• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الجزء الرابع سورة آل عمران آیات 187 الی 194


مجمع البيان ج : 2 ص : 904
وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظهُورِهِمْ وَ اشترَوْا بِهِ ثمَناً قَلِيلاً فَبِئْس مَا يَشترُونَ(187)
القراءة
قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم ليبيننه بالياء و لا يكتمونه بالياء أيضا و الباقون بالتاء فيهما .

الحجة
حجة من قرأ بالتاء قوله « و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم » و الاتفاق عليه و كذلك قوله « و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله » و قد تقدم القول في ذلك و حجة من قرأ بالياء أن الكلام حمل على الغيبة لأنهم غيب .

المعنى
ثم حكى سبحانه عنهم نقض الميثاق و العهود بعد حكايته عنهم التكذيب بالرسل فقال « و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » قيل أراد به اليهود خاصة و قيل أراد اليهود و النصارى و قيل أراد به كل من أوتي علما بشيء من الكتب « لتبيننه للناس » أي لتظهرنه للناس و الهاء عائدة إلى محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) في قول سعيد بن جبير و السدي لأن في كتابهم إن محمدا رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و إن الدين هو الإسلام و قيل الهاء عائدة إلى الكتاب فيدخل فيها بيان أمر النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) لأنه في الكتاب عن الحسن و قتادة « و لا تكتمونه » أي و لا تخفونه عند الحاجة « فنبذوه وراء ظهورهم » و معناه ضيعوه و تركوه وراء ظهورهم فلم يعلموا به و إن كانوا مقرين به عن ابن عباس و يقال لمن يطرح الشيء و لا يعبأ به رماه بظهره قال الفرزدق :
تميم بن قيس لا تكونن حاجتي
بظهر و لا يعبأ علي جوابها « و اشتروا به ثمنا قليلا » أي استبدلوا بعهد الله عليه و مخالفته و ميثاقه عوضا يسيرا من حطام الدنيا يعني ما حصلوه لأنفسهم من المأكلة و الرشا و الهدايا التي أخذوها من تحوتهم « فبئس ما يشترون » أي بئس الشيء ذلك إذ يستحقون به العذاب الأليم و إن كان نفعا عاجلا و دلت الآية على وجوب إظهار الحق و تحريم كتمانه فيدخل فيه بيان الدين و الأحكام و الفتاوى و الشهادات و غير ذلك من الأمور التي يختص بها العلماء و روى الثعلبي
مجمع البيان ج : 2 ص : 905
في تفسيره بإسناده عن الحسن بن عمارة قال أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فالفيتة على بابه فقلت إن رأيت أن تحدثني فقال أ و ما علمت أني تركت الحديث فقلت إما أن تحدثني و إما أن أحدثك فقال حدثني فقلت حدثني الحكم بن عيينة عن نجم الجزار قال سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال فحدثني أربعين حديثا .
لا تحْسبنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّ يحِبُّونَ أَن يحْمَدُوا بمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تحْسبَنهُم بِمَفَازَة مِّنَ الْعَذَابِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(188)
القراءة
قد ذكرنا اختلاف القراءة في « تحسبن » و « تحسبنهم » فيما قبل .

