعنى
هذا متصل بقوله و لقد اصطفيناه و موضع « إذ » نصب باصطفينا و تقديره و لقد اصطفيناه حين قال له ربه أسلم و اختلف في أنه متى قيل له ذلك فقال الحسن كان هذا
مجمع البيان ج : 1 ص : 398
حين أفلت الشمس و رأى إبراهيم تلك الآيات و الأدلة فاستدل بها على وحدانية الله سبحانه و قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض الآية و أنه أسلم حينئذ و هذا يدل على أنه كان ذلك قبل النبوة و أنه قال له ذلك إلهاما استدعاء منه إلى الإسلام فأسلم حينئذ لما وضح له طريق الاستدلال بما رأى من الآيات و لا يصح أن يوحي الله إليه قبل إسلامه بأنه نبي الله لأن النبوة حال إجلال و إعظام و لا يكون ذلك قبل الإسلام و قال ابن عباس إنما قال ذلك إبراهيم (عليه السلام) حين خرج من السرب و قيل إنما قال ذلك بعد النبوة و معنى « أسلم » استقم على الإسلام و اثبت على التوحيد كقوله سبحانه فاعلم أنه لا إله إلا الله و قيل إن معنى أسلم أخلص دينك بالتوحيد و قوله « أسلمت لرب العالمين » أي أخلصت الدين لله رب العالمين .
وَ وَصى بهَا إِبْرَهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوب يَبَنىَّ إِنَّ اللَّهَ اصطفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَ أَنتُم مُّسلِمُونَ(132)
القراءة
قرأ أهل المدينة و الشام و أوصى بهمزة بين واوين و تخفيف الصاد و قرأ الباقون « و وصى » مشددة الصاد .

الحجة
حجة من قرأ « وصى » قوله تعالى فلا يستطيعون توصية فتوصية مصدر وصى مثل قطع تقطعة و لا يكون منه تفعيل لأنك لو قلت في مصدر حييت تفعيل لكان يجتمع ثلاث ياءات فرفض ذلك و حجة من قرأ و أوصى بها إبراهيم قوله يوصيكم الله و من بعد وصية توصون بها أو دين .

اللغة
وصى و أوصى و أمر و عهد بمعنى و قد قالوا وصى البيت إذا اتصل بعضه ببعض فالوصية كان الموصي بالوصية وصل جل أمره بالموصى إليه .

الإعراب
يعقوب رفع لأنه عطف على إبراهيم و التقدير و وصى إبراهيم و يعقوب و هذا معنى قول ابن عباس و قتادة و قيل أنه على الاستئناف كأنه قال و وصى يعقوب أن يا بني إن الله اصطفى لكم الدين و الأول أظهر و الفرق بين التقديرين أن الأول لا إضمار فيه لأنه معطوف و الثاني فيه إضمار و الهاء في بها تعود إلى الملة و قد تقدم ذكرها و هو قول
مجمع البيان ج : 1 ص : 399
الزجاج و قيل إنها تعود إلى الكلمة التي هي أسلمت لرب العالمين و الألف و اللام في الدين للعهد دون الاستغراق لأنه أراد دين الإسلام و قوله « و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون » و إن كان على لفظ النهي لهم عن الموت فالنهي على الحقيقة عن ترك الإسلام لئلا يصادفهم الموت عليه و مثله من كلام العرب لا أرينك هاهنا فالنهي في اللفظ للمتكلم و إنما هو في الحقيقة للمخاطب فكأنه قال لا تتعرض لأن أراك بكونك هاهنا و قوله « و أنتم مسلمون » جملة في موضع الحال و تقديره لا تموتوا إلا مسلمين و ذو الحال الواو في تموتوا و معناه ليأتكم الموت و أنتم مسلمون .