الحجة
قال أبو علي من قرأ لا يحسبن بالياء فلا يحسبنهم فالذين في موضع رفع بأنه فاعل يحسبن و لم يوقع يحسبن على شيء قال أبو الحسن لا يعجبني قراءة من قرأ الأولى بالياء لأنه لم يوقعه على شيء و يرى أنه لم يستحسن أن لا يعدي حسب لأنه قد جرى مجرى اليمين في نحو علم الله لأفعلن و لقد علمت لتأتين منيتي و ظنوا ما لهم من محيص فكما أن القسم لا يتكلم به حتى يعلق بالمقسم عليه فكذلك ظننت و علمت في هذا الباب و أيضا فقد جرى في كلامهم لغوا و ما جرى لغوا لا يكون في حكم الجمل المفيدة و من ثم جاء نحوه :
و ما خلت أبقي بيننا من مودة
عراض المذاكي المسنقات القلايصا و إنما هو و ما أبقي بيننا فالوجه في هذه القراءة أنه لم يعد حسبت إلى مفعوليه اللذين يقتضيهما لأن حسبت في قوله « فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب » لما جعل بدلا من الأول و عدي إلى مفعوليه استغني بهما عن تعدية الأول إليهما كما استغني في قوله :
بأي كتاب أو ب آية سنة
ترى حبهم عارا علي و تحسب
مجمع البيان ج : 2 ص : 906
بتعدية أحد الفعلين إلى المفعولين عن تعدية الآخر إليهما و الفاء زائدة فالتقدير لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا بمفازة من العذاب و أما قراءة فلا تحسبنهم بضم الباء فإن فعل الفاعل الذي هو يحسبن تعدى إلى ضميره و حذفت واو الضمير لدخول النون الثقيلة فإن قيل هلا لم تحذف الواو من تحسبون و أثبتها كما ثبتت في تمود بالثوب أ تحاجوني و نحو ذلك مما يثبت فيه التقاء الساكنين لما في الساكن الأول من زيادة المد التي تقوم مقام الحركة فالقول فيه أنه حذفت كما حذفت مع الخفيفة أ لا ترى أنك لو قلت لا تحسبن زيدا ذاهب لم يلزمك الحذف فأجرى الثقيلة مجرى الخفيفة في هذا و قوله « بمفازة من العذاب » في موضع المفعول الثاني و فيه ذكر للمفعول الأول و فعل الفاعل في هذا الباب يتعدى إلى ضمير نفسه نحو ظننتني أخاك لأن هذه الأفعال لما كانت تدخل على المبتدأ و الخبر أشبهت أن و أخواتها في دخولها على المبتدأ و الخبر كدخول هذه الأفعال عليهما و ذلك قولك ظننتني ذاهبا كما تقول إني ذاهب و مما يدل على ذلك قبح دخول النفس عليها لو قلت أظن نفسي تفعل كذا لم يحسن كما يحسن أظنني فاعلا فأما قراءة نافع و أبي جعفر و ابن عامر لا يحسبن بالياء « فلا تحسبنهم » بالتاء و فتح الياء فمثل قراءة ابن كثير و أبي عمرو إلا في قوله « فلا تحسبنهم » و المفعولان اللذان يقتضيهما الحسبان في قوله لا يحسبن الذين يفرحون محذوفا لدلالة ما ذكر من بعد عليهما و لا يجوز البدل هنا كما جاز هناك لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما و أما قراءة حمزة بالتاء فيهما فحذف المفعول الثاني الذي يقتضيه تحسبن لأن ما يجيء من بعد قوله « فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب » يدل عليه و يجوز أن يجعل تحسبنهم بدلا من تحسبن و الفاء زائدة كما في قوله ( فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي ) .

النزول
نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون بإجلال الناس لهم و نسبتهم إياهم إلى العلم عن ابن عباس و قيل نزلت في أهل النفاق لأنهم كانوا يجمعون على التخلف عن الجهاد مع رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فإذا رجعوا اعتذروا و أحبوا أن يقبل منهم العذر و يحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان عن أبي سعيد الخدري و زيد بن ثابت و قيل أتت يهود خيبر إلى النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فقالوا نحن نعرفك و نؤمن بك و ليس ذلك في قلوبهم فحمدهم المسلمون فنزلت فيهم الآية عن قتادة .

المعنى
ثم بين سبحانه خصلة أخرى ذميمة من خصال اليهود فقال « لا تحسبن
مجمع البيان ج : 2 ص : 907
الذين يفرحون بما أتوا » أي الفارحون الذين يفرحون بالنفاق « و يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا » أي بالإيمان و قيل هم اليهود الذين فرحوا بكتمان أمر النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و أحبوا أن يحمدوا بأنهم أئمة و ليسوا كذلك و قد عرفت المعنى في القراءة بالتاء و الياء في الحجة فلا معنى لإعادته و قال أبو القاسم البلخي أن اليهود قالوا نحن أبناء الله و أحباؤه و أهل الصلاة و الصوم و ليسوا أولياء الله و لا أحباءه و لا أهل الصلاة و الصوم و لكنهم أهل الشرك و النفاق و هو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و قيل معناه أنهم يحبون أن يحمدوا على إبطالهم أمر محمد و تكذيبهم به و الأقوى أن يكون المعني بالآية من أخبر الله عنهم أنه أخذ ميثاقهم في أن يبينوا أمر محمد و لا يكتموه و عليه أكثر أهل التأويل و قوله « فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب » أي لا تظننهم بمنجاة و بعد من النار « و لهم عذاب أليم » أي مؤلم موجع .
وَ للَّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(189)
المعنى
لما ذكر سبحانه في الآية المتقدمة من فرح بمعصية ركبها و أحب أن يحمد بما لم يفعله و أخبر أنه لا نجاة لهم من عذابه قال « و لله ملك السماوات و الأرض » أي هو مالك ما في السماوات و الأرض بمعنى أنه يملك تدبيرهما و تصرفهما على ما يشاء من جميع الوجوه ليس لغيره الاعتراض عليه فكيف يطمع و الحال هذه في الخلاص منه « و الله على كل شيء قدير » فيه تنبيه على أنه قادر على إهلاك من أراد إهلاكه و على الإنشاء و الإفناء كما يشاء .

مجمع البيان ج : 2 ص : 908
إِنَّ فى خَلْقِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ اخْتِلَفِ الَّيْلِ وَ النهَارِ لاَيَت لأُولى الأَلْبَبِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكرُونَ فى خَلْقِ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْت هَذَا بَطِلاً سبْحَنَك فَقِنَا عَذَاب النَّارِ(191) رَبَّنَا إِنَّك مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ مَا لِلظلِمِينَ مِنْ أَنصار(192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلايمَنِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ كفِّرْ عَنَّا سيِّئَاتِنَا وَ تَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ(193) رَبَّنَا وَ ءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلى رُسلِك وَ لا تخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّك لا تخْلِف المِْيعَادَ(194)
فضلها
روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) كان إذا قام من الليل استاك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول « إن في خلق السماوات و الأرض » إلى قوله « فقنا عذاب النار » و قد اشتهرت الرواية عن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أنه لما نزلت هذه الآيات قال ( ويل لمن لاكها بين فكيه و لم يتأمل ما فيها ) و ورد عن الأئمة من آل محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة و في الضجعة بعد ركعتي الفجر و روى محمد بن علي بن محبوب عن العباس بن معروف عن عبد الله بن المغيرة عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) و ذكر أن النبي قال كان يؤتي بطهور فيخمر عند رأسه و يوضع سواكه تحت فراشه ثم ينام ما شاء الله فإذا استيقظ جلس ثم قلب بصره إلى السماء و تلا الآيات من آل عمران « إن في خلق السماوات و الأرض » الآيات ثم يستن و يتطهر ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته ركوعه يركع حتى يقال متى يرفع رأسه و يسجد حتى يقال متى يرفع رأسه ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران و يعاب بصره في السماء ثم يستن و يتطهر و يقوم إلى المسجد فيصلي أربع ركعات كما ركع قبل ذلك ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران و يقلب بصره في السماء ثم يستن و يتطهر و يقوم إلى المسجد فيوتر و يصلي ركعتين ثم يخرج إلى الصلاة .

اللغة
اللب العقل سمي به لأنه خير ما في الإنسان و اللب من كل شيء خيره و خالصة سبحانك معناه تنزيها لك من أن تكون خلقتهما باطلا و براءة مما لا يليق بصفاتك قال الشاعر :
سبحانه ثم سبحانا يعود له
و قبلنا سبح الجودي و الحجر و الأبرار جمع بر و هو الذي بر الله بطاعته إياه حتى أرضاه و أصل البر الاتساع فالبر
مجمع البيان ج : 2 ص : 909
الواسع من الأرض خلاف البحر و البر صلة الرحم و البر العمل الصالح و البر الحنطة و أبر الرجل على أصحابه أي زاد عليهم .