المعنى
لما بين عز اسمه دعاء إبراهيم (عليه السلام) لذريته و حكم بالسفه على من رغب عن ملته ذكر اهتمامه بأمر الدين و عهده به إلى نبيه في وصيته فقال « و وصى بها » أي بالملة أو بالكلمة التي هي قوله أسلمت لرب العالمين و يؤيد هذا قوله تعالى و جعلها كلمة باقية في عقبه و قيل بكلمة الإخلاص و هي لا إله إلا الله « إبراهيم بنيه » إنما خص البنين لأن إشفاقه عليهم أكثر و هم بقبول وصيته أجدر و إلا فمن المعلوم أنه كان يدعو جميع الأنام إلى الإسلام « و يعقوب » و هو ابن إسحاق و إنما سمي يعقوب لأنه و عيصا كانا توأمين فتقدم عيص و خرج يعقوب على إثره أخذا بعقبه عن ابن عباس و المعنى و وصى يعقوب بنيه الاثني عشر و هم الأسباط « يا بني إن الله اصطفى لكم الدين » أي فقالا جميعا يا بني إن الله اختار لكم دين الإسلام « فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون » أي لا تتركوا الإسلام فيصادفكم الموت على تركه أو لا تتعرضوا للموت على ترك الإسلام بفعل الكفر و قال الزجاج معناه الزموا الإسلام فإذا أدرككم الموت صادفكم مسلمين و في هذه الآية دلالة على الترغيب في الوصية عند الموت و أنه ينبغي أن يوصي الإنسان من يلي أمرهم بتقوى الله و لزوم الدين و الطاعة .
أَمْ كُنتُمْ شهَدَاءَ إِذْ حَضرَ يَعْقُوب الْمَوْت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَك وَ إِلَهَ ءَابَائك إِبْرَهِيمَ وَ إِسمَعِيلَ وَ إِسحَقَ إِلَهاً وَحِداً وَ نحْنُ لَهُ مُسلِمُونَ(133)
اللغة
الشهداء جمع شهيد و الشاهد و الحاضر من النظائر تقول حضرت القوم
مجمع البيان ج : 1 ص : 400
أحضرهم حضورا إذا شهدتهم و الحضيرة الجماعة من الناس ما بين الخمسة إلى العشرة و أحضر الفرس إحضارا إذا عدا عدوا شديدا و حاضرت الرجل محاضرة إذا عدوت معه و حاضرته إذا جاثيته عند السلطان أو في خصومة و حضرة الرجل فناؤه و أصل الباب الحضور خلاف الغيبة .

الإعراب
أم هاهنا منقطعة و هي لا تجيء إلا و قد تقدمها كلام لأنها التي تكون بمعنى بل و همزة الاستفهام كأنه قيل بل أ كنتم شهداء و معنى أم هاهنا الجحد أي ما كنتم شهداء و إنما كان اللفظ على الاستفهام و المعنى على خلافه لأن إخراجه مخرج الاستفهام أبلغ في الكلام و أشد مظاهرة في الحجاج إذ يخرج الكلام مخرج التقرير بالحق فيلزم الحجة أو الإنكار له فتظهر الفضيحة و إذ الأولى ظرف من قوله « شهداء » و إذ الثانية بدل من إذ الأولى و قيل العامل في الثانية حضر و كلاهما جائز ما للاستفهام و هو منصوب الموضع لأنه مفعول تعبدون و « من بعدي » الجار و المجرور في محل النصب على الظرف و قوله « إلها واحدا » منصوب على أحد وجهين أن يكون حالا فكأنه قال نعبد إلهك في حال وحدانيته أو يكون بدلا من إلهك و تكون الفائدة فيه ذكر التوحيد و نحن له مسلمون جملة في موضع الحال و يجوز أن يكون على الاستئناف فلا يكون لها موضع من الإعراب و إبراهيم و إسماعيل و إسحاق في موضع جر على البدل من آبائك كما تقول مررت بالقوم أخيك و غلامك و صاحبك .