الأعراب
« الذين يذكرون » في موضع جر صفة لأولي الألباب « قياما و قعودا » نصب على الحال و « على جنوبهم » أيضا في موضع نصب على الحال و لذلك عطف على قياما و قعودا أي و مضطجعين لأن الظرف يكون حالا للمعرفة كما يكون نعتا للنكرة لما فيه من معنى الاستقرار تقول مررت برجل على الحائط أي مستقر على الحائط و كذا مررت برجل في الدار و تقول أنا أصير إلى فلان ماشيا و على الفرس فيكون موضع على الفرس نصبا على الحال من الضمير في أصير و قوله « ما خلقت هذا باطلا » أي يقولون ما خلقت هذا الخلق و لذلك لم يقل هذه و لا هؤلاء و باطلا نصب على أنه المفعول الثاني و قيل تقديره بالباطل و للباطل ثم نزع الحرف فوصل الفعل خبر إن في قوله « إنك من تدخل النار فقد أخزيته » جملة مركبة من الشرط و الجزاء و الأصل فيهما جملتان كل واحدة منهما من فعل و فاعل لأن موضع من نصب بتدخل على أنه مفعول به و قوله « أن آمنوا » يحتمل أن يكون أن هذه هي المفسرة بمعنى أي و يحتمل أن يكون الناصبة للفعل لأنه يصلح في مثله دخول الباء نحو ينادي بأن آمنوا .

المعنى
لما بين سبحانه بأن له ملك السماوات و الأرض عقبه ببيان الدلالات على ذلك فقال « إن في خلق السماوات و الأرض » أي في إيجادهما بما فيهما من العجائب و البدائع « و اختلاف الليل و النهار » أي تعاقبهما و مجيء كل واحد منهما خلف الآخر « لآيات » أي دلالات على توحيد الله و صفاته العلي « لأولي الألباب » أي لذوي البصائر و العقول و وجه الدلالة في خلق السماوات و الأرض أن وجودهما متضمن بأعراض حادثة و ما لا ينفك عن الحادث فهو حادث مثله و المحدث لا بد له من محدث يحدثه و موجد يوجده فدل وجودهما و حدوثهما على أن لهما محدثا قادرا و دل إبداعهما بما فيهما من البدائع و الأمور الجارية على غاية الانتظام و الاتساق على أن مبدعهما عالم لأن الفعل المحكم المنتظم لا يصح إلا من عالم كما أن الإيجاد لا يصح إلا من قادر و دل ذلك أيضا على أن صانعهما قديم لم يزل لأنه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث فيؤدي إلى التسلسل و وجه الدلالة في تعاقب الليل و النهار أن في ترادفهما على مقدار معلوم لا يزيدان عليه و لا ينقصان منه و نقصان كل واحد منهما عن الآخر في حال و زيادته عليه في حال و ازدياد أحدهما بقدر نقصان الآخر دلالة ظاهرة على أن لهما صانعا قادرا حكيما لا يدركه عجز و لا
مجمع البيان ج : 2 ص : 910
يلحقه سهو ثم وصف سبحانه أولي الألباب فقال « الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم » أي هؤلاء الذين يستدلون على توحيد الله بخلقه السماوات و الأرض هم الذين يذكرون الله قائمين و قاعدين و مضطجعين أي في سائر الأحوال لأن أحوال المكلفين لا تخلو من هذه الأحوال الثلاثة و قد أمروا بذكر الله تعالى في جميعها و قيل معناه يصلون لله على قدر إمكانهم في صحتهم و سقمهم فالصحيح يصلي قائما و السقيم يصلي جالسا و على جنبه أي مضطجعا فسمي الصلاة ذكرا رواه علي بن إبراهيم في تفسيره و لا تنافي بين التفسيرين لأنه غير ممتنع وصفهم بالذكر في هذه الأحوال و هم في الصلاة و هو قول ابن جريج و قتادة « و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض » أي و من صفة أولي الألباب أن يتفكروا في خلق السماوات و الأرض و يتدبروا في ذلك ليستدلوا به على وحدانية الله تعالى و كمال قدرته و علمه و حكمته ثم يقولون « ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك » أي ما خلقت هذا الخلق عبثا و قيل بالباطل و للباطل بل خلقته لغرض صحيح و حكمة و مصلحة ليكون دليلا على وحدانيتك و حجة على كمال حكمتك ثم ينزهونه عن كل ما لا يليق بصفاته أو يلحق نقصا بذاته فيقولون « سبحانك » أي تنزيها لك عما لا يجوز عليك فلم تخلقهما عبثا و لا لعبا بل تعريضا للثواب و الأمن من العقاب « فقنا عذاب النار » بلطفك الذي يتمسك معه بطاعتك و في هذه الآية دلالة على أن الكفر و القبائح و الضلال ليست خلقا لله لأن هذه الأشياء كلها باطلة بلا خلاف و قد نفى الله تعالى ذلك بحكايته عن أولي الألباب الذين رضي أقوالهم بأنه لا باطل فيما خلقه فيجب بذاك القطع على أن القبائح كلها غير مضافة إليه و منفية عنه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ثم حكى عن أولي الألباب الذين وصفهم بأنهم أيضا يقولون « ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته » قيل في وجوه ( أحدها ) أن معناه فضحته و أهنته فيكون منقولا من الخزي و نظيره قوله « و لا تخزون في ضيفي » ( و ثانيها ) قول المفضل أن معناه أهلكته و أنشد :
أخزى الإله من الصليب إلهه
و اللابسين ملابس الرهبان ( و ثالثها ) أن معناه أحللته محلا و وقفته موقفا يستحيا منه فيكون منقولا من الخزاية التي معناها الاستحياء و قال ذو الرمة :
خزاية أدركته بعد جولته
من جانب الدف مخلوطا به الغضب و اختلف أهل التأويل في المعنى بهذه الآية فروي عن أنس بن مالك و سعيد بن المسيب و قتادة و ابن جريج أن الإخزاء يكون بالتابيد في النار و هي خاصة بمن لا يخرج
مجمع البيان ج : 2 ص : 911
منها و قال جابر بن عبد الله أن الخزي يكون بالدخول فيها و روى عنه عمرو بن دينار و عطاء أنه قال و ما أخزاه حين أحرقه بالنار و إن دون ذا لخزيا و هذا هو الأقوى لأن الخزي إنما هو هتك المخزي و فضيحته و من عاقبه الله على ذنوبه فقد فضحه و هذا غير مناف لما نذهب إليه من جواز العفو عن المذنبين لأن على قول من قال أن الخزي هو الخلود في النار فمن عفا الله عنه لا يكون أخزاه إن أدخله النار ثم أخرجه منها بعد استيفاء العقاب و على قول من أثبت الخزي بنفس الدخول فإنه و إن كان خزيا فليس كمثل خزي الكفار و يجوز حمل قوله « يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه » على كلا الوجهين و على قول من جعله من الخزاية التي هي الاستحياء فيكون إخزاء المؤمنين محمولة على الاستحياء و إخزاء الكافرين على الإهانة و الخلود في النار و قوله « و ما للظالمين من أنصار » أي ليس لهم من يدفع عنهم عذاب الله على وجه المغالبة و القهر لأن الناصر هو الذي يدفع عن المنصور على وجه المغالبة و لا ينافي ذلك ما صح من شفاعة النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و الأولياء لأهل الكبائر لأن الشفاعة على سبيل المسألة و الخضوع و التضرع إلى الله و ليست من النصرة في شيء و صح عن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أنه قال ليصيبن أقواما شفع بذنوب أصابوها ثم يخرجون فيسميهم أهل الجنة الجهنميين رواه البخاري بإسناده في الصحيح عن أنس بن مالك و فيما رواه أبو سعيد الخدري عنه (عليه السلام) قال فيخرجون قد امتحشوا و عادوا حمما قال فيلقون في نهر يقال له نهر الحياة قال فينبتون فيه كما تنبت الحبة في جميل السيل و رواه البخاري و مسلم أيضا في الصحيح و ما روي في مثل ذلك من الأخبار لا يحصى و هذا كما تراه صريح في وقوع العفو عن مرتكبي الكبائر « ربنا إننا سمعنا مناديا » قيل المنادي محمد عن ابن عباس و ابن مسعود و ابن جريج و اختاره الجبائي و قيل أنه القرآن عن محمد بن كعب القرظي و قتادة و اختاره الطبري قال لأنه ليس يسمع كل أحد قول النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و لا يراه و القرآن سمعه من رآه و لم يره كما قال مخبرا عن الجن إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد و لمن نصر القول الأول أن يقول من بلغه قول النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و دعوته جاز أن يقول سمعنا مناديا و إن كان فيه ضرب من التجوز و معنى قوله « سمعنا مناديا » نداء مناد لأن المنادي لا يسمع و قوله « ينادي للإيمان » معناه إلى الإيمان كقوله « الحمد لله الذي هدانا لهذا » و معناه إلى هذا و كقول الراجز :