المعنى
خاطب سبحانه أهل الكتاب فقال : « أم كنتم شهداء » أي ما كنتم حضورا « إذ حضر يعقوب الموت » و ما كنتم حضورا « إذ قال يعقوب لبنيه ما تعبدون من بعدي » و معناه أنكم لم تحضروا ذلك فلا تدعوا على أنبيائي و رسلي الأباطيل بأن تنسبوهم إلى اليهودية و النصرانية فإني ما بعثتهم إلا بالحنيفية و ذلك أن اليهود قالوا أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فرد الله تعالى عليهم قولهم و إنما قال « ما تعبدون » و لم يقل من تعبدون لأن الناس كانوا يعبدون الأصنام فقال أي الأشياء تعبدون من بعدي « قالوا نعبد إلهك و إله آبائك إبراهيم و إسماعيل و إسحاق » و إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأنه كان أكبر منه و إسماعيل كان عم يعقوب و جعله أبا له لأن العرب تسمي العم أبا كما تسمي الجد أبا و ذلك لأنه يجب تعظيمهما كتعظيم الأب و لهذا قال النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) ردوا علي أبي يعني العباس عمه « إلها واحدا و نحن له مسلمون » أي مذعنون مقرون بالعبودية و قيل خاضعون منقادون مستسلمون لأمره و نهيه قولا و عقدا و قيل داخلون في
مجمع البيان ج : 1 ص : 401
الإسلام يدل عليه قوله إن الدين عند الله الإسلام .
تِلْك أُمَّةٌ قَدْ خَلَت لَهَا مَا كَسبَت وَ لَكُم مَّا كَسبْتُمْ وَ لا تُسئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ(134)
اللغة
الأمة على وجوه ( الأول ) الجماعة كما في الآية ( و الثاني ) القدوة و الإمام في قوله أن إبراهيم كان أمة قانتا ( و الثالث ) القامة في قول الأعشى :
و إن معاوية الأكرمين
حسان الوجوه طوال الأمم ( و الرابع ) الاستقامة في الدين و الدنيا قال النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسي ريبة
و هل يأثمن ذو أمة و هو طائع أي ذو ملة و دين ( و الخامس ) الحين في قوله و ادكر بعد أمة ( و السادس ) أهل الملة الواحدة في قولهم أمة موسى و أمة عيسى و أمة محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و أصل الباب القصد من أمه يؤمه أما إذا قصده و خلت أي مضت و أصله الانفراد يقال خلا الرجل بنفسه إذا انفرد و خلا المكان من أهله إذا انفرد منهم و الفرق بين الخلو و الفراغ أن الخلو إذا لم يكن مع الشيء غيره و قد يفرغ من الشيء و هو معه يقال فرغ من البناء و هو معه فإذا قيل خلا منه فليس معه و الكسب العمل الذي يجلب به نفع أو يدفع به ضرر عن النفس و كسب لأهله إذا اجتلب ذلك لهم بعلاج و مراس و لذلك لا يطلق الكسب في صفة الله .

الإعراب
قوله « لها ما كسبت » يحتمل أن يكون في موضع نصب على الحال فكأنه قيل ملزمة ما تستحقه بعملها و يجوز أن لا يكون لها موضع لأنها مستأنفة فلا تكون جزءا من الخبر الأول لكن تكون متصلة به في المعنى و إن لم تكن جزءا منه لأنهما خبران في المعنى عن شيء واحد فكأنه قيل الجماعة قد خلت و الجماعة لها ما كسبت عما كانوا يعملون ما اسم موصول و كانوا يعملون صلته و الموصول و الصلة في موضع الجر بعن و عن تتعلق بتسألون .

المعنى
« تلك أمة قد خلت » أي جماعة قد مضت يعني إبراهيم و أولاده « لها ما كسبت » أي ما عملت من طاعة أو معصية « و لكم » يا معشر اليهود و النصارى « ما كسبتم » أي ما عملتم من طاعة أو معصية « و لا تسئلون عما كانوا يعملون » أي لا يقال
مجمع البيان ج : 1 ص : 402
لكم لم عملوا كذا و كذا على جهة المطالبة لكم بما يلزمهم من أجل أعمالهم كما لا يقال لهم لم عملتم أنتم كذا و كذا و إنما يطالب كل إنسان بعمله دون عمل غيره كما قال سبحانه و لا تزر وازرة وزر أخرى و في الآية دلالة على بطلان قول المجبرة أن الأبناء مؤاخذون بذنوب الآباء و إن ذنوب المسلمين تحمل على الكفار لأن الله تعالى نفى ذلك .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page