أوحى لها القرار فاستقرت
و شدها بالراسيات الثبت و مثله قوله « بأن ربك أوحى لها » فالمعنى ربنا إننا سمعنا داعيا يدعو إلى الإيمان
مجمع البيان ج : 2 ص : 912
و التصديق بك و الإقرار بوحدانيتك و اتباع رسولك و اتباع أمره و نهيه و قوله « أن آمنوا بربكم » معناه بأن آمنوا بربكم فحذف الباء و قيل معناه قال لنا آمنوا بربكم « ف آمنا » أي فصدقنا الداعي فيما دعا إليه من التوحيد و الدين و أجبناه « فاغفر لنا ذنوبنا » معناه استرها علينا و لا تفضحنا بها يوم القيامة على رءوس الأشهاد بعقوبتك « و كفر عنا سيئاتنا » معناه امحها بفضلك و رحمتك إيانا « و توفنا مع الأبرار » معناه و اقبضنا إليك في جملة الأبرار و احشرنا معهم فإن قيل ما معنى قوله « و كفر عنا سيئاتنا » و قد أغنى عنه قوله « فاغفر لنا » فالجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) إن معناه اغفر لنا ذنوبنا ابتداء بلا توبة و كفر عنا إن تبنا و الثاني إن معناه اغفر لنا ذنوبنا بالتوبة و كفر عنا باجتناب الكبائر من السيئات لأن الغفران قد يكون ابتداء و من سبب و التكفير لا يكون إلا عند فعل من العبد و الأول أليق بمذهبنا « ربنا و آتنا ما وعدتنا على رسلك » هذه حكاية عمن تقدم وصفهم بأنهم يقولون أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك من الثواب « و لا تخزنا » أي لا تفضحنا أو لا تهلكنا « يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد » و هو كلام مستأنف بدلالة أنه كسر إن و المعنى أنك وعدت الجنة لمن آمن بك و أنت لا تخلف وعدك فإن قيل ما وجه المسألة في إنجاز الوعد و المعلوم أنه يفعله لا محالة فالجواب عنه من وجوه ( أحدها ) إن ذلك على وجه الانقطاع إلى الله و التضرع له و التعبد كما قال « و قل رب احكم بالحق » و اختاره علي بن عيسى و الجبائي ( و الثاني ) إن الكلام خرج مخرج المسألة و المراد الخبر أي توفنا مع الأبرار لتؤتينا ما وعدتنا به على رسلك و لا تخزنا يوم القيامة لأنهم علموا أن ما وعد الله به حق و لا بد أن ينجزه ( و الثالث ) معناه السؤال و الدعاء بأن يجعلهم ممن أتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله لا أنهم قد استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم و شهدوا ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم لأنه لو كان كذا لكانوا قد زكوا أنفسهم و شهدوا بأنهم استوجبوا كرامة الله و لا يليق ذلك بصفة أهل الفضل من المؤمنين ( و الرابع ) أنهم إنما سألوا ذلك على وجه الرغبة منهم إلى الله في أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر و إعلاء كلمة الحق على الباطل ليعجل ذلك لهم لأنه لا يجوز أن يكونوا مع ما وصفهم الله به غير واثقين و لا على غير يقين أن الله لا يخلف الميعاد فرغبوا إليه في تعجيل ذلك و لكنهم كانوا وعدوا النصر و لم يوقت لهم في ذلك وقت فرغبوا إليه في تعجيل ذلك لهم لما لهم في ذلك من السرور بالظفر و هو اختيار الطبري و قال الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي الذين رغبوا في تعجيل النصرة على أعدائهم و قالوا لا صبر لنا على أناتك و حلمك و قوي ذلك بما بعد هذه الآية
مجمع البيان ج : 2 ص : 913
من قوله « فاستجاب لهم ربهم » الآيات و إلى هذا أومأ أبو القاسم البلخي أيضا .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page